معارك المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة كلّها، بما فيها تلك التي فرضها الاحتلال عليها وعلى مجتمعها، تبعها دائما سجال النصر والهزيمة، بالرغم من اختلافها عن الحرب الراهنة الطويلة والممتدة والتي اتسمت بالإبادة الجماعية المقدور عليها من الاحتلال. فهذا السجال لم يبدأ من هذه الحرب، وهو ما يعني أنّ المقاومة في نفسها، عند أصحاب خطاب الهزيمة، هي التي محلّ السجال، لا نتائجها، وهذا بالتأكيد ليس اكتشافا، ولكنّ الخلل النقدي في غفلة دعاة التيئيس من المقاومة وجدواها؛ عن كون خطاباتهم التي تتقنّع هذه المرّة بالجريمة الإسرائيلية تأتي بالنقض على خطاباتهم السابقة التي عدّوا فيه نتائج المعارك السابقة للمقاومة الفلسطينية هزيمة مؤكّدة لها، وهو أمر يعلّمنا كيفيات أخذ الحدث في سياقاته كاملة، واعتبار ملابساته كلّها.



تختلف المعارك السابقة في أكثرها، في كونها بدأها الاحتلال الإسرائيلي، كما في حرب 2008/2009 والتي افتتحتها طائراته بمجزرة استهدفت بها حفلا لتخريج الشرطة المدنية في قطاع غزّة، وأراد بها اقتلاع حماس بقطف رأسها مرّة واحدة وبضربة تمتاز بالصدمة والترويع وإظهار الإصرار على انعدام الخطوط الحمراء في وجه "إسرائيل"، أو في حرب العام 2012 التي كسر بها تهدئة سابقة واغتال بها الشهيد أحمد الجعبري، القائد السابق لكتائب القسام، أو حتى حرب العام 2014 التي تدحرجت من أحداث في الضفة الغربية بدأت بأسر حركة حماس لثلاثة مستوطنين في مدينة الخليل وصولا إلى الحرب الأطول حتى حينه على قطاع غزّة، وقد استخدمت فيها "إسرائيل" مختلف أسلحتها وقطاعاتها محاولة التوغّل برّيّا في القطاع.

لم تكن مناظير النصر والهزيمة واحدة في التاريخ في المعارك الملتبسة وغير النهائية، وذلك لاختلاف المفاهيم المُؤسّسة لهذه المناظير، ولكن في صراع مفتوح، وكأيّ مشروع تحرري، لا يمكن الحديث عن انتصاره من هزيمته بالمعنى المطلق الماديّ إلا في نهايته الحتمية إن أنجز نفسه بالتحرر من الاستعمار أم لا
إذا كان يمكن لدعاة الهزيمة والتيئيس من جدوى المقاومة، أن يسندوا حجتهم في عدّ الحرب الجارية هزيمة للفلسطينيين؛ إلى أنّ حماس هي التي افتتحتها بقائمة أهداف يمكن استكشافها من خطاب قائدها العسكري محمد الضيف في يوم تنفيذ عملية "طوفان الأقصى"، وأنّها تحوّلت إلى حرب إبادة جماعية تفرض الكارثة على قطاع غزّة بنية مفتوحة ومستمرة لعقود إلى الأمام، فإنّ المعارك السابقة بدأها الاحتلال بأهداف لم يحققها، وبمستويات جُرمية فاحشة ولكنها من حيث الكمّ دون ما اقترفه في هذه الحرب، فهل يمكنهم اليوم العودة إلى تلك المعارك بتقييم جديد؟!

لقد كانت المقاومة، وقيادة حماس لها، دائما مُساءلة في المعارك السابقة عن الاستثمار السياسي لتلك المعارك، وعن الوجاهة في عدّها انتصارا بالرغم من الخسائر الفادحة التي أوقعها الاحتلال بالفلسطينيين في غزّة، بيد أنّ بعضا من أصحاب هذه المساءلات ممن يحتجون اليوم بافتتاح حماس للمعركة وكلفتها الهائلة على الفلسطينيين، لم تكن هذه هي حجتهم في المعارك السابقة في صياغة خطاب الهزيمة، لانتفاء هذه الحجة أصلا.

من غير المفهوم حينها أن يتوقعوا في حرب بدأها العدوّ بقوّته الجبّارة دائمة الاستمداد من الولايات المتحدة؛ أن تفعل هذه المقاومة في إطار المعطيات القائمة؛ أكثر من الصمود وهو ما حصل وقتها بالفعل، وهو مكسب في ذاته على طريق المواجهة الطويل، والذي من الجهة المعنوية يؤكد على القيمة العالية للدلالة على محدودية تلك القدرة الجبارة للعدوّ دون نفي جبروتها، وعلى إمكانات الضعيف المخبوأة في طيّات الصدق والجدّية، ومن الجهة السياسية على إمكان الاستثمار في حالة المقاومة في مناورة العدوّ ومخاطبة العالم وتعزيز عوامل القوّة الذاتية؛ لو امتلكت هذه المقاومة رديفا عربيّا مؤازرا، وتحرّكت على قواعد الإجماع الفلسطيني. ولم يكن لانتفاء هذا الرديف وانعدام هذا الإجماع أن ينفي صوابية المقاومة حينها، فالصواب لا يُنفى بالخطأ المقابل له، بل يُستدلّ به على الخطأ لأجل تصحيح هذا الخطأ.

القصد من هذا الاستدعاء عرض مقولة الهزيمة على ذاتها، لأنّ الحجّة نفسها التي تستخدمها الآن لتأكيد الهزيمة، كانت مفقودة إلى درجة حضور نقيضها فيما سبق، ومع ذلك، ظلّت على حالها مقولة للهزيمة بلا مراجعة مسؤولة، في الوقت الذي تُطالب فيه المقاومة بمراجعة خياراتها، وذلك في حين أنّ مقولة الانتصار في مثل هذا الصراع، وفي جميع المعارك التي تمثل حلقات سلسلته الممتدة، ليست هي نقيض مقولة الهزيمة، ولكنّ قراءة الموقف من جهة طبائع الصراع ومجمل الخطابات المحايثة له، من شأنها أن تعطي تقييما متوسّطا في حدود الجاري والراهن، يقدّر الثمن الفادح المدفوع فلسطينيّا حقّ قدره، ويقدّر صمود المقاومة في الوقت نفسه، ويبحث في الأهداف الإسرائيلية ما أُنجِز منها وما فشل بالنظر إلى فارق القوّة والدعم المفتوح لـ"إسرائيل". وبقطع النظر عن الخلاصات التي يمكن أن يخرج بها تقييم كهذا؛ فإنّها تبقى مستندة إلى رؤية كلّية غير سجالية، أي لا تهدف إلى إثبات مواقف مسبقة، بقدر ما تهدف إلى تحسين الشرط الفلسطيني، والاستفادة من التجربة مهمّا كانت مرّة وأليمة.

لم تكن مناظير النصر والهزيمة واحدة في التاريخ في المعارك الملتبسة وغير النهائية، وذلك لاختلاف المفاهيم المُؤسّسة لهذه المناظير، ولكن في صراع مفتوح، وكأيّ مشروع تحرري، لا يمكن الحديث عن انتصاره من هزيمته بالمعنى المطلق الماديّ إلا في نهايته الحتمية إن أنجز نفسه بالتحرر من الاستعمار أم لا.

ما الذي يحمل الضعفاء وأصحاب القضية على حشر أنفسهم حصرا في ثنائية النصر والهزيمة، بدلا من تحليل المعارك والمحطات الكفاحية التي هي حلقات في سلسلة ممتدة، بهدف الاستثمار والاستفادة والتحسين؟! وفي هذا السياق، ألا يوجد حضور لمفاهيم الهزيمة النفسية؟! حينما يغيب مفهوم الهزيمة النفسية عن التقييم، بالضرورة لن يكون في هذا التقييم أي اعتبار لمفهوم الصمود.

بالتأكيد لم تتحوّل معركة "طوفان الأقصى" إلى معركة تحرير فوريّ شامل، ولم تلتحق بها القوى العربية، ولم تتوفّر لها الشروط الإقليمية والدولية المناسبة، ومع التضحيات الباهظة المُقَدّرة التي قدّمتها قوى الإسناد فإنّ الأخطاء الاستراتيجية في كيفيات الالتحاق بالمعركة أثّرت على مسارات هذه المعركة، وهذه كلّها ملاحظات جديرة بأن تتحوّل إلى مساءلات لا بهدف الإدانة، ولكن بهدف تحسين الشرط الفلسطيني والعربي.

لا يمكن القفز عن كون "طوفان الأقصى" كانت عملية ناجحة في حدودها الزمانية والمكانية، بما دلّ على مقاومة مثابرة وجادّة وصادقة وتُحسِن الإعداد والتخطيط، وهذا النجاح تحديدا، الذي مثّل عارا إسرائيليّا متقيّحا في قلب "الكرامة الوطنية الإسرائيلية"، هو من دوافع حرب الإبادة بهدف مسح العار، وتيئيس الفلسطينيين من جدوى مقاومتهم
في المقابل لا يمكن القفز عن كون "طوفان الأقصى" كانت عملية ناجحة في حدودها الزمانية والمكانية، بما دلّ على مقاومة مثابرة وجادّة وصادقة وتُحسِن الإعداد والتخطيط، وهذا النجاح تحديدا، الذي مثّل عارا إسرائيليّا متقيّحا في قلب "الكرامة الوطنية الإسرائيلية"، هو من دوافع حرب الإبادة بهدف مسح العار، وتيئيس الفلسطينيين من جدوى مقاومتهم، وحملهم على الكفر حتّى بما أثبتوه من قدرة على الفعل والإنجاز.

تفشل "إسرائيل" في محو عارها، إذ أرادت محوه بالمجزرة والإبادة والجريمة، لتراكم في سجلّها عارا من نوع آخر سيبقى يلاحقها في قادم أيّامها، وتفشل في كسر الفصيل الفلسطيني الذي أصابها بهذا الجرح في قلبها الدامي بالقيح والمرار، وتضطر للتفاوض معه لتبادل أسراها بعدما قالت مرّات كثيرة إنّها سوف تستعيدهم بمحض القوّة العسكرية، ويبدو من حال الصفقة المؤقّتة لهذه المفاوضات، أنّها تتضمن في الوقت نفسه تنظيما لخروج الاحتلال من غزّة في حال لو كتب للهدنة الثبات، وذلك بعدما أخذ الفرصة كلّها إبادة وتدميرا ووقتا مفتوحا وإمدادا لا يبدو متناهيا.

ألا يمكن الاستفادة من ذلك كلّه، في صراع هذا حاله، وهذه تعقيداته، ومن حرب بهذا العمق والاتساع لا يمكن الوقوف على تداعياتها الاستراتيجية على الفور؛ باستخلاص الممكنات الفلسطينية والعربية والتحررية، في وجه الحالة الاستعمارية الإسرائيلية والإمبريالية الغربية وحالة التردّي العربي، إذ ما كان للإبادة أن تأخذ مداها لولا الاهتراء العربي المتراوح بين العجز والتخاذل والتواطؤ؟! وإذا كانت "إسرائيل" تحمي نفسها من الفلسطيني والعربي الجادّ في مقاومتها بالإبادة، فهل تكون الخلاصة هو كيف نمنع أنفسنا من التقوّي؟! وكيف نتخلّص من الصدق والجدّية؟! أم نبحث في الكيفية التي نحاول بها قدر الإمكان (إذ لا شيء يضمن منع عقيدة الإبادة الإسرائيلية من التجلي الماديّ) عرقلة سياسات الإبادة الإسرائيلية التي تتصدّى بها لعزيمتنا وإرادتنا وصدقنا وجدّيتنا؟!

x.com/sariorabi

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه المقاومة الفلسطينية النصر الهزيمة فلسطين مقاومة غزة هزيمة نصر مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة النصر والهزیمة طوفان الأقصى المقاومة فی فی المعارک قطاع غز ة لا یمکن

إقرأ أيضاً:

تركيع إسرائيل

ما إن دخل اتفاق وقف إطلاق النَّار في غزة حيّز التنفيذ، حتى خرج الفلسطينيون في القطاع- الذي تعرض للدمار على مدار 471 يومًا- إلى الشوارع عائدين إلى منازلهم، أو إلى ما تبقى من منازلهم، في مشهد يُجسد معاني الإصرار والتحدي والصمود.

وتزامنًا مع سريان هذه الهدنة، خرج أفراد الشرطة المدنية وأفراد من فصائل المقاومة الفلسطينية إلى الشوارع، ليلتف حولهم المئات من الفلسطينيين مُهلِّلين ومُكبِّرين، تعبيرًا عن النصر الذي استطاعت المقاومة تحقيقه رغم الدماء والدمار، إلّا أنها منعت إسرائيل من تحقيق أهدافها، كما إنها لم ترفع راية الاستسلام أمام آلة الحرب الغاشمة.

اللافت في هذه المشاهد، لحظة تسليم المقاومة لثلاث أسيرات إسرائيليات إلى الصليب الأحمر الدولي؛ إذ احتشد آلاف الفلسطينيين في ساحة السرايا بشمال غزة، والتفوا حول المئات من مقاتلي كتائب عز الدين القسام، الذين ظهروا بهيأتهم العسكرية وأسلحتهم، في مشهد استعراضي للقوة والسيطرة، وسط حاضنة شعبية لا تتخلى عن المُقاومة؛ ليكون صدى ذلك في إسرائيل مزيدًا من الشعور بالفشل والهزيمة والتركيع.

إنَّ مشاهد النصر في اليوم الأول من تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النَّار، عديدة، وتؤكد أن الشعب الفلسطيني لم ولن يستسلم أو يتخلى عن أرضه، مهما ارتكب العدو من إبادة ومهما ارتكب من جرائم حرب، بحق هذا الشعب الذي يتعرض منذ أكثر من سبعة عقود لأكبر ظلم تاريخي وسط خذلان دولي غير مسبوق.

مقالات مشابهة

  • برلماني: كامل الوزير لديه إرادة صلبة لإزالة المعوقات التي تقف حائلا أمام الاستثمار
  • ثنائية كريستيانو تقود النصر للفوز على الخليج
  • ثنائية لرونالدو ومدرب الخليج يفقد أعصابه في الدوري السعودي
  • عن جدل النصر والهزيمة وغزة ما بعد صمت المدافع
  • ثم لا ينصرون
  • غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة
  • تركيع إسرائيل
  • حزب التقدم الوطني: صمود المقاومة الفلسطينية دفع قادة الاحتلال نحو اتفاق الهزيمة
  • مغردون: انتهى الخوف على غزة وإسرائيل تدخل مرحلة الهزيمة