في مقالنا السابق الذي نُشِرَ في الملحق العلمي لجريدة عمان -العدد التاسع عشر- تناولتُ سردا عن الأحلام التي تقاطعت بين أحلام الإنسان وأحلام الروبوت وما يتصل بهذا التقاطع من أبجديات فلسفية عميقة تتعلق بالوعي والذكاء العاطفي، ولكن ما هو أكثر دهشة وحيرة ذلك النوع من الأحلام الذي يتحقق ويصير واقعا بعد خوض الإنسان تجربته مناميا، وهنا لا نجد للروبوت الآلي المدعوم بالذكاء الاصطناعي أيّ صلة بهذا النوع من الأحلام التي تضاربت آراء العلم في تفسيرها بين مؤيد لحقيقة وجودها وبين ناكر لها ليصفّها في خانة الظنيّات والأوهام.

في مقالنا هذا، نستكمل السرد في عالم آخر للظواهر التي يصنّفها بعضنا بالميتافيزيقية، ويرى بعضنا الآخر وجودها الطبيعي وبطابع علمي مغاير للقوانين العلمية السائدة؛ فتحتاج إلى اكتشاف أعماقها، وتحديد عناصرها العلمية التي يمكننا بواسطتها تأسيس مبدأ علمي مساند، ولكن سنحتاج أيضا إلى سبر أغوار الارتباطات الثقافية والدينية والأسطورية بمثل هذه الظواهر قبل أن نطرق أبواب العلم خصوصا الحديث الذي أظهر قدرة تتسم بالمرونة في التعامل مع مثل هذه الظواهر ذات الحصول النادر والمبهم. سيكون حديثنا عن ظاهرة «الترددات» التي سنحتاج إلى تبيان معناها، وسياقات استعمالاتها، وتجاربها المسجّلة عبر برامج مثل سال125، وكيف تعاملت معها الثقافات الشرقية والغربية وفق أبعاد الثقافة الاجتماعية والدينية، وأخيرا سنجيب على سؤال المقال الأبرز: أيمكن للعلم أن يفسّر التأثير الترددي ومفهوم الطاقة الكونية؟

ماذا نقصد بالترددات؟

الترددات، بمفهومها العلمي الشامل، تشير إلى تذبذب الموجات سواء كانت صوتية، ضوئية، أو كهرومغناطيسية، وما يعنينا في مقالنا هذا التركيز على نوع الموجات الاهتزازية التي تقاس بوحدة «هرتز/Hz»، وتعني قياس عدد الموجات أو الدورات في الثانية الواحدة، ولكن في السياقات الميتافيزيقية والثقافية، تعكس الترددات بُعدا أعمق يتجاوز الجانب الفيزيائي؛ فتُنسب إليها تأثيرات على الحالة النفسية، والصحية، وحتى الروحية -بمعنى الوعي- للإنسان والكائنات الأخرى، وحتى المواد الجامدة غير الحية وفق التصنيف البيولوجي، وتكون في صبغتها العلمية اهتزازات ليس بالضرورة لها ارتباط بأصوات مسموعة، ولكن في بعض حالتها تكون بترددات تتباين في درجة إدراكها من قبل الجسم الخارجي سواء كان إنسانا، حيوانا، نباتا أو حتى جامدا؛ وهذا ما يقود إلى فرض اعتقادات ترى أن الطاقة والترددات وجهان لعملة واحدة؛ فالكون عبارة عن مجموعة من الطاقات بما فيها تلك التي تتشكّل عبر الترددات الاهتزازية؛ فيكون كل شيء في الوجود ذا تردد خاص به يحدد طاقته الخاصة، وهذا ما قاد بعض الباحثين ومراكز البحث العلمي إلى محاولة اكتشاف هذا النوع الخفي من الطاقة، وخرجت دراسات كثيرة ومؤلفات بطابع علمي، وتطوّر الأمرُ إلى بروز عدد من التطبيقات العملية التي تستغل هذه الترددات في سبيل صناعة تأثيرٍ للوعي بلوغا إلى التشافي الروحي -توازن الوعي وارتفاعه- والنفسي والجسدي.

كيف تُفهم طاقة الترددات

في الثقافات الإنسانية والأديان؟

رغم تنامي الوعي العلمي بشأن الترددات وتأثيرها؛ فإن التاريخ سجّل لنا وجود علاقة طردية بين الأساطير وعملية تشكّل التصور الشعبي للترددات التي يمكن أن نصفّها مع باقي الثقافات البشرية الممتزجة بالممارسات والمعتقدات الخاطئة والصائبة؛ فمن السهل رصد مثل هذه السرديات الأسطورية التي تصوّر الترددات على أنها أدوات لتواصل الآلهة مع البشر أو بمنزلة الوسيلة لفتح أبواب خفية نحو عوالم أخرى، وهذا ما حدث -ويحدث- أيضا في الأديان عبر ممارسات الأذكار والترانيم؛ فتعتقد بعضُ الأديان أن الأصوات المكررة بتردد معين يمكنها صناعة حالة من الصفاء الروحي أو تحقق الاستجابة الإلهية. بعيدا عن هذا التمازجات وارتباطاتها الأسطورية، فإننا نجد استعمالَ الترددات في التطبيقات العلاجية والروحية لا يعدّ شيئا جديدا؛ فاستعملت في العديد من الثقافات الشرقية والغربية لتعزيز السلام الداخلي والتوازن النفسي والروحي، ومن أمثلة ذلك «ترددات سولفيجيو» التي يُتصور أن لها تأثيرات شفائية خاصة عند سماعها. قضية الترددات واستعمالاتها الروحية والعلاجية لها جذورها التاريخية القديمة في الثقافات الشرقية، وخصوصا في الفلسفات الهندية والصينية؛ فتنظر هذه الحضارات إلى الترددات باعتبارها جزءا جوهريا لا ينفصل عن مفهوم الطاقة الكونية، وما زال استعمال هذه الترددات الصوتية في الثقافات الشرقية مستمرا حتى يومنا، وتأتي في صورها المتعددة مثل الغناء والتأمل والأصوات الطبيعية؛ وتفترض هذه الثقافات بحدوث التوازن بين الجسد والعقل نتيجة التفاعل مع هذه الترددات. في زمن قريب غير قديم، نرصد اهتمام الثقافات الغربية بالترددات من منظور عملي وعلمي، مع التركيز على التطبيقات التقنية مثل الموجات الصوتية المستعملة في العلاج الطبيعي أو الاسترخاء، وهذا ما سنعتمده في سبر منطقة العلم وأدواته الحديثة في فهم الترددات بحقلها الميتافيزيقي.

تجربة شخصية مع الترددات

تعاملت مع حقل الذبذبات بشقيه «الأول»: الهندسي الميكانيكي، و«الثاني»: الذي يتعلق بالطاقة والتأثير على الوعي والمادة، ورغم أن هناك فرقا بين هذين الشقين من حيث أبجديات العمل والتوظيف وليس من حيثُ المبدأ العلمي الرئيس؛ فكلا النوعين يتفقان على اعتماد الترددات الاهتزازية المقيسة بوحدة «هرتز»، وعلى أن لكل حركة ومادة ترددها الخاص، ولكن يأتي النوع الأول بتعامله الميكانيكي الهندسي المحض ليعبّر عن علاقة الحركة الميكانيكية واهتزازاتها الترددية بحالة الآلة وآلية فهم سلوكها الميكانيكي، وأما النوع الثاني فيتعامل مع الترددات الاهتزازية باعتبارها لغة كونية شمولية تترجم طاقة الكون ومحتوياته الحسيّة والماديّة،

ورغم أنني أقرب إلى النوع الأول فيما يخص علم الترددات التي ارتبطت به دراسة وبحثا وتدريسا منذ سنوات طويلة؛ فسبل فهمي أقرب إلى العالم الميكانيكي الذي زاوجت تردداته الاهتزازية بخوارزميات الذكاء الاصطناعي لتطوير أداوت تترجم اللغة الترددية الميكانيكية بمنحى أكثر جودة وسرعة، ولكن قبل عدّة سنوات طرقتُ بابَ النوع الثاني واندسست إلى عالمه الواسع والمعقّد عبر عدة خطوات بداية مع القراءة فيما نشر عن هذا الحقل المدهش من دراسات علمية موثوقة وكتب بصبغة علمية -سأعرض بعضا من أبرز هذه الدراسات والكتب في فقرات قادمة- التي ساهمت في تأسيس أرضية علمية أبعدتني عن التأويل الفلسفي المفتوح والثقافي الضيّق الذي يرتبط كثيره بالأساطير والخرافات دون البناء على دليل علمي موثوق، وهذا ما أراه سائقا إلى بناء ثقافة الجهل والخرافة -حتى لو وافقت بعض هذه الثقافات حقيقة يؤكدها العلم ويطمئن إليها- في ظل تغييب العنصر العلمي المبني على الافتراض الأولي والتجارب والمشاهدات بلوغا إلى تحقيق اليقين. جاءت بعدها خطوة الكتابة في الحقل؛ فانطلقت في تدوين الملحوظات والتأملات والشهادات العلمية؛ فصغتها في كتاب عنونتُه بـ«بين العلم والإيمان»، وخضتُ مؤخرا تجربة ذات طابع علمي لسبر الواقع التجريبي -عبر برنامج إلكتروني «مدفوع» متخصص في عالم الترددات الصوتية- لهذه الذبذبات بهيئتها الصوتية التي تأتي في شكل أصوات ونغمات متعددة تعكس ترددات تقاس بوحدة «هرتز»؛ فكان لي تجارب استماع مستمرة لهذه الترددات تتعامل مع مظاهر الطاقة المتعددة مثل الجسدية والروحية والنفسية، ولا أنكر أنني سجّلتُ حدوثَ تأثيرات مباشرة وغير مباشرة خصوصا فيما يمكن أن أسميه بالطاقة النفسية -من حيث تغيرات المشاعر عبر المراقبة والمقارنة- والطاقة الروحية -من حيث تغيرات الوعي ودرجات توازنه- وما زلتُ مستمرا في مراقبة هذه التأثيرات والتحقق من حقيقتها الجوهرية أو احتمالية حصولها عبر حالات الإيمان وقوة تأثيره رغم محاولتي الجادة التجرّد من أيّ اعتقادات ترتبط بهذه الترددات إلا في حالات التعمّد المتعلقة بالفحص العلمي مقارناته.

كيف يفسّر العلم الحديث هذه الترددات وتأثيراتها المرتبطة بالطاقة؟

بدأتُ قراءتي في حقل الترددات وعلاقتها بالطاقة وتأثيراتها بكتاب باللغة الإنجليزية بعنوان «The Field» «الحقل» من تأليف «Lynne McTaggart» «لين ماكتارت»، وعرضت مكتيجارت أعمال الفيزيائيين والباحثين في مجال الحقل الكمي التي تقترحها بأنها مصفوفة هائلة من الطاقة تربط بين كل جسيم في الكون، وشرحت الكاتبة كيف تعمل الترددات -تعرّفها باهتزازات الطاقة- بأنها تعمل باعتبارها وسيطا للتواصل والتأثير على المستويات المجهرية والكونية، وحدد الكتاب عددا من المفاهيم الرئيسة المتعلقة بالترددات والطاقة، ونعرض بعضها مثل:

1. الحقل الكمي باعتباره مصدرا للطاقة: يُوصف الحقل الكمي بأنه شبكة غير مرئية من الطاقة تعمل بمنزلة مصدر التخزين لجميع المعلومات وتبادل الطاقة، وتعمل الترددات داخل هذا الحقل على نقل الطاقة عبر الفضاء الكوني الواسع؛ فيسمح للجسيمات التفاعل مع بعضها بعضا.

2. الرنين وعلاقته بجسم الإنسان: أسهب الكتاب في مناقشة آلية تأثير الترددات على جسم الإنسان خصوصا على المستوى الخلوي؛ حيث تطلق الخلايا ترددات اهتزازية محددة وتستجيب لها، وهذا ما يسهم في الحفاظ على الصحة، وخرج الكتاب بنتائج مستندة إلى دراسات وتجارب تلحظ إمكانية حدوث اختلالات صحية نتيجة الاضطرابات في هذه الترددات وحيدها عن كينونتها الطبيعية المناسبة للحياة والتشافي.

3. الشفاء بالطاقة والوعي: يستكشف الكتاب كيفية استعمال الترددات في ممارسات الشفاء عبر طرق مثل العلاج الصوتي وعلاجات مجال الطاقة؛ إذ تهدف مثل هذه الممارسات إلى استعادة التوازن في الجسم عن طريق إعادة محاذاة تردداته الطبيعية مع تلك الموجودة في الحقل الكمي الكوني.

4. قوة النية وتأثيرها على الترددات: كذلك ركّز الكتاب على فعالية الأفكار والنوايا البشرية في التأثير على الترددات داخل الحقل الكمي؛ فتشير الأبحاث المذكورة في الكتاب نفسه إلى أن التركيز الذهني يمكن أن يغيّر أنماط الطاقة وتأثيراتها الخارجية؛ ليبرهن وجود ارتباطٍ بين الوعي والبيئة الكمية.

5. تأثيرات الطاقة الجماعية: شمل الكتاب مناقشة التأثير الذي يحمله الحقل الكمي وطاقته الترددية على المستويات المجتمعية والبيئية، مقترحا أن الطاقة الجماعية والترددات تشكّل الظواهر العالمية، ويشير هذا المفهوم إلى أن العواطف البشرية ونواياه تسهم في تحديد أنماط الطاقة على المستوى الجمعي والعالمي.

في دراسة بعنوان «Music Tuned to 440 Hz Versus 432 Hz and the Health Effects: A Double-blind Cross-over Pilot Stud» «الموسيقى المضبوطة على تردّد 440 هرتز مقابل 432 هرتز وتأثيراتها الصحية: دراسة تجريبية مزدوجة التعمية بتصميم متقاطع» نُشرت في الدوريّة المحكّمة «Explore» عام 2020م أظهرت وجود تأثير إيجابي بسيط عند الاستماع إلى موسيقى مضبوطة على 432 هرتز مقارنة بـ440 هرتز؛ فسُجّلَ انخفاضٌ طفيفٌ في معدل ضربات القلب وتحسُّن في تركيز المشاركين ورضاهم، ورغم أنّ هذه النتائج أعطت بعدا علميا لتأثير الأصوات بما فيها الموسيقى ذات ترددات معيّنة، ولكنها أوصت بتوسيع دائرة الأبحاث في هذا الحقل لإثبات ما إذا كانت هذه النتائج يمكن أن تُترجم إلى فوائد صحية ملموسة على نطاق واسع. كذلك في كتاب « Tuning the Human Biofield: Healing with Vibrational Sound Therapy» «ضبط الحقل الحيوي البشري: الشفاء بواسطة العلاج الصوتي الاهتزازي»، اقترحت الباحثة والمختصة بالعلاج الصوتي «إيلين داي مكيوسيك» نهجا شاملا لإعادة توازن الجسم ومجال طاقته عن طريق الموجات الصوتية، وتستند «مكيوسيك» إلى عدد من الأبحاث والتجارب السريرية لتوضيح الأسس النظرية لطريقتها، وشرحت تقنيات عملية للشوكات الرنانة التي تصدر منها ترددات يمكن استعمالها في التشافي، وأظهرت كيف يمكن للترددات الصوتية أن تدعم الصحّة الجسدية والنفسية والروحية.

أضع للقارئ المهتم بهذا الحقل حريّة الإبحار في بحره الواسع؛ ليستكشف الدراسات العلمية الأخرى الكثيرة المعنية بالترددات الصوتية وتأثيراتها المحتملة في الوجود وكائناته بما فيها الإنسان، وكما أسلفت آنفا؛ فلست بصدد تأكيد حقيقة علمية بهذا الشأن أو نفيها؛ فالدراسات العلمية أقرب إلى كشف خفايا هذا الحقل العجيب الذي لا أستبعد أن تقل دهشته وألغازه عن تلك التي وجدها العلم ومازال في فيزياء الكوانتم، ولكن أرى من الضرورة أن يستمر البحث العلمي في مناقشة مثل هذه الظواهر التي لا أستبعد تأثيراتها سواء الإيجابية أو السلبية؛ حيث تشير الدراسات إمكانية حصول التأثير بفعل الترددات الصوتية إيجابا وسلبا، ولا أستبعد أن يضع العلم في المستقبل القريب نظرياته المحققة في تفسير هذه الترددات بشكل يقطع الشك باليقين.

د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: هذا الحقل وهذا ما یمکن أن مثل هذه من حیث

إقرأ أيضاً:

سكان كاليفورنيا الأميركية يتفقدون منازلهم التي طالتها النيران

ويواجه السكان تحديات تتعلق بنطاق وسرعة استجابة السلطات فضل عن محاولة بعض المطورين العقاريين استغلال أزمتهم.

22/1/2025

مقالات مشابهة

  • سكان كاليفورنيا الأميركية يتفقدون منازلهم التي طالتها النيران
  • “أدنوك للتوزيع” و”إيميرج” تتعاونان لتزويد محطات خدمة أبوظبي بالطاقة الشمسية
  • ما هو دور الذكاء الاصطناعي في التحول المناخي وعلاقته فى دفع النمو
  • «أدنوك للتوزيع» تزود محطات أبوظبي بالطاقة الشمسية
  • مصر وجنوب إفريقيا تتصدران الدول الأفريقية التي رفعت قدراتها من إنتاج الطاقة الشمسية في 2024
  • الزبيب الأسود وصحة القلب: كنز من الفوائد التي قد تجهلها
  • تتعاون ثنائي لتزويد محطات خدمة أبوظبي بالطاقة الشمسية
  • إعلامي يكشف سبب اتجاه للتعاقد مع لاعب ريال مدريد وعلاقته بـ محمد صلاح
  • ما حقيقة ارتداء أسيرة إسرائيلية للعلم الفلسطيني حتى مع وصولها إلى إسرائيل؟