الأدب السوري مترجمًا.. كيف شوّهت سياسات الهوية السردية السورية
تاريخ النشر: 22nd, January 2025 GMT
اقترب منّي مدفوعا على الأرجح بمكان ميلادي المسجل على البيوغرافيا المطبوعة على أغلفة كتبي بالإيطالية: "دمشق".. وبعد التأكد من انفضاض جميع القراء من حولنا وانتهاء جلسة التوقيع، عرّفني بنفسه وطرح علي سؤاله المباشر دون الكثير من المقدمات: هل صحيح ما يقال عن (النظام) في سوريا؟
حصل ذلك قبل حوالي 6 سنوات خلال حفل الوحدة "Festà dell’Unità" في تورينو، وهي واحدة من أهم التظاهرات الثقافية في إيطاليا، وقد كنتُ مدعوة لندوة مخصصة عن أدب الثريلر رفقة عدد من الكتاب والفنانين الإيطاليين.
والأمر يعود لكوني "ابنة البلد"، وأعلم أن القارئ الإيطالي يدرك تمام الإدراك أنه ما من كاتب في الغرب يُمنح منصة للحديث في السياسة والأيديولوجيا دون أن يكون وراءه "سيد" يمول خرجاته يطلقون عليه باللفظ الإيطالي اسم: Padrone (بادروني). ومن هنا أتى شعار شهير لصحيفة إيطالية كبرى هي "إل فاتو كوتيديانو": صحافة بلا "بادروني". ومفردة "بادروني" بالمناسبة من نفس عائلة Padrino بادرينو(العرّاب)!
إعلانواعتقادي أنه لا يجري على الأغلب إطلاع الكاتب العربي لدى حضور ندوات أوروبية بدعوة من مترجميه عن هوية "البادروني" الذي يقف وراء تمويل رحلته، ويتم الاكتفاء بإخباره عادة عن جمعيات مدنية تنظم الحدث الثقافي الذي يحضُره، لتقديم انطباع يوحي بأننا أمام مهرجان شعبي ممول "من الأسفل" بالتعبير الإيطالي (أي من الجماهير وليس "من فوق" أي من طرف السّاسة).
ولكن بالتأكيد ما من عاقل من شأنه أن يصدق أن أي جمعية أهلية في العالم تعيش على تبرعات الأفراد، بل إن أحدث الإحصائيات الإيطالية تتحدث عن "انحسار كبير ومطرّد للتبرع للجمعيات الأهلية" والسبب "تراجع الثقة في منظمات القطاع الثالث" كما ورد في تقرير لصحيفة" تورينو كروناكا" نُشر بتاريخ 21 ديسمبر/كانون الأول الماضي، حيث أكد رئيس "المعهد الإيطالي للتبرع" أن واحدا من بين كل إيطاليَين "لا يثق في هذه المؤسسات"، لذا فهو لا يتبرع لها أساسا حتى إن اقتُطع المبلغ من ضرائبه، مما يجعل تمويل المنظمات المدنية يكاد يأتي بالكامل من جهات مؤسساتية تصب في برامج ثقافية تضمَن الترويج لسردياتها وتوجهها الأيديولوجي.
على الأغلب لا يجري إطلاع الكاتب العربي لدى حضور ندوات أوروبية بدعوة من مترجميه على هوية "البادروني" الذي يقف وراء تمويل رحلته (شترستوك)وعملية تمويه خطوط تمويل المهرجانات الثقافية في أوروبا (والتي يسهل تتبعها ولا تخفى على المواطن الغربي) غالبا ما تنطلي على الكاتب العربي غير المعتاد على هذه الديناميكية السلطوية المركّبة في تحريك العمل الثقافي، وهو من يجلس عادة في الندوات العربية وصورة الزعيم معلقة مباشرة فوق رأسه (ليفهم القاصي والداني دون كبير عناء هوية عرّاب الجلسة)، بينما في أوروبا يجد الكاتب العربي نفسه يُلقي بعضا من ندواته في بارات رخيصة تفوح منها رائحة العطن، للإيغال في إيهامه بقربه من الجماهير الشعبية، على الرغم من أنه يدرك يقينا أنّ مسوغ نقله للسوق الأوروبية يعود لأسباب سياسية أيديولوجية، ولكنه يجلس مع ذلك قبالة جمهور فضولي ينظر إليه بشفقة صادقة، وهو يتكلم عن الحروب الأهلية والذكورية والكويرية.
إعلان سماسرة الأدب العربي في أوروباوعادة ما يكون الجمهور الأوروبي ممتنا فعلا لرؤية مخلوق أسمر لطيف يرتدي ثياب البشر أتاهم من وراء البحار للحديث بلغة عصرية، تماما كمن يشاهد عرضا لطيفا في السيرك، يحصل بعده السّائس/المترجم على مكافأته المادية مباشرة من المنظمين ضمن المهرجانات الكبرى، أما في إطلالات "البارات" والمكتبات الصغيرة فغالبا ما تكون المكافأة غير مباشرة، أي أنها تأتي من الجامعة التي ينتمي إليها المترجم.
وقد أقرّت أقسام الدراسات الاستعرابية في إيطاليا، قبل سنوات قليلة، ما يطلق عليه نشاطات "القطاع الثالث" ضمن سلم تنقيط الأساتذة، وذلك يعني أن إخراج الترجمات والدراسات العربية -من أسوار الجامعة إلى فضاء التقديم بالمكتبات والمهرجانات والمعارض (أو بتعبير أدق فضاء البيع والشراء)- يساهم مباشرة في رفع رتبة الأستاذ الجامعي المترجم.
وأما الكُتاب الذين يجري استدعاؤهم لرفع الدرجة المهنية للمستعربين (ومعها راتبهم الشهري) فتقتصر مكافأتهم عادة على التأشيرة، و"سيلفيهات" ظريفة أمام معالم المدينة الشهيرة، والأهم من ذلك ما يعتقد الكاتب العربي أنه ترويج يحظى به في السوق الأوروبية يوهمه بأنه تحول إلى كاتب عالمي.
والحقيقة هي أن القارئ الغربي لا يعتبر الكُتاب القادمين مع سماسرة الأدب العربي في أوروبا سوى وكلاء بيع لأكاذيب وسرديات زائفة ممولة من جهات لا تحظى أساسا باحترامهم، فيجد الأوروبي نفسه مضطر دوما للبحث على الحقيقة بعيدا عن آلة الكذب التي غدت مكشوفة بالنسبة له.
مهمة الأدب يفترض أن تكون أداة الكاتب النبيلة ليدلف بانسيابية من خلالها إلى النفس البشرية ويفهم نوازع الشر فيها (بيكسلز)"على هؤلاء أن يتوقفوا عن الكذب" هذا ما قاله لي بصراحة فرانتشيسكو بورغونوفو، وهو واحد من أبرز صحفيي إيطاليا المعاصرين مشيرا للمستعربين الذين وصفهم بـ"مدعي الطيبة". وقبله، فاعل ثقافي إيطالي وجّه لي -على هامش التحضير لإحدى الندوات بخصوص الأدب العربي- سؤالا مربكا ".. هل تقول هذه الشاعرة الحقيقة أم أنها تكذب؟" هكذا ببساطة.
إعلانوالواقع أن سرديات الأدباء السوريين التي أتت محفوفة في السنوات الأخيرة بالكثير من جهات التمويل السلطوية الأوروبية (والمرتبطة بالجامعات والمنظمات غير الحكومية ذات التمويل المؤسساتي) جعلت الكثير من القراء الإيطاليين يشككون في سردية الثورة السورية من أساسها. والمفزع في كل هذا هو كيفية تحول صوت الأديب العربي الذي يفترض أن يكون صوت الشعوب إلى صوت الكذب في نسخته المترجمة؟ والجواب يكمن في الخطاب الأيديولوجي، والحديث هنا تحديدا عن "سياسات الهوية" Identity politics.
فما الذي يعنيه أدب يركز على ثيمة "اضطهاد الأقليات" في بلد كان رئيسه ينتمي لواحدة من أصغر الأقليات في المنطقة، بل في العالم بأسره، ولكنه حكم مع ذلك شعبا ينتمي إلى الأغلبية طيلة عقود، وبالحديد والنار؟ وما الذي يعنيه التباكي من الذكورية في بلد كانت مرجعية نظامه العقائدية هي الماركسية؟
وما الذي يعنيه التحذير من خطر "أسلمة" سوريا في حين أن الفئة المستباحة كانت هي نفسها المسلمة؟ كيف يمكن تركيب هذه العناصر مع بعضها على نظرية "سياسات الهوية" دون أن يقع الكاتب في تناقض صارخ مع كل خطوة يخطوها، ودون أن يتوقع أن يتهمه القارئ الأوروبي بفبركة سرديته ويضعه في خانة "دجالي الفكر"؟
وهل هذا يعني أن السردية السورية كانت ضحية عملية تشويش وتشويه ممنهجة في أوروبا طيلة سنوات الثورة، قادها "مدّعو الطيبة" بتعبير بورغونوفو، من خلال دفعها إلى زوايا ميتة؟ أم أننا حيال ظاهرة كسل فكري لمثقفين اختاروا الاستكانة لأيديولوجيا مستوردة بدل نحت سرديتهم بمفردات تحترم تاريخ وخصوصية بلدهم الحضارية، والأسوأ من كل هذا الحياد هو مهمة الأدب الذي يفترض أن يكون أداة الكاتب النبيلة ليدلف بانسيابية من خلالها إلى النفس البشرية ويفهم نوازع الشر فيها بعيدا عن ضرورة سلخ نظريات أيديولوجية "على الموضة" لا تنتمي للتكوين الثقافي لمجتمعه من أجل صياغة خطاب يتواءم مع السرديات الرائجة.
الجمهور الغربي سئم كم الزيف الذي يحف كل السرديات التي أصبحت تقدم له وبات الكاتب العربي للأسف أبرز المتهمين بالتواطؤ (شترستوك) سردية الثورةوالحقيقة أن ما لا يعرفه الكاتب العربي هو أن الوعي الشعبي الأوروبي بالقضايا العربية أكبر بكثير مما يتخيل. وهنا يحذر الصحفي الإيطالي الكبير "فولفيو غريمالدي" على قناة "بيوبلو" -في حوار أُجري معه بتاريخ 14 ديسمبر/كانون الأول 2024- المشاهدين من فخ الوقوع في سرديات "سياسات الهوية" الملفقة على الواقع السوري، مؤكدا أن "المنطقة العربية منطقة إستراتيجية طالما أراد الغرب تفتيتها". ونبّه غريمالدي من ورقة الأقليات الذين سمى إحداها "رجال أميركا في سوريا الذين قد ترغب الولايات المتحدة في تحويلهم إلى كيان وظيفي آخر في المنطقة يشبه الكيان الصهيوني". وليس بعيدا عن كل هذا يرى الإيطاليون مستعربيهم يشتغلون طيلة سنوات على ترجمة أدبيات "الأقليات المتأمركة" والترويج المحموم لخطاباتها حول المنطقة العربية ضمن جميع الفضاءات الثقافية المتاحة.
إعلانلذا فأول ما ينبغي أن يبدأ الكاتب العربي بمعرفته عن القارئ الغربي أنه ليس بالسذاجة التي يتصورها، أو يخاله وعاءً فارغا ينتظر ملأه بأي سردية يتم تركيبها كيفما اتفق، ذلك أن فجوات السرديات المهلهلة لا تسدها حالات البكاء على المسرح وأجواء الانهيارات العاطفية التي تتخلل تقديمات المترجمين الإيطاليين لكتابهم وشعرائهم العرب. إنها مشهديات لا تدغدغ مشاعر أحد بقدر ما تثير شعور التقزز لدى الأوروبي من حالة استعراضية هزيلة تشبه تماما التقرير الذي سجلته مراسلة قناة "سي إن إن" بعد سقوط النظام السوري، والذي ادعت فيه أنها حررت معتقلا سوريا من سجون النظام ليتبين لاحقا أن المشهد كان تمثيليا، والأسوأ أن "المعتقل" المزعوم ضابط في فرع المخابرات الجوية.
ولعل ما لا يعرفه الكاتب العربي أيضا أن الجمهور الغربي قد سئم من كم الزيف الذي يحف كل السرديات التي أصبحت تقدم له، وقد بات للأسف أبرز المتهمين بالتواطؤ معها. لذا قد يكون من المفيد في هذا السياق التذكير برسالةٍ كتبها جورجيو أغامبين، وهو واحد من أبرز الفلاسفة الإيطاليين وفلاسفة الغرب في التاريخ المعاصر، تحدث فيها عن السعي المحموم لتدجين المثقفين في الغرب، وبشاعة الانصياع لصناع السرديات الزائفة.
لكن الأبشع من ذلك الادعاء بعدم معرفة ما يحصل في أروقة صناعة الكذب والاستمرار في طاعة أوامر "السادة": وفي الوضع الكئيب الذي نعيشه، ثمة أحيانا أخبار جيدة. أحدها بالنسبة لي هو قرار ما يسمى بكبريات الصحف عدم مراجعة كتبي أو مجرد ذكر اسمي بأي شكل من الأشكال.
والواقع أن ظهور اسمي على تلك الصفحات من شأنه أن يزعجني، لذا لا يسعني سوى أن أكون ممتنًا للصحفيين على قرارهم هذا. ولكن عندما يعود المؤرخون في يوم من الأيام للتحقيق في الماضي، ستظهر وسائل الإعلام في طليعة المتواطئين. تماما كما حدث خلال 20 عامًا من حكم الفاشية، كانوا بلا شك يعرفون ولكنهم يطيعون أوامر سادتهم.. ليختم صاحب "الإنسان المستباح" رسالته التي وقّعها بتاريخ 12 سبتمبر/أيلول 2022، بسؤال مرير: "لماذا صمتوا؟ لماذا أطاعوا؟".
وهكذا جرى عزل فيلسوف عملاق بحجم أغامبين من النقاش العام لمجرد تعارض رؤيته مع السرديات المهيمنة، في حين أن سرديات الكتاب الغثة والمستلة من نظريات اجتماعية مرقّعة على الواقع العربي تُدرّس ضمن مقررات الأدب والحضارة العربية في الجامعات الأوربية، وتُمنح أيضا الجوائز المتنوعة، وكل ذلك لإنتاج تاريخ ملفّق لشعوب المنطقة. ليغدو الأدب العربي مترجمًا أداة المستعمرين الجدد في تزييف الوعي وصناعة تاريخ مفبرك لأوطان لا يزالون يحلمون باستباحتها.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الکاتب العربی سیاسات الهویة الأدب العربی فی أوروبا بعیدا عن
إقرأ أيضاً:
السَّاردُ السَّاحر
عرفت الأستاذ صلاح الدين بوجاه - رحمه الله - أستاذا فـي المعهد الثانوي، وأنا فتى صغير، أحاول كتابة القصة وألتهم الأدب التهاما، وأرى فـي جيل أدباء السبعينيات نماذج عليا، فحضرت بعضا من دروسه، وشدتني أناقة لغته، وسعة اطلاعه وعمق تواضعه ووفرة ابتسامته، وغزارة علمه، وسيطرته على اللسانيين، فهو الهمذاني والتوحيدي والجاحظ ساعة يتكلم العربية، وهو بالزاك وفلوبير ساعة يقلب متحدثا بلغة الفرنسيين، ثم غاب عنا مدة وجيزة، إذ انتقل إلى التدريس فـي الجامعة، والتقيته من بعد ذلك، أستاذا لي فـي كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالقيروان، يدرسني مقرر الحضارة، وكانت المسألة «فتوح البلدان» للبلاذري، ومن ساعتها لم نفترق إلى أن تغمده الله برحمته الواسعة، شاركته مرجعيات كان مهووسا بها من أدب العرب والفرنسيين، أطْلعني على كنز ألف ليلة وليلة، الكتاب الذي صاحبني منذ الطفولة متعة قراءة، وتحول معه إلى ثراء لأرضية نقدية أكتشف منها فنون القصص، كان قارئا، مواكبا لمحدثات التجديد القصصي فـي الغرب، منصرفا إلى الأدب المقارن، ومن الخصال الجيدة آنذاك فـي الجامعة التونسية أن الأستاذ المساعد فـي التعليم العالي لا ينعم - بالضرورة - بتدريس اختصاصه، وإنما هو - برغبته أحيانا، وإكراها أحيانا أخرى - يجب أن يطوف على التخصصات ليتكون فـيها مع طلبته قبل أن يستقر فـي تخصصه، ولذلك فقد أفادنا صلاح الدين بوجاه بشكل لافت فـي درس الحضارة ودرس الأسلوبية وأبدع فـي درس الرواية. لقد ساهمت مدينة القيروان فـي تشكيل الخلفـية الأدبية والنقدية والمعرفـية لصلاح الدين بوجاه، كما فعلت مع محمد الغزي ومع منصف الوهايبي ومع جعفر ماجد ومع البشير القهواجي، وغيرهم من الفاعلين فـي المجال الأدبي. القيروان مدينة حاضنة للفقهاء والأدباء والمجانين، بإرثها الديني والأدبي، وبما بقي فـيها من آثار وبقايا عهود السيادة والألق والريادة، يشعر أبناؤها أنهم من سلالة أدب وعلم، ويفخرون بما ترك لهم من منابر وجدران وصوامع ومخطوطات، ولذلك وجد صلاح الدين بوجاه مهجعه واستكانته وساح فـي فضاءاتها وتفاعل مع أطلالها الباقية، وجاور أولياءها، وتشرب من أسفارها وعايش من بقي من أنفاس علي الحصري وابن رشيق من شعراء وأدباء نهجوا النهج السلفـي فـي الكتابة شعرا ونثرا، وغذاه والده من ثراء مكتبته وهو غض طري، فابتلاه ببلوة الأدب عشقا وهياما، يقول فـي حوار معه: «قـضيت السنوات العشر الأولى من طـفولتي فـي ريف سـيدي فرحات (منطقة ريـفـية قريـبة من مدينة القيروان). وكانت مكتبة الوالد فـي ذلك الوقت بمثابة غـنم كبير بالنسبة إلي. فكان الريف والصمت والكتب فضاء رحبا مكـنني من الغوص فـي ذاتي والبحث عن أجـوبة خـفـية للاستفهامات الكبرى التي أحاطت بي مبكرا. أما باقي العمر الذي يتجاوز الأربعـين سنة فـقد قضيـته فـي محراب القيروان المدينة المـفعـمة رخاما وترابا وأساطير».
القيروان مدينة المجانين، ففـيها البهلول بن راشد، حكيم المجانين، ومن سلالته وفرة من المجانين العقلاء يملؤون المدينة، وفـيها علي الحصري، صاحب الأشعار الجياد، وابن رشيق القيرواني صاحب العمدة، وعنه نتج عدد من الأدباء ما زالوا يمثلون المدرسة القيروانية فـي الأدب. اختار صلاح الدين بوجاه أن يكون وريثا وفـيا لآبائه، عينه على التراث، وعينه الأخرى على الأدب الفرنسي، وخاصة منه أصحاب «الرواية الجديدة» تنظيرا وإبداعا، فنهل من هذا وذاك، إبداعا ونقدا، ووجد فـي طريق الأدب المقارن سبيلا جامعا بين المختلفـين، فكتب فـي ذلك نقدا ودراسة ما أثْرى به المكتبة العربية وأبلغ تصوره للإبداع، من ذلك مثلا كتابه «كيف أثبت هذا الكلام» و«أدبية الاختلاف» و«الشيء بين الجوهر والعرض»، «مقالة فـي الرواية»، وكتابه الرائع، بالغ الأثر فـي الدراسات المقارنية «فـي الألفة والاختلاف، بين الرواية العربية والرواية المكتوبة بالفرنسية فـي تونس»، ومن هذا التراكم النقدي يمكن أن ندرك دعوة صلاح الدين بوجاه إلى ابتكار أرضية نقدية لا تطابق النظر الغربي ولا تتشربه تمام التشرب، وإنما هي تستلهم قوانينها وضوابطها من روح الأدب العربي الذي أسس قديمه أرضية متينة يمكن الاستناد عليها، ولذلك، فقد دخل التجريب الروائي عن وعي وإدراك، فكتب أول ما كتب من رواية، عملا يستلهم الشكل الإخباري العربي القديم، وبنى روايته على المتن والهامش، وهي التجربة العربية الأولى فـي الكتابة الروائية ظهرت فـي روايته «مدونة الاعترافات والأسرار»، ثم طفق من بعد ذلك، يستلهم من ألف ليلة وليلة، ومن أدب الرحلة، ومن المقامة، فـي رواية حققت القبول الحسن شرقا وغربا، ففتح بابا وسيعا من محاورة الأشكال التراثية السردية، وهي رواية النخاس، التي بها حقق انتشارا ومقروئية، وكانت رواية «التاج والخنجر والجسد» داخلة فـي الإطار ذاته من تجريب الأشكال وإعمال لغة صوفـية، ضاربة فـي القدم.
وصفه بعض النقاد الشرقيين، بأنه واءم الصدع الحال بين أدب المغرب وأدب المشرق، وأنه تلقى التلقي الحسن فـي بلاد المشرق، وقرئت أعماله وانتشرت فـيها، إذ قال صبري حافظ إن رواية النخاس تؤرخ لبداية حوار بين النصوص التونسية والنصوص العربية فـي المشرق. صلاح الدين بوجاه، هو مثال الجامع بين لطافة النقد وحسن إجرائه واختباره وإعماله فـي نصوص شعرية ونثرية، وكتابة الرواية والقصة، وهو فـي الفعلين، وفـي الصورتين، مهتم باللغة الرامزة، يجريها لعبا وجدا، انصاعت له لغة العرب، التي يراها ميزة وخصيصة فـي جمالها وألقها يمكن أن تؤسس ما أسماه هو بالرواية اللغوية، الرواية التي تحتفـي باللغة، وتضعها بؤرة يتركز عليها السرد، ولعله من هذا المنطلق قرر علينا ونحن فـي سنتنا الثانية من التعليم الجامعي رواية لم نسمع بها، ولم نعلم بصاحبها، وهي رواية «الجواشن» لقاسم حداد وأمين صالح، وهي رواية اللغة بامتياز، ومنه تفتحت أعيننا على كتب فـي التراث لم نكن نقف على منزلتها، وعلى أدباء معاصرين اضطررنا لتتبع آثارهم. والأهم من كل ذلك أنه علمنا حيل اللغة، وإدراك جمالها، اللغة فـي روايات صلاح الدين بوجاه، كما فـي دروسه، هي محراب صوفـي، هي متأسسة على عمق رمزي وسيع. أختم بانصراف بوجاه فـي رواياته إلى دمج الأسطوري والواقعي، الأسطورة فـي رواياته ليست عاملا موظفا، وإنما هي الواقع ذاته، أو هي البعد الثالث للواقعية فـي مصطلح بوجاه. «سبع صبايا»، «لون الروح»، «النخاس»، «التاج والخنجر والجسد»، كلها فضاءات سردية، تعْمل الأسطورة وجها من الواقع، وتصرف اللغة لإيقاظ الأساطير بطرائق شتى. لقد أفنى بوجاه جهده فـي البحث عن الشكل الأمثل لرواية عربية مميزة، والعمل الأدبي فـي نهاية المطاف، على حد عبارة هولدرلاين «هو بحث عن الشكل»، الذي سخر له بوجاه، اللغة والشخصيات والألوان والأصباغ لخلقه، «أفلا يمكن القول إن مشروع الكتابة عند صلاح الدين بوجاه قائم على «البحث عن الشكل» مع كل رواية جديدة! هكذا تكون «المدونة» استرجاعا لشكل المتن والحاشية، و«التاج والخنجر والجسد» استدراجا للسيرة الذاتية، و«النخاس» مداورة للملحمة، و«السيرك» قراءة للعمارة العربية، و«سبع صبايا» استباقا للأسطورة».