لجريدة عمان:
2025-01-22@01:57:13 GMT

الذكاء الاصطناعي في المسرح

تاريخ النشر: 21st, January 2025 GMT

لستُ من القلقين حول توظيف الذكاء الاصطناعي فـي المسرح على المستويات جميعها، لكن قلقي ينبع ككثيرين (المؤلف والمخرج والسينوغراف) من الاعتماد الكامل فـي توجيه الذكاء الاصطناعي للقيام بمهمات عديدة كزرع نواة الحكاية وتأليفها وتسليمها إلى المخرج الذي بدوره سوف يعدلها وحصر عدد ممثليها، فعلى سبيل الشاهد عوضَ أن تكون المسرحية متضمنة عددا من الممثلين أو الجوقة بتعبير الكلاسيكيين، يمكن للذكاء الاصطناعي اقتراح اختزالها فـي مونودراما أو ديودراما.

ولا يقف الأمر بالاستفادة من قدرة الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته عند هذا الأمر، بل يُمكنه التمدد إلى مستويات متعددة كاختيار نوع الإضاءة والأزياء والموسيقى المناسبة والقاعة المثالية الصالحة لتقديم العرض وكذلك قدرته على انتخاب الجمهور الملائم، من الأعمار والشرائح .

أعود إلى سؤال قديم سألته نفسي بعد قراءاتي لقصة حُلم الحكيم الصيني (جوانج زو)، وكان السؤال: هل يُمكن تحقيق حلم جوانج زو فوق خشبة المسرح على وجه الحقيقة، لا وجه المجاز؟ أمّا الحلم فتروى قصته كما يلي: «رأيتُ أنا جوانج زو مرّةً فـي منامي أنّني فراشةٌ تُرفرفُ بجناحيها فـي هذا المكان وذاك، أنا فراشةٌ حقا من الوجوه جميعها، ولمْ أَكنْ أُدركُ شيئا أكثرَ منْ تتبعي لخيالاتي التي تُشعرني بأنّني فراشة، أمّا ذاتي الإنسانيّة، فلم أكنْ أُدركها البتّة، ثُمَّ استيقظتُ على حينِ غفلة وها أنا ذا مُنطرحٌ على الأرض رجلا كما كنت، ولستُ أعرفُ الآن هل كنتُ فـي ذلكَ الوقتِ رجلاً يحلمُ بأنّه فراشة، أو أنّني الآن فراشةٌ تحلمُ بأنّها رجل».

لم أخفِ دهشتي أو متعتي بحلم جوانج زو. منطلقات الحلم ليس صراعا بين الأنا والذات فحسب، أو بين الحقيقي وغير الواقعي، أو المحسوس واللامحسوس، بل أعدّه درسا تأسيسيا فـي تربية الخيال الإبداعي وتنمية مستوياته، ومحفزا للابتكار وآلية أوليّة لتشريح التفكير الناقد.

منذ اختراع الأساطير، والإنسان يسعى باحثًا عن تفسير الماورائيات والموجودات من حوله. كانت الأفكار الغريبة وتشظياتها تحفر فـي داخله، فلا يستكين، ولا يهدأ. فلماذا وصل بنا الخوف أن نرى ما نتخيله مجسدا فوق الخشبة؟ هل سببه الخوف لمجرد الخوف؛ لأن الإنسان عدو ما يَجهل؟ فـي سياق الابتكار والإبداع والطموح بالذهاب مع الخيال إلى عوالم غير مُدركة ولا ملموسة، لم يكن مثلا صانعا أول طائرة حقيقية (الأخوان رايت - 1903م) إلا تراكما لحق بأفكار مَن سبقهم من محاولات فـي الطيران بدأها (عباس بن فرناس 810 - 887م) الذي حاول «الطيران عن طريق القفز من مكان مرتفع عن طريق أجنحة من الحرير وريش الطيور».

هذه المحاولات وغيرها الكثير كانت دافعا لتطوير البحث فـي مجالات العلوم التي من بينها علم الحاسوب، حتى جاء اكتشاف الذكاء الصناعي Artificial Intelligence- AI الهادف «إلى إنشاء أنظمة وبرامج قادرة على محاكاة القدرات العقلية البشرية، مثل التفكير والتعلّم واتخاذ القرارات وحل المشكلات. يعتمد الذكاء الاصطناعي على خوارزميات وتقنيات تمكّن الآلات من أداء مهام تتطلّب ذكاء بشريا».

الناظر إلى الذكاء الاصطناعي المُنطلق من فعل المُحاكاة Mimesis يعيدنا إلى المعلم الأول أرسطو. فالمحاكاة نقلا عن (معجم المصطلحات المسرحية - للدكتور أحمد بلخيري - ص396) هي «تقليد أو عرض شيء. وفـي الأصل تعتبر المحاكاة تقليدا لشخص بوسائل فـيزيقية أو لغوية؛ هذا الشخص يمكن أن يكون شيئا أو فكرة، كما يمكن أن يكون بطلا أو إلها. وفـي شعرية أرسطو يتحدد الإنتاج الفني انطلاقا من كونه تقليدا للفعل».

ليس من شك فـي أن موضوعة المحاكاة هي منطلق جميع الفنون والأفكار والإبداع، وأن السعي البشري بالتقدم العلمي إنما يهدف إلى السيطرة على الوجود والتمركز فـي العالم والتحكم فـي المسار البشري والهيمنة عليه بتعطيل أجزاء من قدراته الحيوية، فالعقل البشري الجامح الذي لا يعترف بوجود إله يُنظم الكون، لا تُهمه الأخلاق ولا القوانين ولا الأعراف التي وضعها الإنسان لتنظيم العلاقات بين الناس على امتداد الحضارات المنتجة.

أعود من جديد إلى أرسطو، ولكن هذه المرة فـي فلسفته التي نظر من خلالها إلى الوجود، الفلسفة التي شكلّت أساسا لنظرية الدراما فنيا لا تاريخيا. فـي كتابها (المسرح بين الفكر والفن) تناقش الأكاديمية الراحلة الدكتورة نهاد صليحة بتوسع المسرح بين النظرية الدرامية والنظرة الفلسفـية متتبعة فـي أحد فصوله أسباب هيمنة النظرية الدرامية الأرسطية على المسرح الغربي حتى القرن العشرين، متمثل ذلك كما تقول فـي وجود «تشابه الأيديولوجيا التي بطنت النظرية الأرسطية للدراما مع جوهر الأيديولوجيات التي تلتها»، فنظرية أرسطو بحسب قولها لم «تكن فلسفته مجرد بحث موضوعي غير مغرض فـي الحقيقة والوجود، بل كانت طرحا على مستوى الوعي أو اللاوعي- لتصور نظري، أو رؤية للعالم تتضمن تأصيل نظام سياسي - اجتماعي - أخلاقي معين». إن نظرة أرسطو إلى الوجود بجعل العالم يتحرك نحو غاية مسبقة محسوبة لا دخل فـيها للإنسان تجعل من وجود تشابه بين نظريته عملا أو فكرا يستعاد بفعل الذكاء الاصطناعي. صحيح أن هذا الأخير ينطلق من وفرة المعلومات والخوارزميات لدى الإنسان ومحاولة محاكاتها وابتكار لحظات جديدة أو قدرات خارقة، فـي حين أن نظرية المحاكاة تتمظهر أو تتمركز فـي القدرة على إنتاج وتقليد الفعل البشري.

إن المنطلق الأخلاقي وعلاقته بالذكاء الاصطناعي كسؤال مرحلي هو أحد منطلقات الملتقى الفكري المصاحب للدورة الخامسة عشرة لمهرجان المسرح العربي التي أقيمت فـي مسرح العرفان بالعاصمة مسقط للفترة من 10-15 يناير 2024م. حمل الملتقى على مدى يومين العنوان التالي: (المسرح والذكاء الاصطناعي بين صراع السيطرة وثورة الإبداع)، وبين عناوين الأوراق النقدية التي قدمها الباحثون: «المساحة الرمادية بين الإبداع البشري والذكاء الاصطناعي: تجربة مسرحية كونتراست»، للدكتور أسامة لاذقاني، وورقة بعنوان «حول التصميم»، للدكتور محمد مبارك تسولي، وورقة «الإضاءة المسرحية البديلة: استكشاف إمكانيات الذكاء الاصطناعي فـي التصميم الإبداعي»، للدكتور عماد الخفاجي، وورقة «قناع الفـيروفـيوس... برامج وسائطية فـي الدراما: قناع فـيروفـيوس لدمج حركة الممثل والتكنولوجيا والإنترنت»، للدكتور أيمن الشريف، وورقة «الذكاء الاصطناعي وتوليد النص المسرحي» للأستاذ عبداللطيف فردوس، وورقة «الصوت... المؤثرات الخاصة: الصوت المحيطي والهولوجرافـي والمؤثرات البصرية التفاعلية بين الآلة والممثل»، للأستاذين وسام قطاونة وحسن حينا، وورقة «التصميم المسرحي والذكاء الاصطناعي.. البديل الغامض»، للدكتور خليفة الهاجري، وورقة «التصميم والابتكار - الإبداع» للباحث Shen Qian، وورقة «تصميم إضاءة نحو المستقبل» للباحث Guo Jin Xin، فإن العناوين تضعنا أمام تحديات عدة أهمها: محاولة الذكاء الاصطناعي محاكاة (العقل) البشري لا (الفعل) فـي ظل الخوارزميات التي تعمل بآلية معقدة تستطيع أن تفـيد الإنسان فـي مناحي الحياة العلمية والطبية والفنية، وأنها تقدر أن توجهه التوجيه الذي يراه الذكاء الاصطناعي بأنه «الأمثل»، فـي المقابل قصور الذكاء الاصطناعي عن معرفة المشاعر والأحاسيس من جهة، والحاجة إلى ضوابط أخلاقية صارمة تحفظ للإنسان خصوصيته من جهة مقابلة، هي مسائل فـي غاية الصعوبة. فهل هناك حدود للذكاء الاصطناعي لا يستطيع تجاوزها؟ إن الصانع بتعبير الفلاسفة للذكاء الاصطناعي هو الإنسان، وكما قدم الدكتور يوسف عيدابي فـي افتتاحية الملتقى الفكري بالقول: «المسرح والتقانة صنوان، تأتي التكنولوجيا بجديدها الذي يذهب بعد حين إلى قديم، ويأتي جديد آخر. ولكن ما يثير هو أن الذكاء الاصطناعي يصادم فـي (الخَلق)، هو يكتب ويُخرج ويُمثل وينتج ويفعل بنا ما يشاء، هو لا مخيّر ولا مسيّر، هو لا يؤمن إلا بقدرته وأقداره... هو الهو! - ولكنه من خلق الإنسان الفاني - مع هذا الذكاء يتراجع المؤدي/ الإنسان إلى المرتبة الثانية - الآلة تكون لها الأولوية، وهذا إشكال وجوهره فـي هذا الجدل الذي لن ينتهي.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی

إقرأ أيضاً:

الذكاء الاصطناعي في الطب: الثورة الحديثة في الرعاية الصحية

أحدثت تقنيات الذكاء الاصطناعي (AI) ثورة في العديد من المجالات، ولا سيما الطب، حيث أسهمت في تحسين جودة الرعاية الصحية، تسريع عمليات التشخيص، وزيادة دقة العلاجات. 

بفضل قدرة الذكاء الاصطناعي على معالجة كميات هائلة من البيانات بسرعة ودقة، أصبح من الممكن تحقيق تقدم هائل في تقديم الرعاية الصحية.

أستاذ حاسبات بجامعة نيويورك: الذكاء الاصطناعي لا يلغي دور الكاتب الصحفي استخدام الذكاء الاصطناعي فى نشر الشائعات فى ندوة لمركز إعلام أسيوط استخدامات الذكاء الاصطناعي في الطب

1. تحليل الصور الطبية:  
  الذكاء الاصطناعي أصبح أداة رئيسية في تحليل الصور الطبية، مثل الأشعة السينية، التصوير بالرنين المغناطيسي (MRI)، والتصوير المقطعي (CT). 

برامج الذكاء الاصطناعي قادرة على اكتشاف الأورام، أمراض الرئة، وأمراض الشبكية بمستويات دقة تضاهي أو تفوق الخبراء البشريين.

2. تشخيص الأمراض النادرة:  
 التعرف على الأمراض النادرة يمثل تحديًا بسبب نقص المعرفة العامة بها وتنوع الأعراض، الذكاء الاصطناعي يساهم في جمع وتحليل البيانات الجينية والسريرية لتحديد هذه الأمراض بدقة وسرعة، مما يوفر على المرضى سنوات من البحث عن التشخيص.

3. تطوير خطط علاجية مخصصة:  
  تقنيات الذكاء الاصطناعي تستخدم لتحليل الجينات، التاريخ الطبي، والعوامل البيئية لكل مريض، ما يساعد في تصميم علاجات مخصصة تتناسب مع احتياجاته الفريدة، هذا يسهم في تحسين فعالية العلاج وتقليل الآثار الجانبية.

 الذكاء الاصطناعي في الطب: الثورة الحديثة في الرعاية الصحية 

4. الطب الوقائي:  
  من خلال تحليل البيانات السلوكية والطبية، يمكن للذكاء الاصطناعي التنبؤ بمخاطر الإصابة بأمراض معينة، مثل السكري أو أمراض القلب، وبالتالي توجيه الأفراد لاتخاذ تدابير وقائية مبكرة.

5. تطوير الأدوية:  
 تسريع عملية اكتشاف الأدوية من خلال تحليل ملايين المركبات الكيميائية وتحديد الأكثر فعالية لمهاجمة المرض المستهدف، الذكاء الاصطناعي يقلل الزمن اللازم لتطوير الأدوية الجديدة ويخفض التكاليف.

التحديات الأخلاقية والقانونية

رغم الإمكانات الهائلة التي يقدمها الذكاء الاصطناعي، فإن استخدامه في الطب يثير عددًا من التحديات:

1. الخصوصية والسرية:  
  تعتمد أنظمة الذكاء الاصطناعي على جمع وتحليل كميات ضخمة من البيانات الطبية الحساسة. حماية هذه البيانات من الاختراق وضمان استخدامها بطريقة أخلاقية يشكل تحديًا كبيرًا.

2. المسؤولية القانونية:  
  إذا حدث خطأ في التشخيص أو العلاج بسبب الذكاء الاصطناعي، يثار تساؤل حول المسؤولية: هل تقع على مطوري البرمجيات، المؤسسات الطبية، أم المستخدمين؟ هذا الموضوع يتطلب تشريعات واضحة.

تطورات الذكاء الاصطناعي في الرعاية الصحية: بين الثورة والتحديات التكنولوجيا الطبية: كيف تسهم الذكاء الاصطناعي والطباعة ثلاثية الأبعاد في إنقاذ الأرواح؟

3. تحيّز الذكاء الاصطناعي:  
  الأنظمة الذكية يمكن أن تكون متحيزة إذا تم تدريبها على بيانات غير شاملة أو غير متوازنة، مما قد يؤدي إلى قرارات طبية غير عادلة لبعض الفئات.

4. تقليص الدور البشري:  
  على الرغم من أهمية الأتمتة، إلا أن الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي قد يقلل من دور الأطباء البشريين في اتخاذ القرارات، مما يثير قلقًا بشأن فقدان العنصر الإنساني في الرعاية الطبية.

المستقبل الواعد للذكاء الاصطناعي في الطب

مع استمرار التطورات التكنولوجية، يُتوقع أن يصبح الذكاء الاصطناعي جزءًا لا يتجزأ من الممارسات الطبية اليومية. مستقبل الذكاء الاصطناعي في الطب قد يشمل:
- أنظمة ذكية لدعم اتخاذ القرار الطبي.
- روبوتات جراحية أكثر دقة وأمانًا.
- استخدام الذكاء الاصطناعي لتحسين الرعاية الصحية في المناطق النائية.

مقالات مشابهة

  • ترامب يعلن استثمار 500 مليار دولار في الذكاء الاصطناعي
  • ترامب يكشف عن استثمارات أمريكية ضخمة في الذكاء الاصطناعي
  • الذكاء الاصطناعي في الطب: الثورة الحديثة في الرعاية الصحية
  • تقرير لـ «جي 42» و«إيكونوميست إمباكت» يسلّط الضوء على جاهزية الذكاء الاصطناعي
  • سعر iPhone SE 4.. أرخص آيفون يدعم الذكاء الاصطناعي
  • الدقيقة بـ 200 جنيه.. لماذا يشتري الذكاء الاصطناعي فيديوهاتك المحذوفة؟
  • رغم تفوقه في البرمجة.. نماذج الذكاء الاصطناعي تخفق في التاريخ
  • المخاطر الحقيقية في سباق الذكاء الاصطناعي
  • الذكاء الاصطناعي: مرموش يلعب 25 مباراة مع السيتي ويُسجل 15 هدفاً!