موقع النيلين:
2025-02-22@23:22:37 GMT

الطفل المعجزة!

تاريخ النشر: 22nd, January 2025 GMT

القحاتي الوحيد الذي لم يطاوعني قلبي على كراهيتهِ كان محمد الفكي.. الحقّ أقول لكم. يترآءى إليّ في خيالي على هيئةِ شخصيةٍ يمكنُ رسمها سينمائيًّا لرجلٍ يمتازُ بالبراءةِ والعقلِ البسيط غير المركّب. يتقلّب بين صُنوف الدهر، ويُواجهُ مصاعب الحياة الجمّة بلا قدرات عقلية توازي حجم التعقيدات!

يركبُ القطار مسرعًا.

. لكنه لا يعرفُ وجهة القطار بالضبط، يلتقي مصادفةً ببارونات كبار ينشطون في تجارة المخدرات ويعدونه بمكافأةٍ ماليةٍ ضخمةٍ نظير إيصال شحنةٍ إلى مكانٍ معيّن -وهو لا يعلم بالطبع أنه يحمل كيلو غرامًا من مادة الهيروين- وعندما يصل المكان المعين يجد الشرطة في انتظاره!

يدخل السجن وفي السجن يتعرّف على عتاة المجرمين، ومن بينهم رجل طاعن في السن يحاول تعليمه أبجديات الإجرام.. لكن الفكي لا يتعلّم، ولا يُصغي جيّدًا إلى دروس الرجل؛ إنّما يتظاهرُ بالاهتمام والنباهة؛ فقط لأن العجوز يخصه بطعامٍ جيدٍ أو بصندوق بسكويت عند الصباح.. وهي بالطبع أشياء ثمينة في دنيا السجن؛ وبالتأكيد فإنها تعني الكثير لرجل واضح أنه نَهِم و”بطيني” كود الفكي.

تمضي الليالي الكئيبة بين عيني المتحمّس المسكين دون أنْ يتسلل خاطره ليستذكر شيئًا من دنيا ما قبل الزنزانة؛ إنه يعيش لحظته فقط منهمك مع لعب الورق وقضاء الساعات الطوال نائمًا. وفي يوم بين ردهات الزنازين ينادي شرطي بدين ببطنٍ ضخم: محمد الفكي سليمان.. محمد الفكي سليمان -بينما محمد الفكي منهمك في الأكل ويده إلى ما قبل الكوع غارقة في فتة العدس- يلكزه أحد زملاء السجن: بنادوك يا فكّة!

وحين يسمع اسمه للوهلة الأولى ينفض جلبابه المتسخ ويهب واقفًا، ويرد -أيوه نعم- بينما هو مشغول بلعق أصابع يده وما تساقط من طعام على ساعده
الشرطي: يلا ألبس سفنجتك.. إفراج!!
وفي يومٍ من أيام الله بينما يغط في النوم عميقًا ويشخر بصوتٍ عالٍ.. يستيقظُ ليجد رسالة تخبرهُ أنّه مطلوبٌ حضوره في قصر الشعب ليكمل أوراق اعتماده عضوًا بمجلس السيادة!
لا يفكر مرتين! أو ربما أنّ الأمر مزحة!

وكان هذا أهمُ ما يمتاز به المتحمّس المسكين صاحب الشارب الجميل
ومباشرةً يغلق الرسالة ويذهب لقائمة الاتصال: الو الطاهر.. ود عمتي.. ازييك.. متذكر البدلة الشديتا منك في عرسي.. أيوه بس عاوزها.. عندي مشوار القصر.. قالوا محتاجين لي هناك.. قصر الشباب والأطفال شنو يا الطاهر! قصر الشعب بقول ليك.. عارف براك يا الطاهر البلد دي ما بتمشي إلا بالزينا.. ومحتاجة مننا مساعدة.. شوف البلد دي منقة بس تعبر يا الطاهر.. منقة بس.. منقة جد.. الو.. اسمعني يا الطاهر.. رصيدي ح يقطع.. الطيب ود حلتكم الحلاق داك قاعد ولا مشى المزاد ناس خالتو.. كويس.. خلاص بجي أحلق وألبس عندكم.. الجماعة نمشي ليهم مزبطين.. الطاهر المنق.. توت توت توت

يرتدي الفكي بدلة الطاهر التي تبدو ضيّقةً عليه بعض الشئ. يدخل مُسرعًا ويعبرُ العتبات في زهوٍ طفولي، ويقطع المسافات داخل المبنى على سجادٍ أحمر. حين يصل أمام طاولة خشبية يفك غطاء القلم بفمه للامضاء على أوراق بروتوكول روتينية، ليذهب بعدها خلف موظفٍ صغيرٍ لاستلام مكتبه الجديد في قصر الشعب.

في خضم هذه التفاصيل والتغيرات المُفاجئة وما بين حال اليوم والأمس.. لا ينتابُ الفكي أيُّ نوعٍ من أنواع الارتياب أو أدنى درجةٍ من درجات القلق الوجودي. وبالطبع لا يدفعه الذهن المتدهور حتى للشك بمنطق: ربما تكون هذه “الكاميرا الخفيّة”، ومؤكد أنْ لا فسحة بينه وبين ذاته ليسأل متأملًا في رحلة الحياة ومشوارها العجيب: “يا ابن القباب الحُمْرِ ويحَكَ! من رَمَى. بِكَ فوق هذي اللُّجَّةِ الزرْقَاءِ؟”
إنه نوع أولئك المتصلين فقط بالحواس المباشرة. اووه إنه الآن جائع.. يشعر بالجوع ولا شئ سوى ذلك!

القلق الوحيد الذي ينتابه الآن هو على من ينادي ليطلب الطعام في هذا المكان الغريب!
الفكي لا يبدو خسيسًا ودنيئًا كخالد سلك، ولا شحيحًا متغطرسًا وعابدًا للؤم ومتعالٍ عن جهل وسفاهة كجعفر حسن، ولا محتالًا جبانًا كمدني عباس، ولا تهويميًّا سفسطائيًا كالدقير، ولا انتهازيًّا عريقًا مخضرمًا كإبراهيم الشيخ، ولا منجمًا ومدعيًا للنبوءة والاشراق كالحاج ورّاق، ولا مريضًا نفسيًّا كالنور حمد والقراي، ولا دجالًا مُحترفًا كمنعم بيجو، ولا فاحشًا بذيئًا ماكرًا كعرمان، ولا متعفن الدواخل كمنّاع، ولا وضيعًا كالتعايشي، ولا مصنوعًا بمهارةٍ واتقانٍ في معامل إعداد الخونة وتأهيل الجواسيس كنصر الدين عبد الباري، ولا قوادًا منعدم الضمير والمروءة كحمدوك وحاشيته..

كان أهم ما يُميز الفكي عن بقيّة سادة قحت أنه سوداني حقيقي.. ساذج ومهذّب يُحب الخير للناس ولا يُجيد الكذب على نحوٍ من الإبداع والاتقان، أوجدتهُ في المواقع المُتقدّمة الصدفة المحضة. فكان ضحيةً لذهنه الغلبان؛ كان ضحيّة لما لم يحط خبرا.. “وَكَیۡفَ تَصۡبِرُ عَلَىٰ مَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ خُبۡرࣰا”؟!
الفكي -بمعجزة- أضحك الملايين من أبناء الشعب السوداني لأول مرةٍ يوم كتب جملة من ثلاث كلمات: “هبوا لحماية ثورتكم”!
تشبه “أيتها الجماهير العريضة” بصوت عادل إمام تمامًا

أنا مثلًا كلما أصابني الغم.. أديرُ الفيديو الذي يقول فيه: “هذا ممنوع” فأنفجر بالضحك وتذهبُ الأحزان مسرعةً كل منها بطريق. إذ لا يليق به التظاهر بالاستبداد فهو بعقل طفل في جسدٍ كبير. حتى توسلهُ بالجدية بإبدائه لقسمات وجهٍ حازمة وحادة لا يُضفي سوى الكوميديا على المشهد.. ومهما سعى للتظاهر بالجدية وعلو الشأن به طفولة وشئ من بلاهة لا تُخطئها العين؛ الطفولة ليست بمعانيها الجمالية الحسنة الخلابة المُتسمة بروح الشغف، والتأمل، وحب الاكتشاف.. إنّما السلوك المتصل بالطيش، والضلال، والخفة، ومحبة الملذات بلا تحرُّز، ومفارقة الحكمة؛ الحكمة النبوية المحمّدية العتيقة؛ الحكمة التي تجعلك في قمة الزهو والخيلاء أنْ تقول في إجلال -مخافة الغرور والافتتان بالذات-: “إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ كانت تَأْكُلُ القَدِيد”

محمد أحمد عبد السلام

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: محمد الفکی

إقرأ أيضاً:

مولانا احمد ابراهيم الطاهر يكتب: الجمهورية السودانية الثانية

الرسالة التي حملت رؤية المؤتمر الوطني المستقبلية للسودان جديرة أن تثير نقاشا واسعا في أوساط النخبة السودانية المثقفة . وقد آن لقادة الفكر في بلادنا أن يبدأوا السباق المعرفي ، وليفتحوا الأبواب لشعب السودان ليسهم في رسم استراتيجية البناء والنهضة العظيمة للأمة السودانية .

ونهاية الحرب الضروس قد باتت وشيكة بما قدمته القوات المسلحة ومعاونيها من شباب السودان بتكويناته وانتماءاته المختلفة من تضحية وفداء وثبات وصبر وعزيمة ، لجديرة بأن
تسجل في كتاب التاريخ فخرا وعزا ومجدا أثيلا للسودان ، وتترك في قلوب أعدائه رعبا ورهبة
لا يمحوها مرور الأيام والليالي . فالتحية والدعاء بعد حمد لله لكل من اشترك في معركة الكرامة بالقتال المباشر وبالإعداد وبالانفاق المادي وبالرأي السديد وبالدعاء الصادق لتحقيق النصر الخالد والمجد التليد . والرحمة والقبول من الله لشهدئنا من المقاتلين في صف القوات المسلحة الذين وهبوا حياتهم لربهم ولبلادهم العزيزة . والدعاء لكل مكلوم وكل مهموم ومظلوم وجريح ومصاب ولكل أم وأب لشهيد أو مقاتل جسور .
إن من ملامح ما بعد النصر أنها كما أنهت المؤامرة الاقليمية والدولية الكبري علي البلاد ، فإنها قد انتهت بها حقبة جيل السبعينات والثمانينات ومعظم مواليد الاربعينات والخمسينات من أبناء السودان الذين عمروا بلادهم وأداروها في تلك الحقبة . فمن عبر منهم إلي الدار الآخرة فهو رجاء الله تعالي ومغفرته ورضوانه . ومن بقي منهم فهو في فترة المراجعة والإنابة والاستعداد للرحيل ، مع بذل ما اكتسبه من تجارب الحياة العامة والخاصة للجيل الناهض بأعباء الحياة القادمة . فبتقدم العمر وبتغير الأحوال وباختلاف أهداف المرحلة وتحدياتها لم يعد هناك من يطمع من أبناء ذلك الجيل في منصب أو في قيادة أو مكسب دنيوي إلا ما ندر ، وقد عبروا عن مواقفهم هذه في مناسبات عدة . فليهنأ الذين أصابهم الوجل من عودة مشاهير سابقين إلي تولي الحكم مجددا فلا العمر ولا الرغبة ولا الأحوال تسعفهم في ذلك . ولتستعد الأجيال الناهضة لتولي مسئولية إدارة الحياة في الدولة والمجتمع بمواهبهم في العلم والمعرفة ، وليدخلوا بابتلاء الله لهم في معترك الحياة بالعزم والحزم والزهد والاستقامة ، وبحب الله وحب الوطن وحب الناس وكراهية الفساد والخيانة والجريمة .
إن النظر في أسبقيات العمل في الدولة تفرض علي المرء البدء بما هو أولي . ولا أحسب أن قضية ما تسبق قضية الأمن القومي في البلاد . فبفقدان الأمن فقد أهل السودان كل شيء ، النفس والأرض والمال والعرض والطمأنينة والتعليم والصحة واجتماع الأسرة وغيرها . لقد كان عقلاء المجتمع يطلقون المحاذير للشعب السوداني عن مخطط العدو الخارجي لاستهداف الوطن والمواطنين ، ويبينون لهم ملامح التخطيط المجرم لاحتلال البلاد ، وقد نشرت ملامحه في وسائل الإعلام الغربية باقتراب احتلال دول في المنطقة من بينهم السودان ، ولكن غفلة العامة كانت كبيرة ، وتصديقهم لوقوع الكارثة كان ضعيفا ، وحسبوها مناورات من ساسة يريدون بها التكسب ، فلم يستبينوا النصح حتي وقعت الواقعة ورأوا بأعينهم ما لم يخطر ببالهم من فظائع الحرب وقسوة المجرمين ووحشية البشر وهمجية ليست من طبائع الحيوان ، وأصبح مخطط العدو يجوس خلال ديار المواطنين العزل في القري النائية والمدن الوادعة . ولولا لطف الله وحسن تدبيره ورعايته لفقدنا أرض السودان بما تحمله من مواهب الله الثرة وعواريه المستودعة ومنائحه الدارة وخيراته الوفيرة ومساجده العامرة وخلاويه التالية لكتابه ، ولأصبح أهله مشرودين في دول لا تعرف معاني الإخاء والنصرة وحب الناس واستقبال الملهوف .
فمن أجل هذا الدرس القاسي تكون العظة للحاكم والمحكوم علي السواء بأن قضية الأمن القومي هي القضية ذات السبق في الترتيب ، بلا تراخ ولا تفريط ، ولا استهانة ولا استكانة ولا مجاملة لقريب أو بعيد أو لصديق أو عدو . فإن كان في خزينة البلاد وفي خزائن أفراد مال كثير أو قليل فهو أولا لتأمين البلاد ، والبدء بالقوات المسلحة وقوات الأمن وقوات الشرطة . إن مضاعفة الاحتياطي البشري لهذه القوات في ظل التهديد الماثل والذي لم تزدة الأيام إلا تأكيدا ، ينبغي أن يضاعف بعشرة أضعافه . والقوات النظامية تدرك كيف تفعل ذلك دون عنت ومشقة . ومضاعفة الاحتياطي البشري تظل تأمينا للبلاد من أي تمرد داخلي وأي غزو خارجي ، كما أنها سند ميسور لمواجهة الكوارث الطاريئة ، وهي أيضا مورد للمعلومات ورصد لكل نشاط تخريبي في الاقتصاد ومكافحة التهريب وتجارة المخدرات والوجود الأجنبي غير المقنن ، وفي الحيلولة دون انفجار النزاعات القبلية وفي اختراق الحدود وغيرها .
إن مضاعفة قوات الاحتياط بشريا لابد أن تصحبه مضاعفة القدرات القتالية والتأهيل الأمني والتدريب المتقدم والإعداد النوعي الذي يستجيب للتطوير الفني باضطراد كلما تطورت الأنظمة التقنية ليواكب تطورها تجاوزا للتخلف وحرصا علي التفوق المستمر الذي يفضي إلي يأس شياطين الإنس والجن من الطمع في بلادنا .
بالطبع هنا لا نتحدث عن تطوير القدرات العسكرية الدفاعية والفنية ، حيث أن قادة هذه الأجهزة أكثر دراية منا ، ولا نتحدث عن إعادة هيكلتها كما كان يفعل جهلة الحرية والتغيير وعملاء السفارة الغربية وخونة الزمرة المستعبدة وأرباب اليسار المستخدم ، ونحن نعلم أن ما لدي هذه الأجهزة ما يعينها في تطوير استراتيجيتها كلما لزم الأمر . ومع ذلك نلمح ولا نفصل في إعادة النظر في الخارطة الجغرافية الدفاعية بما يعين علي قيام مدائن حضرية جديدة مزودة بوسائل دفاعية مقتدرة وقدرات انتاجية مقتدرة ووسائل اتصال عالية الجودة وصناعات تحويلية ومصدات دفاعية محكمة وخارطة دائرية متصلة لا تعين العدو علي اختراق البلاد كما فعل الآن ، وتستوعب في داخلها نخبة كبيرة من الخريجين لتقوية حصون البلاد الجديدة ، ولميلاد جيل عالم مستنفر معبأ ومقاتل ومنتج ومهتد وهاد لأمته المحفوظة بعناية الله تعالي .

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • أحمد إبراهيم الطاهر: نهاية الحرب الضروس قد باتت وشيكة بما قدمته القوات المسلحة
  • مولانا احمد ابراهيم الطاهر يكتب: الجمهورية السودانية الثانية
  • وزير الإسكان: جارٍ تنفيذ المرافق والطرق بالمنطقة البديلة شمس الحكمة
  • السجن 5 سنوات لمندوب مبيعات بالاتحاد التعاوني الاستهلاكي لاتهامه باختلاس 227 ألف جنيها
  • السجن المؤبد للمتهم بالشروع في قـ.ـتل شخص ببورسعيد
  • السجن 5 سنوات لمندوب مبيعات في جريمة اختلاس ببورسعيد
  • السجن 5 سنوات لمندوب مبيعات بشركة مشروبات غازية ببورسعيد لاختلاسه 350 ألف جنيها
  • السجن المؤبد لمتهم شرع في قتل آخر ببورسعيد
  • السجن المؤبد لعامل بتهمة الشروع فى قتل شخص بسوهاج
  • «التمسك بالهوية المصرية» ضمن فعاليات نادي أدب الطفل بالغربية