لجريدة عمان:
2025-03-05@01:48:25 GMT

لا أحد ينتبه للهندباء البريّة !

تاريخ النشر: 20th, August 2023 GMT

«هل يمكن للطبيعة أن تمارس أدوارها بينما نُغلقُ أعيننا؟» كان هذا أحد أسئلتي المُعذبة في طفولة بعيدة، «فما الذي يحملُ الطبيعة على ذلك إن لم تكن مرئية أصلا؟» لكن ما زاد شقائي هو أن تتبرعم حياة ما أو تموت في أكثر الأماكن قسوة دون أن تثير انتباه أحد لنضالها في شقوق مُظلمة ومعزولة.

استيقظت هذه الأسئلة مجددا وأنا أعيد قراءة واحدة من أعذب روايات ياسوناري كاواباتا «هندباء برّية»، ترجمة: جولان ناجي.

فعَبْر قصّة جذابة، تتبعُ الرواية تاريخ الندم، لنكتشف أنّ أكثر ما ينقذنا يكمنُ في وجود وجهة نظر أخرى للقصّة الواحدة، لاسيما عندما نمرُّ بفجيعة قاسية، فلا يعود بإمكاننا تغيير الطريق الذي بدأناه.

رواية تكتنفها الغرابة منذ اللحظة التي نعرف فيها أنّ الكاتب تركها غير منتهية،؛ لأنّه قرر إنهاء حياته عام 1972، وحتى الولوج إلى تلك المحاورة الفلسفية العميقة.

يحاول «هيسانو» أن يُخرج خطيبته وأمّها من فكرة مُوجعة تكمن في أنّهما كانتا السبب في موت الأب، فالأمّ دفعت الابنة لمرافقة والدها لركوب الأحصنة والابنة شاهدت سقوط والدها وحصانه من أعلى الجرف، ولأنّ الأمر فوق تحملها فقد كابدت نوبة «عمى الجسد»، وهو مرض نادر يعني تعطل وظيفة عصب بصري بشكل مؤقت. ترغبُ الأمّ في أن تُبعد الخطيب عن ابنتها، فترسلها إلى مصحة المجانين؛ الأمر الذي يثيرُ تعجبنا بوصفنا قرّاء كما يثير تعجب «هيسانو».. فلماذا تخلطُ الأمّ بين العمى وبين مستشفى المجانين!

ثمّة ارتداد إلى زهرة الهندباء الأكثر تصميما على الحياة والتبرعم، تلك التي لا يتم فحصها بانتباه في طوكيو. النبتة البرية التي لا تزرع في حديقة أو في إصيص، على نقيض زهرة الكاميليا التي تنمو في الحدائق، وتُدرك أنّها مرئية من محبيها. هكذا يظن البعض أنّنا غير موجودين قياسا بعدم معرفة الآخر بنا، لكن في الحقيقة جهل أحدنا بالآخر لا ينفي وجوده. ولذا فعندما تُزهر الهندباء، فتلك علامة فارقة، تُخفف شعور الزوار بالذنب تجاه ذويهم وأحبتهم الذين احتُجزوا في مكان بالغ القسوة مثل تلك المصحة.

يُلاحظ الخطيب والأمّ طوال طريق العودة أشياء كثيرة، لكنهما يختلفان حولها. فهي لا تمثلُ ذات الشيء لكليهما ابتداء من زهرة الهندباء، وليس انتهاء إلى الصبي الجني الذي مرّ بينهما.

لم تكن الأشياء وحدها التي يختلفان حولها، وإنّما الأفكار التي يضمرانها للقصص التي رافقت ليلتهما العصيبة عندما تركا الابنة لأول مرّة في مصحة المجانين! تصعد بين الأمّ وخطيب الابنة محاورة طويلة، يربطُ هذه المحاورة العميقة «الابنة» التي رغم غيابها بوصفها فاعلا أصيلا في الأحداث، إلا أنّها مُستعادة من خلال الأحاديث.. هكذا تبدو الغائبة وغير المرئية كثيفة الحضور؛ ولذا تُقلب حكاية الابنة على أكثر من وجه، وفي كل مرّة تظهر حقيقة غائبة كمن يجمع قطع «البازل» المتفرقة.

فهل هو الهلع الذي جعل الابنة تصابُ بعمى الجسد عقب مشاهدتها سقوط والدها، وهل يمكن أن نبقى محبوسين في لحظة تلاشي أحبتنا من أمام أعيننا!

لكن الفكرة المُرعبة هي رغبتنا المحمومة في أن نُرى، فعندما سُمح للمرضى بالقرع على الناقوس، فإن الصوت المدوي كان ارتداد آلامهم، كان يجعلهم يصدقون بحقيقة وجودهم في الحياة، رغم أنّ أهالي البلدة لا يعرفون من عساه يقرع الناقوس في تلك اللحظة!

كما أنّ الشجرة التي حفر المجانين أسماءهم عليها -فتركوا الندوب على جذعها- كانت محاولة أخرى لترك علامة تخصهم كي يثبتوا أنّهم كانوا موجودين هنا يوما ما، وفي الحقيقة «لا نعرف على وجه اليقين إن كانت الشجرة وهي تنزُ دمع جراحها تبكي على المجانين أو بسببهم! لكن المؤكد فيما لو قطعت الشجرة لن يعود هنالك ما يدل على أنّ المجانين كانوا أحياء!»، الأمر الذي يجعلنا نتعجب لأنّ «الجنون في تجلياته أوضح من العقل».

تدفعنا الرواية لأن نُقدر تلك الحيوات التي عُزلت أو عَزلت نفسها عن الضوء بالمعنى الواقعي والمجازي، تلك التي تنمو في الخفاء غير مُنشغلة بترك علامة أو أثر لكي تُرى، تلك التي تُرينا الوجه الآخر من قصّتها.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

لا تؤذوا عكرمة!

مما لا شك فيه أن مراعاة مشاعر الغير أصبحت عملة نادرة الوجود الآن، أن يؤذيك أحدهم بكلمةٍ أو نظرةٍ أو تلميحٍ بات منتشرا بين معظم العلاقات من أبعدها حتى أقربها، فنجد زملاء العمل عادة يتنمرون ويتلامزون بين بعضهم البعض، نجد الأصدقاء فيما بينهم، بل الأشقاء وأحيانا الأزواج، هذا الزوج يتعمّد مضايقة زوجته بالكلام، وهذه الزوجة تداوم إغضاب زوجها، علاقات مضطربة وبنية اجتماعية هشّة تحتاج لإعادة بناءٍ وترميم.

بالتأكيد لن نجد طريقة لدعم هذا البناء وترميم هذه العلاقات أفضل من منهج المصطفي صلى الله عليه وسلم، الذي رسم لنا من خلال حياته أفضل الخُلُق وأجّل الصفات.

نعم كانت حياته دائما مصباحا ينير لنا كل شيء، وما ضاقت حياتنا وانتشرت بها كل تلك الصفات الذميمة إلا بسبب البعد عن هذا المصباح والاختباء عن نوره الوهّاج. بالطبع كي أتكلم عن حسن خلُق المصطفي وكرم أخلاقه ومراعاته لشعور الآخرين لن يسع ذلك مجرد مقال واحد بل علينا كتابة عشرات أو مئات المقالات، لذا سأذكر فقط موقفا من كرم أخلاق خاتم النبيين وسيد الخلق عامة.

بعد دخول الرسول صلى الله عليه وسلم مكة فاتحا، بدأ الناس يتوافدون عليه كي يعلنوا إسلامهم، وممن تشفعت له زوجته كان عكرمة بن أبي جهل الذي استأذن للدخول بين يدي المصطفي يعلن إسلامه، وقبل دخول عكرمة أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يوصي الصحابة.

ولكن!! ما هي تلك الوصية التي أخذ يؤكد عليها الرسول وهو قائد المسلمين جميعا، وهو الفاتح المنتصر الذي دانت له الآن أهم فصائل الجزيرة العربية وقلبها النابض، بماذا أوصى المصطفي أصحابه قبل دخول عكرمة؛ وقد عانى الأمرَّيْن منه في الماضي ولم يمض أصلا عما فعله في نقض الهدنة مع قبيلة خزاعة إلا فترة قليلة والتي بسببها فُتحت مكة؟

هل سيوصي صحابته الذين يأتمرون بأمره أن يلوموا عكرمة عما كان منه؟

هل سيوصيهم أن يذكّروه بما فعل مع المسلمين سابقا؟

هل سيتم فتح ملف الماضي قبل الدخول في الإسلام؟

لا والله لم يحدث ذلك، هذا يحدث من أي أحدٍ إلا أكرم الخلق وأبرّهم، فقد قال لهم بالنص: "سيدخل عليكم الآن عكرمة مسلما، فلا تذكروا أباه بسوء".

والله هذه الرواية إن لم تكن في أدق درجات الصحة لما صدّقتُ، أي طراز من البشر كان محمدا، وأي أخلاقٍ كانت عند هذا الرجل؟!

لقد تعدى الأمر مرحلة العفو عن عكرمة، بل وصلت إلى أن يطلب من أصحابه عدم ذكر أبيه بسوءٍ أمامه مراعاة لشعوره!!

من هو أبوه؟ هو أبو جهل، فرعون الأمة وأحد أكبر طغاتها. هو من عذَّب المسلمين أشد العذاب في الماضي بمن فيهم المصطفى نفسه، هو من أشد صناديد قريش حقدا وغلا على المسلمين، هو من مات على كفره وحربه للإسلام في بدرٍ.

ولكن مع كل هذا يرفض ذو الخلُق الكريم إيذاء وافدٍ جديدٍ لدين الإسلام في أبيه.. مع كل هذا يتناسى المصطفى كل ما فعله هذا الهالك من أجل شعور ابنه والمحافظة على حالته النفسية، لم يجعل الأمر متروكا للصحابة حتى يتكلموا عن كفر أبيه، فعكرمة ما زال حديث عهدٍ بالإسلام ولا يعرف قواعده ولكن قال لهم قولا واحدا هو والله أفضل من كل محاضرات التنمية البشرية ودورات علم النفس، قولا يجب أن يُدرّس في منظمات حقوق الإنسان ويوضع على لافتات الأمم المتحدة التي تدّعي الإنسانية والمثالية، وذلك حين قال:

"سيدخل عليكم عكرمة الآن مسلما فلا تؤذوه في أبيه".

مقالات مشابهة

  • لا تؤذوا عكرمة!
  • الدور المصري الذي لا غنى عنه
  • معبر رفح البري يستقبل 25 مصابًا فلسطينيًا
  • معبر رفح البري يستقبل 57 مصابًا ومرافقًا فلسطينيًا للعلاج بالمستشفيات المصرية
  • إغلاق موسم الصيد البري في تركيا
  • فتاة تصر على العودة لحبيبها المعتدي رغم محاولة أمها منعها بجسدها .. فيديو
  • وزارة السياحة تعلن الضوابط الفنية الخاصة برحلات الحج البري
  • ميناء رفح البري يستقبل 34 مصابا ومريضا فلسطينيا و55 مرافقا لهم
  • حقيقة المُسميات وخداعها
  • نظام النقل البري.. تحفيز الاستثمار وتأكيد على الضوابط