مراعياً السياق الذي يتكلّم فيه قبل أكثر من ربع قرن مضى، حاول ريتشارد أندريتا، أحد أساتذة قسم اللغة الإنجليزية الأجانب في جامعة الملك سعود، أن يوضّح أهمية شكسبير اللغوية لدى طلابه العرب والمسلمين بالقول إنه بعد القرآن الكريم والسنة النبوية يأتي شكسبير. اعترض أحد الطلاب بالقول إن لدينا ما يفوق شكسبير وذكر شاعر العربية الشهير أبا الطيب المتنبي وأبا العلاء المعري.
المتنبي والمعرّي معجزتان لغويتان في الأدب العربي. يعرف شاعر العراق محمد الجواهري، الذي يعتبر أحد أهم الشعراء العرب في العصر الحديث، هذه الحقيقة وقد عاش تجربة مريرة مع أحدهما وهو صاحب معرّة النعمان عندما أشعرته السفارة العراقية في 1944 أنه الممثل الرسمي للعراق للمشاركة في مهرجان الاحتفال بالذكرى الألفية لأبي العلاء المعري في دمشق.
المشكلة التي واجهها الجواهري هو أنه تلقّى هذا التكليف للمشاركة في قصيدة حول المعرّي قبل أسبوع واحد فقط من عقد المهرجان الذي سيحضره عميد الأدب العربي طه حسين ومجموعة كبيرة من الأدباء العرب. حاول الجواهري الذي كان موجودا وقتها في دمشق الاعتذار بسبب ضيق الوقت لكنه وافق على مضض بعد إلحاح السفارة العراقية. المشكلة الأخرى التي عبّر عنها الجواهري صراحة هي خشيته ألا يكون كفواً لإيفاء أبي العلاء بعضا من حقّه.
يقول الجواهري إنه سهر الليلة الأولى في دمشق وألحقها بالثانية والثالثة وكانت النتيجة من هذه الأيام الثلاثة بلياليهن: قصيدة دالية ذات سبعين بيتا لكنها بعد مراجعة وفحص مزّقها الجواهري قطعا متناثرة، كما يقول، بسبب أنه لم يجد المعري فيها، وكان في غاية الغضب والتوتر والهياج.
اقترب موعد المهرجان ولم ينجح الجواهري وهو ينتظر شيطان الشعر في كتابة بيت واحد. لكن بعد لقاء مع صديقه الشاعر عمر أبو ريشة، وبعد حالة من التوتر والقلق والأرق في الليلة الثالثة، كاد الجواهري أن يوقظ النيام بما يشبه الصراخ، على حد قوله، بعد أن وجد بيتا واحداً:
قف بالمعرة وامسح خدّها التربا
واستوح من طوّق الدنيا بما وهبا
يقول الجواهري إنه بقي يوما آخر على هذا البيت فقط، ولم يتبق على المهرجان إلا يوما واحدا أو اثنين. ذهب إلى زحلة وجلس في أحد أكبر مقاهيها وهو يتصارع مع نفسه في مخاض عسير، كما سمّاه، واختار زاوية من المقهى وجهه إلى الجبل وظهره إلى الناس في إشارة لكل من يعرفه أن يتركوه وشأنه. يقول الجواهري إنه لأول مرة يؤمن بشيطان الشعر. ” كنت أسمع همساً آخر خارجاً من نفسي فأسرعت بإمساك القلم لضبط الحروف والكلمات كي لا يفوتني شيء منه”. كان الجواهري غير مصدق لهذا الهمس فضرب الطاولة بجمع يده بصورة استرعت انتباه من حوله. نهض ودفع الحساب وركب أول سيارة عائدة إلى دمشق وقد توقف الهمس وانتهت القضية وأصبحت القصيدة (91 بيتا) في جيبه. كان ترتيب قصيدة الجواهري في المهرجان بعد كلمة طه حسين الذي وقف وقال: صدق رسول الله. إن من البيان لسحرا.
khaledalawadh @
المصدر: صحيفة البلاد
إقرأ أيضاً:
من العصر القديم إلى الحديث.. رمضان في الشعر العربي.. تجليات روحية وصور أدبية
يحتل شهر رمضان مكانة خاصة في وجدان المسلمين، حيث تتجلى فيه قيم العبادة، والتأمل، والتواصل الروحي، ولم يكن الشعراء بمنأى عن هذا التأثير، فقد تغنوا بجمال الشهر الكريم، ورصدوا أجواءه الروحانية وأثره في النفوس، معبرين عن معاني الصوم والطاعة والصفاء الروحي.
رمضان في الشعر العربي القديمفي العصر العباسي والأندلسي، أبدع الشعراء في وصف رمضان باعتباره شهر العبادة والتقوى. يقول أبو تمام في قصيدة مشهورة: (والصوم مروضة النفوس لفطْرها.. عن لذةِ الإثم الذي هو ملتذ).
ويرى أن الصوم يروض النفس، ويبعدها عن الذنوب والشهوات، ليكون وسيلة للتطهير والتقرب من الله.
أما الشاعر الأندلسي ابن العريف، فقد صور رمضان ببهجة خاصة، واعتبره موسماً للتوبة والمغفرة، حيث يقول: (وشهر الصوم منتصف تجلى
ينادي بالتقى في كل واد).
أما في الشعر الصوفي، فقد تميز رمضان بوصفه فرصة للوصول إلى الصفاء الروحي والانقطاع عن الدنيا للتركيز على الله، وكان جلال الدين الرومي وابن الفارض من أكثر الشعراء الذين مجدوا هذا الشهر بطريقة رمزية، حيث شبهوا الجوع بالصيام عن كل ما يشغل القلب عن الله، يقول ابن الفارض: (إن لم يكن فِي معادي آخِذِي بيدي.. فما صيامي وما صومي وما سنني)، ويعني هنا أن الصوم ليس مجرد الامتناع عن الطعام، بل هو تقرب روحي إلى الله، وتطهير للقلب والنفس.
رمضان في الشعر الحديثفي العصر الحديث، استمر الشعراء في الاحتفاء برمضان، ولكن بأساليب أكثر بساطة وأقرب إلى الحياة اليومية، فقد صور أحمد شوقي رمضان بكونه شهر الخير والرحمة، حيث يقول: (رمضان ولى هاتها يا ساقي.. مشتاقة تسعى إلى مشتاق)، ورغم أن البيت يتحدث عن انقضاء رمضان، إلا أنه يعكس اشتياق الناس لهذا الشهر بكل تفاصيله.
أما محمود حسن إسماعيل، فقد صوّر مشاهد رمضان في الريف المصري، حيث تحدث عن صوت المسحراتي، وعن تجمع الأسر حول موائد الإفطار في أجواء مليئة بالدفء.
ويظل رمضان ملهمًا للشعراء في كل العصور، حيث يجسد معاني الطهر والتأمل والتقرب من الله، وبينما ركز القدماء على الجوانب الروحانية والتعبدية، تناول المحدثون أجواءه الاجتماعية وتأثيره في الناس. ورغم اختلاف الأساليب، يبقى رمضان مصدر إلهام متجدد في الشعر العربي.