تحقيق: ناصر أبوعون

يقول الشَّيخُ القاضِي الأجَلّ عِيَسى بِنْ صَالِحٍ بِنْ عَامِرٍ الطَّائِيُّ: [(ذِكْرُ مَسِيْرِنَا إِلَى (جرزيز)، وَهُوَ اِسْمُ مَاءٍ يَخْرُجُ مِن شِعْبِ وادٍ أَسْفَلَ جَبَلِ ظَفَارِ، وَكَانَ سَابِقًا هَذَا الْمَاءُ (فَلَجًا) تُسْقَى بِهِ ظَفَارِ الْقَدِيْمَةِ، وَأَرْضُهُ بَاقِيَةٌ إِلَى الْيَوْمِ بِهَا آثَارُ الُعُمْرَانِ، وَكَذَلِكَ (سَاقِيَةُ) هَذَا الْفَلَجِ بَاقٍ أَثَرُهَا.

وَيُقَالُ إِنَّ (السَّيِّدَ مُحَمَد بِنْ عَقِيل) حَاكِمُ ظَفَارِ السَّابِقُ: كَانَ هَذَا الْفَلَجُ فِي أَيَّامِهِ عَامِرًا، وَلَمَّا كَانَتْ رَغْبَةُ السُّلْطَانِ تَيْمُورَ شَدِيْدَةً فِي تَعْمِيرِ هَذَا الْفَلَجِ قَصَدْنَا نَاظِرِينَ حَقِيْقَتَه، فَلَمَّا وَصَلْنَا مَوْضِعَ الْمَاءِ؛ وَجَدْنَاهُ مَاءً يَخْرُجُ مِنَ (غَارٍ)، وَفِي أَعْلَاهُ (عُيُوْنٌ)، كَانَتْ تَنْبُّعُ مَاءٍ فَنَضَبَتْ، و(الصَّارُوجُ) أَثَرُهُ عَلَيْهَا ظَاهِرٌ، فَرَأَيْنَا مِنَ الصَّعْبِ عَوْدُ ذَلِكَ الْمَاءِ إِلَى مَجْرَاهُ الْأَصْلِيِّ؛ لِأَنَّ السَّيْلَ قَدْ غَيَّرَ مَسْلَكَهُ الْأَصْلِيَّ؛ فَصَارَ الْمَاءُ نَازِلًا، وَالْأَرْضُ مُرْتَفِعَةٌ، قَدْ نَبَتَ الشَّجَرُ فِي مَجْرَاهُ، وَلَمْ تَبْقَ إِلَّا الْأّثَارُ وَالرُّسُوْمُ؛ فَرَأَى السُّلْطَانُ تَرْكَ خِدْمَتِهِ، وَصَرْفَ الْهِمَّةِ عَنْهُ. وَلَمَّا أَلْقَيْنَا عَصَا التَّرْحَالِ بِـ(ظَفَارِ) رَغَّبَ السُّلْطَانُ أَصْحَابَهُ فِي الزَّوَاجِ، فَرِغَبَ فِي ذَلِكَ أَبْنَاءُ عَمِّهِ (السَّيِّدِ مُحَمَّد بِنْ تُرْكي)، وَمَالَتْ أَنْفُسُهُمْ إِلَى ذَلِكَ نَظَرًا إِلَى طُوْلِ الْمُكْثِ، وَمَشَقَّةِ الْعُزُوْبَةِ؛ فَتَزَوَّجُوا مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ ظَفَارِ أَوْسَطِهِمْ نَسَبًا، وَتَزَوَّجَ السَّيِّدُ مَلكٌ أَخُ السُّلْطَانِ بِابْنَةِ (الشَّيْخِ حَمَد بنِ قطميم المَرْهُوْنِيّ الْكثَيْرِيَ)؛ وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ مَشَايِخِ ظَفَارِ وَأَعْيَانِهِمْ)].

جبال ظفار خزّانات للمياه العذبة

يقول الشَّيخُ القاضِي عِيَسى بِنْ صَالِحٍ الطَّائِيُّ: [(ذِكْرُ مَسِيْرِنَا إِلَى (جرزيز)، وَهُوَ اِسْمُ مَاءٍ يَخْرُجُ مِن شِعْبِ وادٍ أَسْفَلَ جِبَالِ ظَفَارِ، وَكَانَ سَابِقًا هَذَا الْمَاءُ (فَلَجًا) تُسْقَى بِهِ ظَفَارِ الْقَدِيْمَةِ، وَأَرْضُهُ بَاقِيَةٌ إِلَى الْيَوْمِ بِهَا آثَارُ الُعُمْرَانِ، وَكَذَلِكَ (سَاقِيَةُ) هَذَا الْفَلَجِ بَاقٍ أَثَرُهَا)].

قوله: [(مَسِيْرِنَا)]، مصدرٌ مِيميّ، أي: مَشْيُنَا وذِهَابُنا في رحلة تَفَقُّديّة. ودَلَّ على معناه بيت شعر منسوب إلى كُليب بن ربيعة التغلبيّ: {فَمَا يَجْرِي (مَسٍيْرُكُمُ) وَأَنْتُمُ/ كِلابُكُمُ عَلَيَّ يُعَسْعِسُونا (01) [(إِلَى (جرزيز)] مقصود الشيخ عيسى الطائيّ موضع عين جرزيز، والتي تبعد عن مركز ولاية صلالة مسافة 7 كيلومترات، وقد وصفها الطائيّ دقيقًا بقوله: (اِسْمُ مَاءٍ يَخْرُجُ مِن شِعْبِ وادٍ أَسْفَلَ جِبَالِ ظَفَارِ)، ومعنى(شِعْبِ) مَسِيْلُ الْمَاءِ، وجمعه (شِعَاب) و(شُعُوب). ودَلّ على معناه قول تأبّطَ شَرًّا الفَهْمِيّ: {وَ(شِعْبٍ) كَشَلِّ الثَّوْبِ، شَكْسٍ طَرِيْقُهُ/ مَجَامِعُ صُوْحَيْهِ نِطَافٌ مَحَاضِرُ(02)} [(أَسْفَلَ جِبَالِ ظَفَارِ)]، وهي سلسلة جبلية تمتد على شكل قوس واسع ولمسافة 290 كيلو مترا ابتداءً من (هضبة حضرموت) في اليمن غربا إلى التلال الساحلية في (الجازر) شرقًا، وهي هضبة انكسارية عريضة من الحجر الجيريّ، أحادية الميل حيث تنحدر الحافة الجنوبية التي تُمثِّل حافة الانكسار انحدارًا شديدًا باتجاه بحر العرب. أمّا الأجزاء الشماليّة من هذه الهضبة فإنها تميل ميلا طفيفًا باتجاه صحراء الرَّبْع الخالي. وتشكّل تكوينات (الدمام) و(الرّس) و(أم الضومة) الخزانات الجوفية الرئيسة لها، وتحتوي على احتياطيات كبيرة من المياه العذبة. وهي من أهم الخزانات الجوفية الإقليمية وأكثرها امتدادًا. وتعتبر جبال ظَفار منطقة تغذية رئيسية للمناطق التي تقع على جانبيها وذلك؛ لأنها تستقبل كميات كبيرة نسبيا من الأمطار ورذاذ السحب المنخفضة في فصل الصيف حيث تنشط الرياح الموسمية الجنوبية الغربية (03)

فلج جرزيز ساقي ظَفار القديمة

[(وَكَانَ سَابِقًا هَذَا الْمَاءُ (فَلَجًا) تُسْقَى بِهِ ظَفَارِ الْقَدِيْمَةِ)]، ويقصد الطائي بكلمة (فَلَجًا) (عين جرزيز)، ومعنى (الفلج) في اللغة (النهر الصغير)، وجمعه (أفلاج)، ودَلّ عليه قول امريء القيس بن حُجْر الكِنديّ: {بِعَيْنَيَّ ظُعْنُ لَمَّا تَحَمَّلُوا/ لَدَى جَانِبِ (الْأَفْلَاجِ) مِنْ جَنْبِ تَيْمَرَا(04)}. [(تُسْقَى بِهِ ظَفَارِ الْقَدِيْمَةِ)] أي، التي كانت تُسمّى (أوبار) قديمًا، وقد وصفها شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الحَمَوي (574 - 626 هـ) في كتابه (معجم البلدان) بأنها (أرض واسعة يبلغ عرضها نحو 300 فرسخ أي ما تساوي 40 ميلًا، وهي أرض خصبة للغاية، وغنية بثروتها المائية، وبأشجارها الكثيفة؛ بما في ذلك أشجار الفاكهة، وقد تَعَاظَمَ ثراء الناس فيها بسبب الخصوبة العالية للأرض). [(وَأَرْضُهُ بَاقِيَةٌ إِلَى الْيَوْمِ بِهَا آثَارُ الُعُمْرَانِ)] [(وَأَرْضُهُ بَاقِيَةٌ)] الهاء في كلمة (أَرْضُهُ) عائدة على (فلج جرزيز)، وبها (آثَارُ الُعُمْرَانِ)؛ أي الموضع العامر من الأرض، ودلّ على معناه ما جاء في حديث النبيّ (صلى الله عليه وسلم): {وَمَا (العُمْرَانُ) فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَخَرْدَلَةٍ فِي كَفِّ أَحَدِكُمْ)}(05)،[(وَكَذَلِكَ (سَاقِيَةُ) هَذَا الْفَلَجِ بَاقٍ أَثَرُهَا)]، و(السَّاقية) في هذا الموضِع من المخطوط لها معنيان؛ أمّا المعنى الأول هو (قناة صغيرة يجري فيها الماء لريّ الزرع وشرب الماشية، وهي فوق الجدول ودُون النهر. ودَلَّ على هذا المعنى الشاعر قول سلامة بن جندل التميميّ: {فَتَرَى مَذَانِبَ كُلِّ مَدْفَعِ تَلْعَةٍ/ عَجِلَتْ (سَوَاقِيْهَا) مِنَ الْإِتْآقِ(06). وأمّا المعنى الثاني لكلمة (السَّاقية)، فالمقصود منه آلة نزف الماء من الفلج، وهي (الدواليب الدائرية المصنوعة من الخشب ونحوه، تحركها الدواب، وتعلو محيطه دِلاْءٌ لرفع الماء من نهرٍ أو قناة يُتَّخذ لسقي الحقول والبساتين. ودَلَّ على هذا المعنى قول أبي حيان التوحيديّ: (ضَحِكٌ مِثْلَ صَرِيْرِ السَّاقِيَةِ)(07) وقوله: [(بَاقٍ أَثَرُهَا)]، أيْ: بقية ما يُرَى منه، وما لا يُرى، بعد أن تبقى فيه عُلْقَةٌ. و(الأثر) مفردٌ، وجمعه (آثَار/ أُثُور)، و(أَثَرُ الشيء): ودلّ على معناه قولٌ منسوبٌ إلى جَذيمة بن مالك بن فهم الأزديّ: (وَأَدْخَلَتْهُ عَلَيْهَا مِنْ لَيْلَتِهَا فَوَاقَعَهَا، وَاشْتَمَلَتْ عَلَى حَمْلٍ، وَأَصْبَحَ جَذِيْمَةُ فَرَأَى بِهِ (آثَارَ) الْخَلُوْقِ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ (الْآثَارُ) يَا عَدِيُّ؟)(08)

مغالطات المؤرخين حول حاكم ظفار

يقول الشَّيخُ القاضِي عِيَسى بِنْ صَالِحٍ الطَّائِيُّ: [(وَيُقَالُ إِنَّ (السَّيِّدَ مُحَمَد بِنْ عَقِيل) حَاكِمُ ظَفَارِ السَّابِقُ: كَانَ هَذَا الْفَلَجُ فِي أَيَّامِهِ عَامِرًا، وَلَمَّا كَانَتْ رَغْبَةُ السُّلْطَانِ تَيْمُورَ شَدِيْدَةً فِي تَعْمِيرِ هَذَا الْفَلَجِ قَصَدْنَا نَاظِرِينَ حَقِيْقَتَه)].

[(السَّيِّدَ مُحَمَد بِنْ عَقِيل) حَاكِمُ ظَفَارِ السَّابِقُ)] هو (محمد بن عقيل بن عبد الله بن عقيل بن عبد الله بن أبي بكر بن علي بن عقيل بن عبد الله بن أبي بكر بن علوي بن أحمد ابن الشيخ أبي بكر السكران بن عبد الرحمن السقاف. ولد بظفار، وبها مات مقتولا سنة (1238هـ)، قيل عنه في كتاب «الشجرة في الأنساب وسيرة آل بيت النبوّة»: (كان ذا ثروة عظيمة، وهمة عليَّة، تولّى جهة مرباط وظفار، وأقام فيها سنتين، يعزل ويولي، ثم قُتل ظلما، سنة 1238هـ‌)(09) (وكان للسيد محمد تجارة كبيرة، وكانت له مراكب تسير إلى سواحل إفريقيا الشرقية وجاوة والهند، وقد أَسَرَ مرةً مركبا هولنديا من مرسى بتاوي في قصة غريبة. والأغرب أنّ المؤرخ اليمنيّ صلاح البكري زعم أن السيد محمد بن عقيل حكم ظَفار لمدة عشرين سنة، ولم يذكر هذا غيره من المؤرخين) (10). ويقول(العُمري): في بداية القرن الثالث عشر الهجريّ استطاع أبوهيف محمد بن عقيل بن عبد الله السقاف أن يحكم ظَفار، ويُعرَف كذلك بـ(ابن البيض)، وكانت له علاقات واسعة مع العُثْمانيين، ومحمد علي باشا حاكم مصر، واستطاع أن يوطِّد صداقة قوية بينه وبين (السيد سعيد بن سلطان)؛ لكنّه على عداء مع الإنجليز والفرنسيين الذين لقّبوه بـ(القرصان). ويظهر أنه استطاع أن يحصل على (فرمان/ مرسوم) سلطانيّ من السلطان العثماني بتوليته أميرًا على ظَفار. ولقد مدّ السقاف نفوذه إلى مرباط، وفي سنة 1806م/ 1221 هـ قام ببناء قلعة في (مرباط)، وقد شاهد (مايلز) أنقاضها في زيارته لمرباط سنة 1884م، وعمل السقّاف على تحسين أوضاع الميناء والجمرك والأوقاف، وكان يتردد مع عسكره بين (مرباط) و(ظَفار) إلى أن اغْتيل سنة 1245هـ/ 1829م في (وادي نحيز). ومن المغالطات التاريخية ما ذكره (لوريمر) من أن سالم بن شوري اغتال السقّاف في (مرباط) سنة 1829م، وما يزال قبره إلى جوار مرباط! بل إن (مايلز) يذكر أنه شاهد قبره موجودًا داخل أنقاض القلعة التي بناها في (مرباط)! والثابت في الرواية المعلومة عند أهل ظفار أن السقاف قُتِل في (نحيز)، وقُبِرَ في مقبرة بن عفيف في صلالة. وربّما يكون الذي قُتِل في مرباط أحد رجال السقاف. ومن المغالطات التاريخية أيضًا الخاصة بهذه الفترة، ما أورده الشيخ سلطان بن محمد القاسمي في روايته الأدبية التي أسماها: (الشيخ الأبيض- الأمريكي عبد الله بن محمد بن عقيل بـ(التبنّي)! الذي قام بمهاجمة مرباط واستعان بـ(المهرة) انتقامًا لمقتل محمد بن عقيل على يد (أحمد مكيعات) شيخ القرا في مرباط في (وادي نحيز) (11)

رغبة السلطان في إعمار فلج جرزيز

[(كَانَ هَذَا الْفَلَجُ فِي أَيَّامِهِ عَامِرًا)] (فِي أَيَّامِهِ) أي: في أيام حُكم السَّيِّدَ مُحَمَد بِنْ عَقِيل لإقليم ظفار فيما بين (1806م -1829م)، (كَانَ فَلَجُ جرزيز عَامِرًا)، أي: (مجراه جارٍ سالِك طريقُه)، ودلّ على هذا المعنى الحديث النبويّ الشريف: (مَنْ سَلَّ سَخيمتَهُ عَلَى طَريقٍ[عَامِرٍ]مِنْ طَرِيْقِ الْمُسلمينَ فَعَليهِ لَعْنَةُ اللَّهِ) (12). [(وَلَمَّا كَانَتْ رَغْبَةُ السُّلْطَانِ تَيْمُورَ شَدِيْدَةً)]، الرغبة في الشيء: إرادته والإقبال عليه. ودَلَّ على معناها، قول الفِنْدِ الزَّمَانيّ الْبَكْرِيّ يفخر على خصومه في المسجد الحرام: {لَيْسَ بَيْتٌ (رَغْبَةُ) النَّاسِ مَعًا/ أَنْ يَزُورُوهُ كَبَيْتٍ لَا يُزَارُ (13)

لطيفة لغوية في كلمة (شديدة)

أما تعبير الشيخ عيسى الطائيّ واصفًا رغبة السلطان في إعمار فلج جرزيز بكلمة (شَدِيْدَةً)، وهي صفة مُشبّهة، على وزن (فعيل) وهي بمعنى (مفعول)، ومِمَّا يستوي فيه (المذكر والمؤنث). واختلف أهل اللغة إلى فريقين حول إلحاق تاء التأنيث بها؛ فقال أنصار الفصيح: إذا جاءت بعد موصوف استوجب حذف تاء التأنيث، فنقول: (رغبة شديد) بدون تاء التأنيث، ولكن أجاز أنصار الصحيح إلحاق التاء، وانتصر لهذا الرأي مجمعُ اللغة العربية المصريّ فاتخذ قرارًا يُجيز إلحاق تاء التأنيث بصيغة (فعيل) سواءً ذُكِر الموصوف أو لم يُذكر. فنقول: (رغبة شديدة) (14) ولهذا الرأي مال الشيخ عيسى الطائي فاستعملها على هذا النحو. وتُجمَع (شديدة) على ثلاثة وجوه هي: (شِدَاد) و(أشداء) و(شِدائد) مع اختلاف المعنى باختلاف السياق. وكلمة (شديدة) في هذا الموضع من مخطوطة الطائيّ جاءت بمعنى (القويّة الصُّلْبة)، ونجد التأكيد على هذا المعنى في قول عمرو بن قَمِيئة البكريّ: {هَدَاهُنَّ مُشْتَمِرًا لَاحِقًا/ (شَدِيْدَ) الْمَطَا، أَرْحَبِيًّا جُلَالَا (15)}.

وقوله: [(فِي تَعْمِيرِ هَذَا الْفَلَجِ)]، أي: جعله آهلا عامرًا بأسباب البقاء، ودَلَّ على معناه قول ابن الروميّ يمدح أحدهم: {لَا زِلْتَ أَفْضَلَ مَنْ يُطِيْعُ إِلَهَهُ/ وَيُطِيْعُهُ (التَّعْمِيْرُ) وَالتَّمْكِيْنُ(16)} [(قَصَدْنَا نَاظِرِينَ حَقِيْقَتَه)]، وفي قوله: (قَصَدْنَا)، توجّهنا إلى الفلج عمدًا، ودّلَّ على معناه قول مُعاذ بن صِرْم الخُزاعيّ: {قَصَدْتُ لِعَمْرٍو، بَعْدَ بَدْرٍ بِضَرْبَةٍ/ فَخَرَّ صَرِيْعًا مِثْلَ عَاتِرَةِ النُّسْكِ (17) وقوله: (نَاظِرِينَ)، أي مُبصرين ومُعَاينين حالة فلج جرزيز، وهي اسم فاعل، والجمع منها على أربعة وجوه: (نُظَّار)، و(نَوَاظِر)، و(نُظَّر)، و(نَظَر). ودَلَّ على معناها قول ثعلبة بن صُعَير المازنيّ: {وَلَرُبَّ وَاضِحَةِ الْجَبِيْنِ/ مِثْلَ الْمَهَاةِ تَرُوْقُ عَيْنَ (النَّاظِرِ) (18)}. وقوله: (حَقِيْقَتَه)، أي: حالته وماهيته. وحقيقة الشيء: لُبّه المَحض الخالص، ودَلَّ على معناها الحديث النبويّ: (لكُلِّ شيءٍ (حقيقةٌ) وما بلغَ عبدٌ حقيقةَ الإيمانِ حتَّى يَعلمَ أنَّ ما أصابَهُ لَم يكُن ليُخطِئَهُ وما أخطأهُ لَم يكُن ليُصيبَهُ) (19).

الوصف التفصيلي لفلج جرزيز

يقول الشَّيخُ القاضِي عِيَسى بِنْ صَالِحٍ الطَّائِيُّ: [(فَلَمَّا وَصَلْنَا مَوْضِعَ الْمَاءِ؛ وَجَدْنَاهُ مَاءً يَخْرُجُ مِنَ (غَارٍ)، وَفِي أَعْلَاهُ (عُيُوْنٌ)، كَانَتْ تَنْبُّعُ مَاءٍ فَنَضَبَتْ، و(الصَّارُوجُ) أَثَرُهُ عَلَيْهَا ظَاهِرٌ، فَرَأَيْنَا مِنَ الصَّعْبِ عَوْدُ ذَلِكَ الْمَاءِ إِلَى مَجْرَاهُ الْأَصْلِيِّ؛ لِأَنَّ السَّيْلَ قَدْ غَيَّرَ مَسْلَكَهُ الْأَصْلِيَّ؛ فَصَارَ الْمَاءُ نَازِلًا، وَالْأَرْضُ مُرْتَفِعَةٌ، قَدْ نَبَتَ الشَّجَرُ فِي مَجْرَاهُ، وَلَمْ تَبْقَ إِلَّا الْأّثَارُ وَالرُّسُوْمُ؛ فَرَأَى السُّلْطَانُ تَرْكَ خِدْمَتِهِ، وَصَرْفَ الْهِمَّةِ عَنْهُ)].

في قوله: [(وَجَدْنَاهُ مَاءً يَخْرُجُ مِنَ (غَارٍ)]، معنى الغار: التجويف في التُّراب، أو الجبل. وجمعُهُ يكون على وجهين: (غِيران) و(أَغْوَار). ودَلَّ على معناه قول مُرَّة بن خُليف الفهميّ يرثي تأبَّط شرًّا: {إِنَّ الْعَزِيْمَةَ وَالْعَزَّاءَ قَدْ ثَوِيَا/ أَكْفَانَ مَيْتٍ، غَدَا فِي (غَارِ) رُخْمَانِ (20)}. وقوله: [(وَفِي أَعْلَاهُ (عُيُوْنٌ)]، ومعنى (العيون) في هذا السياق من المخطوطة (ينابيع الماء)، ومفردها: (عَين) وتُجمَع على ثلاثة وجوه: (عُيُون، أَعْيَان، أَعْيُن)، ودلَّ على معناها هنا قول امريء القيس بن حُجْر الكنديّ: {تَيَمَّمَتِ (الْعَيْنَ) الَّتِي عِنْدَ ضَارِجِ/ يَفِيءُ عَلَيْهَا الظِّلُّ، عَرْمَضُهَا طَامِي (21)}. وقوله: [(كَانَتْ تَنْبُّعُ مَاءً فَنَضَبَتْ)]. فكلمة (تَنْبُّعُ) مصدر. ودَلَّ على معناه قول الخليل ابن أحمد الفراهيديّ: (التَّعَيُّطُ: (تَنْبُّعُ) الشيءِ من حَجَرٍ أو عُوْدٍ يخرج منه شِبْه ماء يَسيلُ) (22) (فَنَضَبَتْ)، فعل لازم، ونَضَبَ الماءُ ونحوُه: غار وانحسر. ودَلَّ على معناه قول علي بن أبي طالب: (أُرَوِّضَنَّ نَفْسِي رِيَاضَةً تَهَشُّ مَعَهَا إِلَى الْقُرْصِ إِذَا قَدَرَتْ عَلَيْهِ مَطْعُومًا، وَتَقْنَعُ بِالْمِلْحِ مَأْدُوْمًا، وَلَأَدَعَنَّ مُقْلَتِي كَعَيْنِ مَاءً (نَضَبَ) مَعِيْنُهَا، مُسْتَفْرِغَةً دُمُوْعُهَا) (23) و[(الصَّارُوجُ) أَثَرُهُ عَلَيْهَا ظَاهِرٌ)]، (الصَّارُوجُ) اسم فارسيٌّ مُعرّب (ساروج- čārūg)، وهو الحجر الجيريّ وأخلاطه مِمّا يُطْلَى وتُسَوَّى وتُمَلّس به الجُدُرُ ونحوها. ودَلَّ على معناه قول الخليل بن أحمد الفراهيدي: (الصَّارُوجُ: النُّوْرَةُ وَأَخْلَاطُهَا، تُصَهْرَجُ بِهَا الحِيَاضُ، وَالْحَمَّامَاتُ) (24) [(فَرَأَيْنَا مِنَ الصَّعْبِ عَوْدُ ذَلِكَ الْمَاءِ إِلَى مَجْرَاهُ الْأَصْلِيِّ)]. وقوله: (عَوْدُ الْمَاءِ)، (العَوْدُ) مصدر معناه: (الرُّجُوع)، ومن الخطأ قولنا (العودة) بإلحاق التاء. ودَلَّ عليه قول طرفة بن العبد البكريّ: {حُسَامٌ، إِذَا مَا قُمْتُ مُنْتَصِرًا بِهِ/ كَفَى(الْعَوْدَ) مِنْهُ الْبَدْءَ، لَيْسَ بِمُعْضَدِ (25). وقوله: [(مَجْرَاهُ)]، مصدرٌ ميميّ، بمعنى (جَرَيَانُهِ)، ودَلَّ على معناه قول قُسّ بنِ ساعدة الإياديّ: {جَرَى الْمَوْتُ مَجْرَى الَّلحْمِ وَالْعَظْمُ مِنْكُمَا/ كَأَنَّ الَّذِي يَسْقِي العُقارَ سَقَاكُمَا (26). [(فَصَارَ الْمَاءُ نَازِلًا، وَالْأَرْضُ مُرْتَفِعَةٌ)]. وقوله: (نَازِلًا) (هابطًا) من أعلى إلى أسفل. ودَلّ عل معناه قول النبيّ (صلى الله عليه وسلم): (وأنا أوْلى النَّاسِ بعيسى ابنِ مَريمَ، لِأنَّه لم يَكُنْ بَيني وبَينَه نَبيٌّ، وإنَّه(نازِلٌ)، فإذا رأَيتُموه فاعْرِفوه، فإنَّه رَجُلٌ مَربوعٌ إلى الحُمرةِ والبَياضِ) (27) [(قَدْ نَبَتَ الشَّجَرُ فِي مَجْرَاهُ، وَلَمْ تَبْقَ إِلَّا الْأَثَارُ وَالرُّسُوْمُ)]. (الْآثَارُ) جمعٌ ومفرده: (أَثَر) و(أَثَرُ الشيء) بقيته الدالة عليه. ونجد هذا المعنى في شعر مهلهل بن ربيعة التغلبيّ: {وَإِلَّا أَنْ تَبِيْدَ سَرَاةُ بَكْرٍ/ فَلَا يَبْقَى لَهَا أَبَدًا (أَثَارُ)(28)}. وَ(الرُّسُوْمُ)، و(الأَرْسَامُ)، و(الْأَرْسُم) كلّها جموعٌ مفردها: (رَسْم) ومعناه: (الأثر الملتصق بالأرض)، ودَلّ على معناه قول المهلهل بن ربيعة التغلبيّ: {يَسْتَبِيْنُ الْحَلِيمُ فِيْهَا (رُسُوْمًا)/ دَارِسَاتٍ كَصَنْعَةِ الْعُمَّالِ (29)}.

السلطان يصرف رأيه فلج جرزيز

[(فَرَأَى السُّلْطَانُ تَرْكَ خِدْمَتِهِ، وَصَرْفَ الْهِمَّةِ عَنْهُ)]. (رَأَى الرأي) أيْ: ما تَبَيَّنَه واعتقده بعد أنِ اطّلعَ على تقريرِ الشيخ عيسى الطائيّ، عن حالة فلج جرزيز، (فَرَأَى تَرْكَ خِدْمَتِهِ) أي: صرف النظر عن القيام بإصلاحه. ودَلَّ على معنى كلمة (خِدْمَتِهِ) الحديث النبويّ الشريف من رواية أم سلمة: {زَعَمَتْ أَنَّ فَاطِمَةَ جَاءَتْ إِلَى نَبِيّ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) تَشْتَكِي إِلَيْهِ (الْخِدْمَةَ)، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، واللهِ لَقَدْ مَجِلَتْ يَدَايَ مِنَ الرَّحَى، أَطْحَنُ مَرَّةً، وَأَعْجِنُ مَرَّةً...) (30) [(وَصَرْفَ الْهِمَّةِ عَنْهُ)] وقوله: (صَرْف) مصدر بمعنى (رَدَّ ودَفَعَ) هِمَّة تعمير فلج جرزيز وانصرف عنها. ودَلَّ على هذا المعنى قول الله تعالى في سورة الفرقان: {فَقَدْ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا ۚ وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} (الآية: 19 برواية حفص عن عاصم). و(الْهِمَّة) اسمٌ وجمعه (هِمَم) والمعنى: ما همَّ به السلطان تيمور من أمرِ تعمير فلج جرزيز ليُصلحه. ودَلَّ على هذا المعنى قول عنترة: {فَعَالِجْ جَسِيْمَاتِ الْأُمُوْرِ، وَلَا تَكُنْ/ هَبِيْتَ الْفُؤَادِ، (هِمّةً) لِلسَّوَائِدِ. (31)

السلطان يُرغِّب أصحابه في الزواج

يقول الشَّيخُ القاضِي عِيَسى بِنْ صَالِحٍ الطَّائِيُّ: [(وَلَمَّا أَلْقَيْنَا عَصَا التَّرْحَالِ بِـ(ظَفَارِ) رَغَّبَ السُّلْطَانُ أَصْحَابَهُ فِي الزَّوَاجِ، فَرِغَبَ فِي ذَلِكَ أَبْنَاءُ عَمِّهِ (السَّيِّدِ مُحَمَّد بِنْ تُرْكي)، وَمَالَتْ أَنْفُسُهُمْ إِلَى ذَلِكَ نَظَرًا إِلَى طُوْلِ الْمُكْثِ، وَمَشَقَّةِ الْعُزُوْبَةِ؛ فَتَزَوَّجُوا مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ ظَفَارِ أَوْسَطِهِمْ نَسَبًا، وَتَزَوَّجَ السَّيِّدُ مَلكٌ أَخُ السُّلْطَانِ بِابْنَةِ (الشَّيْخِ حَمَد بنِ قطميم المَرْهُوْنِيّ الْكثَيْرِيَ)؛ وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ مَشَايِخِ ظَفَارِ وَأَعْيَانِهِمْ)].

[(أَلْقَيْنَا عَصَا التَّرْحَالِ بِـ(ظَفَارِ)]، كناية عن ترك التنّقل والسفر والاستقرار. ونجد معناها في حديث (أخبَرَتْ فاطِمةُ بنتُ قيسٍ النَّبيَّ عنِ اثنَينِ تَقدَّما لِخِطْبَتِها، فقال لَها عنْ أَحدِهِما: إنَّه صُعْلوكٌ لا مالَ لَه، وَقال عَنِ الآخَرِ: إنَّه لا يَضَعُ عَصاه عَن عاتِقِه) ([[1]]). قال الماوردي، في (الحاوي الكبير) أَرَادَ الرسول (صلى الله عليه وسلم) بقوله: (لا يَضَعُ عَصاه عَن عاتِقِه) الإشارة إلى كَثْرَةَ أَسْفَارِهِ، لذا يُقَالُ لِمَنْ سَافَرَ: (قَدْ أَخَذَ عَصَاهُ)، ولمن أقام (قد ألقى عصاه). وفي هذا المعنى أنشد مُعَقِّر بن أوس البارِقِيّ؛ فقال: {(وَأَلقَتْ عَصَاها) وَاسْتقرَّت بِهَا النَّوى/ كَما قَرَّ عَيناً بالإِيابِ المُسافِرُ (33)}، وقوله: [(رَغَّبَ السُّلْطَانُ أَصْحَابَهُ فِي الزَّوَاجِ، فَرِغَبَ فِي ذَلِكَ أَبْنَاءُ عَمِّهِ (السَّيِّدِ مُحَمَّد بِنْ تُرْكي)، وَمَالَتْ أَنْفُسُهُمْ إِلَى ذَلِكَ نَظَرًا إِلَى طُوْلِ الْمُكْثِ، وَمَشَقَّةِ الْعُزُوْبَةِ)](رَغَّبَ أَصْحَابَهُ فِي الزَّوَاجِ). أي: جعل رِفاق رحلته يرغبون في الزواج. ودَلَّ على معنى (رَغَّبَ) قول سلمان الفارسيّ – رضي الله عنه وأرضاه- يصف أُسقفَ الشام: (ثُمَّ قَدِمْتُ الشَّامَ. قُلْتُ: مَنْ أَفْضَلُ أَهْلِ هَذَا الدِّينِ عِلْماً؟ قَالُوا: الْأَسْقُف فِي الْكَنِيَسةِ، فَجِئْتُه. فَقُلْتُ لَهُ: إِنَي قَدْ (رَغِبْتُ فِي هَذَا الدِّين)، فَدَخَلْتُ مَعَه، فَكَانَ رَجُلَ سُوْءٍ يَأْمُرُهُمْ بِالصَّدَقَةِ، وَ(يُرَغِّبهم فِيْها)، فَإِذَا جَمَعُوا إِلَيْهِ شَيْئاً مِنْهَا اِكْتَنَزَهُ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يُعْطِهِ الْمَسَاكِينَ، حَتَّى جَمَعَ سَبْعَ قِلَالٍ مِنْ ذَهَبٍ وَوَرِق)(34)،[(فَرِغَبَ فِي ذَلِكَ أَبْنَاءُ عَمِّهِ السَّيِّدِ مُحَمَّد بِنْ تُرْكي)] (أبناء السيد محمد بن تركي) يقصد السيد تركي بن سعيد الذي كان والياً على صحار منذ عام 1851م وحتى عام 1861م، ثم أصبح سلطاناً على عُمان في عام 1871م، وهو الابن الخامس للسلطان سعيد بن سلطان، ثم توفي في (22 رمضان 1305هـ - 3 يونيو 1888م)، مُعَقِّبًا ثلاثة رجال، هم: محمد وفيصل وفهد. وابنه الأكبر هو السيد محمد. [(وَمَالَتْ أَنْفُسُهُمْ إِلَى ذَلِكَ)]. و(مَالَتْ أَنْفُسُهُمْ) أي: أُوْلِعَتْ وأُغْرِيَتْ وحرصت على الزواج من بيوتات أهل ظفار. ومعناه نجده عند لسان الدين الخطيب في قوله: {إذا ما النّفسُ (مَالَتْ) نحْوَ حُسْنٍ/ فقَدْ خطَرْتَ علَى خطَرِ الوَلوعِ}. [(نَظَرًا إِلَى طُوْلِ الْمُكْثِ، وَمَشَقَّةِ الْعُزُوْبَةِ)]. وقوله: (نَظَرًا إِلَى) تعبير لُغويّ يفيد التعليل يلازمه حرف الجر (إلى)، ومن الخطأ إلحاقها بلام كقول أحدهم: نظرا لتطور الأوضاع. و(طُوْلِ الْمُكْثِ)، أي: طول الإقامة والاستقرار في ظفار مَدَّة لا يُعْرفُ متى انقضاؤها. ودلّ على هذا المعنى قول النُّعمان بن ثواب العَبديّ ينصح ابنه: (فَإِذَا شَهِدْتَ حَرْبًا، فَرَأَيْتَ نَارَهَا تَسْتَعِرُ، وَبَطَلَهَا يَخْطِرُ.. فَأَقْلِلِ (الْمُكْثَ) وَالْانْتِظَارَ، فَإِنَّ الْفِرَارَ غَيْرُ عَارٍ) (35)، و(مَشَقَّةِ الْعُزُوْبَةِ) العُزُوْبَة مصدر، ومعناه: تَرْكُ النِّكاح. ودلَّ على معناه قول عثمان بن مظعون الجُمحيّ القرشيّ يستأذن النبيّ (صلى الله عليه وسلم): (إِنِّي رَجُلٌ تَشْتَدُّ عَلَىَّ (الْعُزُوْبَةُ) فِي هَذِهِ الْمَغَازِي، فتأذنُ لي فأختصي. فقال: لا. ولكن عليك بالصوم) (36) [(فَتَزَوَّجُوا مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ ظَفَارِ أَوْسَطِهِمْ نَسَبًا)]، وقوله: (أَوْسَطِهِمْ نَسَبًا) اسم تفضيل أي: أشرفُهم نسبًا، وأكرمهم مَحَلًّا. ودَلَّ على معناه قول هاشم بن عبد مناف القرشيّ: (يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَنْتُمْ سَادَةُ الْعَرَبِ: أَحْسَنُهَا وُجُوْهًا، وَأَعْظَمُهَا أَحْلَامًا، وَ(أَوْسَطُهَا أَنْسَابًا)(37) [(وَتَزَوَّجَ السَّيِّدُ مَلكٌ أَخُ السُّلْطَانِ)] ملك بن فيصل بن تركي بن سعيد بن سلطان آل سعيد (1888م- 1913م)، ولد بقصر بيت العلم، وفي مطلع شبابه تولى سكرتارية رئاسة الوزراء، ومسؤولية البرق والهاتف في القصر السلطانيّ، وإدارة الجوازات، وكان المبعوث الخاص للسلطان تيمور في العديد من المهام الإقليمية والدولية، وتوفي سنة 1971م، عن عمر ناهز الثمانين عاما. بِابْنَةِ (الشَّيْخِ حَمَد بنِ قطميم المَرْهُوْنِيّ الْكثَيْرِيَ)؛ وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ مَشَايِخِ ظَفَارِ وَأَعْيَانِهِمْ)]. وكلمة: (الشَّيْخِ) مفردٌ، وجمعُه يأتي على ثمانية وجوه: (مَشَايِخ)، و(شيوخ)، و(أشياخ)، و(مشيخة)، و(شيخان)، و(أشايخ)، و(مشائخ)، و(أشيخة)، ومعناه: الرجل ذو المكانة من رئاسةٍ أو علمٍ أو غير ذلك. ودلَّ على هذا المعنى قول دويلة بن سعيد الهمدانيّ ذاكرًا ثأره لأبيه الذي كان ملكا: {إذَا أَنَا لَمْ أَثْأَرْ بـ(شَيخِي) منهم/ فَمَنْ ذَا الَّذِي تَرْجُو شِبَامُ لَهُ بَعْدِي (38)}. وقوله: (أَعْيَانهِمْ) أي: أشرافهم وسادتهم. ودلّ على معناه قول مارية بنت الدَّيان الحارثية: {قُلْ لِلْفَوَارِسِ لَا تَئِلْ (أَعْيَانُهُمْ)/ مِنْ شَرِّ مَا حَذَرُوا وَمَا لَمْ يُحْذَرِ (39)}.

المراجع والمصادر:

([01]) شعراء تغلب في الجاهلية وأخبارهم وأشعارهم، صِنْعَة: علي أبو زيد، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ط1، 2000م، 2/ 133

([02]) ديوان تأبّط شرًّا وأخباره، جمع وتحقيق وشرح: علي ذو الفقار شاكر، دار الغرب الإسلاميّ، بيروت، ط1، 1984م، ص: 94

([03]) الجغرافيا الطبيعية لسلطنة عمان، د. سالم بن مبارك الحتروشيّ، ط1، 2014م، جامعة السلطان قابوس، مجلس النشر العلمي، ص: 123-124

([04]) ديوان امريء القيس، تحقيق: محمد أبوالفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، ط5، 1990م، ص: 56

([05]) أخبار الزمان ومن أباده الحدثان وعجائب البلدان، والغامر بالماء والعمران، علي بن الحسين المسعوديّ (ت، 346هـ)، دار الأندلس، بيروت، 1996م، ص: 41

([06]) ديوان سلامة بن جندل، صِنْعة: محمد بن الحسن الأحول، تحقيق: فخر الدين قباوة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1987م، ص: 136

([07]) الرسالة البغدادية، أبو حيان التوحيديّ(ت، 414هـ)، تحقيق: عبود الشالجي، منشورات الجمل، كولونيا، 1997م، ص: 349

([08]) أمثال العرب، المُفَضَّل الضَّبيّ (ت، 178هـ)، قدَّم له وعلّق عليه: إحسان عباس، دار الرائد العربيّ، بيروت، ط2، 1983م، ص: 148

([09]) إدام القوت في ذكر بلدان حضر الموت، مج1، ص: 239

([10]) التاريخ السياسي، صلاح البكري، ٢ / ٢٠٧

([11]) المكانة التاريخية لولاية مرباط، سعيد بن خالد بن أحمد العمري، ندوة مرباط عبر التاريخ، مطبوعات المنتدى الأدبي، 2012م، ص: 129

([12]) الراوي: أبو هريرة، المحدث: ابن حجر العسقلاني، المصدر : إتحاف المهرة، الصفحة أو الرقم: 15/ 519

([13]) شعر الفند الزمانيّ، تحقيق: حاتم الضامن، مجلة المجمع العلمي العراقيّ، مج37، ج4، 1986م، ص: 16

([14]) معجم الصواب اللغوي، أحمد مختار عمر، 2003م، رقم: 7448

([15]) ديوان عمرو بن قميئة، تحقيق وشرح: حسن كامل الصيرفيّ، معهد المخطوطات العربية، مطابع دار الكاتب العربيّ، القاهرة 1965م، ص: 160-167

([16]) ديوان ابن الروميّ أبي الحسين بن العباس بن جريج، تحقيق: حسين نصّار، مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة، القاهرة، ط3، 2003م، 6/ 2520

([17]) الفاخر، المفضّل بن سلمة بن عاصم، تحقيق: عبد العليم الطحاويّ، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبيّ، 1380هـ، ص: 151

([18]) شعر بني تميم في العصر الجاهلي، جمع وتحقيق: عبد الحميد المعيني، منشورات نادي القصيم الأدبيّ، بريدة، 1982م

([19]) الراوي: أبو الدرداء، المحدِّث: الوادعي، المصدر: الصحيح المسندالصفحة أو الرقم : 1046، خلاصة حكم المحدِّث: حسن

([20]) كتاب الأغاني، أبو الفرج الأصفهاني (ت، 356هـ)، تحقيق: إحسان عباس وآخرين، دار صادر، بيروت، ط3، 2008م، 21/ 122

([21]) ديوان امريء القيس، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، ط5، 1990م، ص: 476

([22]) كتاب العين، الخليل بن أحمد الفراهيديّ، (ت، 175هـ)، تحقيق: مهدي المخزوميّ، وإبراهيم السامرائيّ، دار ومكتبة الهلال، القاهرة، د. ت 2/ 211

([23]) نهج البلاغة للإمام علي، جمعه: الشريف الرضي، وشرحه: الإمام محمد عبده، مؤسسة دار المعارف، بيروت، 1990م، 3/ 74

([24]) كتاب العين، د. ت 6/ 46

([25]) ديوان طرفة بن العبد، شرح: الأعلم الشنتمريّ، تحقيق: درية الخطيب ولطفي الصقال، إدارة الثقافة والفنون، البحرين، المؤسسة العربية، بيروت، ط2

([26]) كتاب الأغاني 15/ 166

([27]) الراوي: أبو هريرة، المحدث: شعيب الأرناؤوط، المصدر: تخريج المسند لشعيب، الصفحة أو الرقم: 9632، خلاصة حكم المحدث: صحيح

([28]) ديوان المهلهل بن ربيعة التغلبي، مرجع سابق، ص: 32

([29]) المرجع نفسه، ص: 70

([30]) مسند الإمام أحمد بن حنبل(ت، 241هـ)، حققه وخرّج أحاديثه: شعيب الأرنؤوط وآخرون، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 2001م، 44/ 175، رقم الحديث: 26551

([31]) شرح ديوان عنترة، الخطيب التبريزي(ت،502هـ)، قدَّمَ له ووضع فهارسه وهوامشه: مجيد طراد، دار الكاتب العربيّ، بيروت، ط1، 1992م، ص: 57

([32]) الراوي: فاطمة بنت قيس، المحدث: الألباني، المصدر: غاية المرام، الصفحة أو الرقم: 430، خلاصة حكم المحدث: صحيح

([33]) منتهى الطلب من أشعار العرب، جمع: ميمون البغداديّ،(ت، 597هـ)، تحقيق وشرح: محمد نبيل طريفي، دار صادر، بيروت، ط1، 1999م، 8/ 261

([34]) مسند الإمام أحمد بن حنبل (ت، 241هـ)، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرون، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 2001م، 39/ 142

([35]) مجمع الأمثال، أبو الفضل الميداني(ت، 518هـ)، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة السُّنة المحمديّة، القاهرة، 1955م، 10/ 72

([36]) المجمع (4/ 253 - 254): رواه الطبراني وفيه عبدالملك بن قدامة الجمحي وثقه ابن معين وغيره، وضعفه جماعة، وبقية رجاله ثقات. وضعفه الألباني في الضعيفة (3893).

([37]) شرح نهج البلاغة، ابن الحديد(ت، 656هـ)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، منشورات مكتبة المرعشي النجفي، مؤسسة إسماعيليان، قُم، ط2، 1967م، 15/ 211

([38]) شعر همدان في الجاهلية والإسلام، جمع وتحقيق: حسن عيسى أبوياسين، دار العلوم، الرياض، ط1، 1983م، ص: 253

([39]) شعراء مذحج في الجاهلية، صنعة: مقبل التام عامر الأحمديّ، مجمع اللغة العربية السعيدة، صنعاء، ط2، 2014م، ص: 588

 

([[1]]) الراوي: فاطمة بنت قيس، المحدث: الألباني، المصدر: غاية المرام، الصفحة أو الرقم: 430، خلاصة حكم المحدث: صحيح

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

موت مزارع!

"قصة قصيرة"

كان عبد الستار رجلا طيبا مستور الحال، يعيش في بيت صغير يقع في أعلى بقعة في إحدى جزر نهر النيل، كان يفلح قطعة أرض صغيرة ورثها من أسلافه، ورغم إنتاجها القليل الا أنه كان كافيا ليستمر على قيد الحياة مع المساعدات القليلة التي كانت تصله من بعض أقاربه الذين يعملون في دول الخليج.
ورغم ان عبد الستار لم يشتهر بالورع، اذ لم يكن يعرف من الفروض الدينية الا ما يكفيه بالكاد لأداء الصلاة، إلا أنه كان يقف أحيانا بعد صلاة الجمعة ليتحدث في بعض المسائل الصغيرة، والتي كانت في طابعها العام أقرب الي الدنيا منها الي الدين، وفي الغالب فإن أحدا لم يكن يعر كلامه أدني اهتمام، وكان الناس يضطرون للجلوس للإستماع له بدافع المجاملة او الخوف فقد كان يتمتع بجسم ضخم وقبضة حديدية أتاحت له مرة اثناء استعراض للمهارات قتل ثور بضربة واحدة علي الرأس، وفهم الكثيرون محاولاته لتنصيب نفسه كواعظ متطوع بأنها مجرد رغبة من رجل طيب يحاول تذكير الناس بأنه موجود وأن الشيخوخة لن تجبره علي التسليم والإنخراط في إستعدادات إنتظار الموت بطريقة تقليدية.

كان عبد الستار يعيش وحيدا، لا يؤنس وحدته سوي جهاز راديو قديم، كان الراديو الوحيد في العالم الذي لا يحتاج لأي نوع من الطاقة من أجل تشغيله، بل مجرد ركلة قدم قوية تحرك طاقة منسية في أحشائه فيبدأ علي الفور في ترديد الشعارات الوطنية بصوت مرتجف، وكان يمكن لبرنامج حياته أن يمضي علي الوتيرة نفسها حتي لحظة تشييعه الي مثواه الأخير، لولا الانهيار الاقتصادي الرهيب الذي طال كل مستويات الحياة اليومية، منذ بدء ظهوره مع بداية عقد التسعينات من القرن الماضي، وفجأة وجد عبد الستار نفسه وهو علي وشك ان يبدأ أول ايام الشيخوخة علي حافة الإفلاس، إنقطع الايراد القليل الذي كان يصله من أقربائه في الخارج بسبب تدهور أحوالهم، لم تنقطع غلة أرضه ولكن تكلفة الانتاج باتت عالية جدا وأسعار المحاصيل الزراعية لا تكفي للوفاء بالتكلفة المرتفعة للإنتاج، لم تكن هناك مشكلة في إيجاد التمويل اللازم للزراعة فقد فتحت عدة بنوك تجارية أبوابها علي مصراعيها وكانت علي أتم إستعداد لإقراض المزارعين أية مبالغ يطلبونها ودون تردد، الا ان عبد الستار أدرك مبكرا ان الطريق نفسه الذي يؤدي الي البنك كان ينتهي في السجن، لأنه وبمجرد أن يتم حصاد المحصولات الزراعية كانت أسعارها تنهار فجأة وكأن الامر يتم بفعل فاعل، وتقوم البنوك التجارية بتحصيل قروضها بالإستيلاء علي المحاصيل بأسعار زهيدة ولأن ذلك لا يكون في العادة كافيا للوفاء بالقروض يتم جرجرة المزارعين الي السجون، حتي أن الكثيرين كانوا يفهمون عبارة انا ذاهب الي البنك وفق معناها الحقيقي وهو : انا ذاهب الي السجن
لم يصدق عبد الستار الشعارات التي كان يرددها جهاز الراديو والتي تحث المزارعين علي زيادة المساحات المزروعة لتحقيق الاكتفاء الذاتي، شاعرا انه لن يحقق اذا ما انجر وراء تلك الشعارات سوي اكتفاء ذاتي من الهموم، وهو لم يكن في حاجة للمزيد منها فقد أصبح يضطر في الفترة الأخيرة لتغيير الطريق الذي يسلكه في وسط القرية ليتجنب المرور من أمام دكان السر ود الحاج، بسبب تراكم ديون حوائجه المنزلية، وطوال أيام إستغرقه قلق شديد حتي أنه كان يعبر أمام جيرانه الجالسين فوق كثبان الرمال في ضوء القمر في إنتظار حدوث فرج ما، كان يمر بهم دون أن يلقي السلام أو حتي يكترث للذين كانوا ينادونه بألقاب ساخرة من إستغراقه الفلسفي، فكر في مخرج آخر يضمن له البقاء علي قيد الحياة دون تنازلات جوهرية قد يدفع ثمنها من أوهامه المستقبلية، نظر حواليه فلم يجد شيئا، وإنتظر طوال عدة أيام على أمل ان يطرق باب بيته طارق متعجل يسلمه خطابا دسما من أحد اقربائه، ولكن مرت الأيام رتيبة، لا جديد فيها. تمضي ساعات النهار الطويلة ببطء، لم يعد يشعر فيها بطعم الحياة القديم في ساعات الضحى وغناء القمري فوق أشجار النخيل.

ركل جهاز الراديو ركلة اخيرة فانطلقت الشعارات والاغاني التي تؤكد بأنه يعيش في نعيم ارضي رغم مظاهر الجحيم التي كانت تخيم من حوله، اغلق جهاز الراديو وتركه يختفي خلف انسجة العنكبوت واتخذ قرارا مصيريا مهما: قرّر ركوب الموجة! أهمل حلاقة ذقنه عدة أيام كانت كافية لتنمو لحية صغيرة، قرر أن يتوكأ عليها لتحقيق مآرب اخري، وعن طريق بعض معارفه عرف ان هناك فرصا للتقدم لوظيفة داعية لم يكن أمامها من عقبات سوي دورة تدريب ضمن قوات الدفاع الشعبي ثم دورة تأهيلية بعد ذلك تؤهله لاعتلاء المنابر. إعتبر عبد الستار أن دورة الدفاع الشعبي ستكون مجرد رحلة قصيرة لن تخلو من تسلية ما دامت الحكومة ستتكفل نفقات إبقائه على قيد الحياة طوال تلك الفترة.
ولإضفاء صبغة عملية على توجهاته الحضارية الجديدة أصبح عبد الستار يقف ليتحدث بعد صلاة الجمعة بلسان جديد، أصبح يحث على الجهاد والتضحية بالنفس، وكان يدعو ببطن مترهل الي عدم مسايرة هوي النفس وقهرها بالصوم، وفي كل مرة كان يختتم حديثه بالقول المأثور: إخشوشنوا فان النعم لا تدوم.
في البداية اعتقد الجميع بأنه كان يمزح، أو يمر بفترة إكتئاب بسبب الفراغ او قلة المال، تجعله يتقمص دورا تبشيريا تقشفيا. ولم تخل تحولاته من مخاطر فقد طرق باب بيته السر ود الحاج مطالبا بديونه، قال له: ما دامت ذقنك قد طالت هكذا فلابد أنه سيكون معك ما يكفي لسداد ما عليك !، الا ان عبد الستار أكد له انه لم يتغير شيء حتى الآن سوي ظهور تلك الذقن ووعده بالسداد بمجرد أن تنفرج الاحوال قريبا، بعد الحصول على فوائد ما بعد الذقن!

بعد أيام اختفي عبد الستار وعرف أهل القرية بأنه اختير كداعية وأن الاختيار وقع عليه مع امرأة من نفس القرية وإنهما سافرا لتكملة دورة الدفاع الشعبي، نقل عبد الستار الي معسكر في منطقة القطينة وبسبب سمنته المفرطة فقد واجه عسف المدربين، وكان أحدهم يطعن عصاه كل يوم في بطن عبد الستار المترهلة ويقول له: هذا اللحم الحرام يجب أن يخرج! كان المدرب في كل يوم يكيل له الاتهامات منددا باللحم الذي يكتنزه والذي لم تفلح في زحزحته كل حفلات العقاب اليومي والجوع الاجباري والاكل الرديء.
في النهاية توصل عبد الستار الي قناعة ان المعسكر لم يكن للتدريب ، بل للحقد، وان كل رأسماله الذي تبقي له من الدنيا من صحة الجسم التي يدخرها لأيام المرض والشقاء، كان معرضا وبصورة متواصلة لحقد يومي معلن، فور توصله لتلك القناعة المتأخرة غادر المعسكر، كان يؤدي طقوس العقاب المسائي اليومي حيث يقف ويداه مرفوعتان طوال الليل حينما غادر المكان فجأة ودون مقدمات، لم يكترث للصافرة التي انطلقت تدعو المجندين لايقافه، ولا للمدرب الذي اتخذ وضع إستعداد إطلاق النار لايقافه، غادر المكان دون هوادة ولم يكلف نفسه ولا حتي بالبحث عن باب المعسكر فقد حطم أقرب جدار مواجه وغادر المكان .

في الخارج توقف أمام شارع الاسفلت المقفر علي أمل مرور عربة ما، كان المساء ينذر بعاصفة خريفية فقد كانت السماء ملبدة والبرق يضئ قفر اشجار الطلح والسيال من حوله، لم يكترث عبد الستار للعاصفة الوشيكة، كان مشغولا باسترجاع شريط الاهانات اليومية التي تعرض لها طوال ايام، فجأة توقفت بجانبه سيارة فارهة، فتح الباب الامامي ليصعد للسيارة ففوجئ بمنظر الرجل الجالس الي عجلة القيادة، وجده ملتحيا، فأثارت اللحية فيه كل مواجع احقاده، لم يصعد الي السيارة، صفق الباب بعنف وأصدر للرجل باشارة حادة من يده أمرا بالانصراف. قضي الليل كله ماشيا حتى لاحت تباشير أول مدينة، ومن حسن حظه فقد كان يحتفظ بمبلغ قليل من المال أتاح له ركوب المواصلات الي الخرطوم التي أمضي فيها بضعة أيام قبل أن يغادرها عائدا الي قريته.

لدي عودته لبيته استأنف فور وصوله تفاصيل حياته السابقة نفسها، نفض الغبار عن جهاز الراديو وركله بحقد، فوجده يردد الاكاذيب السابقة نفسها فأغلقه بركلة أخري، شعر رغم ضيق الحال بأنه بدأ يستعيد هدوءه السابق وان لم يستطع مكافحة شعور بالخجل بسبب عودته بخفي حنين دون أن يحرز لقب شيخ، وانه سيتعين عليه ان يحتفظ بسلوكه العلماني نفسه بسبب فشله في الحصول على ترخيص لهداية الناس!

الاّ أنه لم يستسلم، فبعد مرور عدة أيام شعر بأنه لا يمكن أن يعلن عودته الفاشلة من رحلة العذاب تلك، فإستهل دورة تدريبية عسكرية دعا لها تلاميذ المدرسة الأساسية وبعض الصغار الذين سحبهم آباؤهم من المدارس بعد أن عجزوا من سداد رسوم الدراسة الباهظة، أفرغ عبد الستار كل أحقاده في التلاميذ، زاعما أنه ينفذ توجهات الحكومة، حلق لهم رؤوسهم بقسوة، بالطريقة نفسها التي كان يحلق له بها، مستخدما أمواسا قديمة أو قطع زجاج، وطوال ايام العطلة أخضعهم لتدريب قاس حتى ضج أولياء أمورهم.
وذات يوم بعد أداء صلاة الجمعة وقف أحد آباء التلاميذ وتساءل ان كانت هناك بالفعل تعليمات حكومية تخول لهذا الرجل حلاقة رؤوس أبنائهم بتلك الطريقة المهينة وتعريضهم لذلك التدريب الشاق. لم يتلق الرجل ردا كان كل من يحمل صفة مسؤول في القرية وهم كثيرون، كان كل واحد منهم يتلفت حواليه بحثا عمن أصدر التكليف الرسمي، وحين بات واضحا أن عبد الستار كان متطوعا لإثارة المشاكل واصل الرجل كلامه قائلا: لقد ذهب عبد الستار من هنا ليتدرب في معسكر للدفاع الشعبي، وسافرت معه من هنا إمرأة، وهرب عبد الستار من معسكر الدفاع الشعبي عائدا، بينما لم ترجع المرأة حتى الآن!

شعر عبد الستار برأسه يكاد ينفجر من الغيظ، فقد تم إيقاف دورته التدريبية بقرار من مجلس آباء المدرسة الأساسية، عاد عبد الستار الي البيت محنقا، ركل جهاز الراديو فسمعه يردد الأغاني الحماسية دون حماسة بسبب ملل التكرار، أشعل عبد الستار سيجارة سحب منها نفسا واحدا واستلقي على عنقريبه جوار جهاز الراديو.. ومات!
2000

أحمد الملك

ortoot@gmail.com  

مقالات مشابهة

  • موت مزارع!
  • فرصة أخيرة للشيخ محمد أبو بكر للطعن على حكم تغريمه بواقعة سب ميار الببلاوى
  • تحقيق عاجل| فيديو لشابين في حالة «زومبي» بسبب الاستروكس يثير الرعب في شبرا الخيمة.. القصة الكاملة
  • المفتي: الزكاة ركيزة أساسية في تحقيق العدالة الاجتماعية والتكافل.. فيديو
  • موعد عرض الحلقة 30 من مسلسل شهادة معاملة أطفال
  • كلمة مرتقبة للشيخ نعيم قاسم بمناسبة يوم القدس العالمي
  • مسلسل شهادة معاملة أطفال الحلقة ٢٩ .. محمد هنيدي يعرض الزواج على نهى عابدين
  • قطوف الرمضانية تُسدل الستار على نسختها الثالثة بخصب
  • نجاة عون: لفتح تحقيق فوري لكشف المتآمرين على أمن لبنان
  • كيف نجَّى المكر الإلهي عيسى عليه السلام؟