صحيفة التغيير السودانية:
2025-05-02@21:56:58 GMT

مذابح ود مدني و«الذاكرة السمكية»

تاريخ النشر: 21st, January 2025 GMT

مذابح ود مدني و«الذاكرة السمكية»

 

مذابح ود مدني و”الذاكرة السمكية”

النور حمد

قديما قالوا: “كلُّ تجربةٍ لا تُورِثُ حكمةً تكرِّرُ نفسَها”. فالنسيان السريع للتجارب السيئة التي ينبغي أن تورث حكمةً وعبرةً، ونسيانها حيث يجب استحضارها، أمرٌ شائعٌ وسط جميع الناس. وهذا هو ما تعتمد عليه الجمعيات السرية، والأنظمة السياسية الماكرة، من ديكتاتوريةٍ، بل ومن ديمقراطيةٍ، لنسج المكائد والدسائس والمؤامرات للتحكم في عقول العامة.

فإذا ثار شعبٌ ضد نظامٍ ما، بسبب سوء الأحوال، يقوم النظام بخلق كارثةٍ أضخم تجعله يحن إلى وضعه السابق الذي شكا منه. هكذا تفعل الأنظمة الأمنوقراطية للسيطرة على عقول العوام، وسوقهم كقطعان السوائم. هذه الخطة كثيرًا ما تنجح، ولا يبين مكر مدبريها، بل قد يتحولون إلى أبطال، في نظر الجمهور. وعمومًا، فإن أساليب السيطرة على عقول العامة والتحكم في رودود أفعالها، كثيرة للغاية. وقد كُتبت فيها مئاتُ الكتب، وآلاف الأوراق العلمية.

من مجزرة الضباط إلى مذابح ود مدني

أعدم نظام الكيزان، في أول عامٍ له في الحكم، 28 ضابطًا، كانوا قد قاموا بمحاولة انقلابية ضده. تفاوض معهم النظام لكي يسلِّموا أسلحتهم ويستسلموا، مقابل منحهم الأمان، ووعدهم بمحاكماتٍ عادلة، فصدقوا واستسلموا. لكن، ما أن استسلموا غدر بهم، وساقهم بلا محاكمات إلى غرب أمدرمان حيث قُتلوا ورُميت جثثهم في حفرةٍ ضخمة. وكان إصابات بعضهم، في ذلك القتل العشوائي، غير مميتة، فجرى دفنهم وهم أحياءٌ يئنون. عقب ذلك جعلوا آليات الحفر الثقيلة تسير بجنازيرها فوق تلك الحفرة. وقد اعترف بقتل هؤلاء الضباط ، نائب الرئيس البشير، علي عثمان محمد طه في كلمةٍ متلفزة.

في الثاني من أبريل 1998، جرت مجزرةٌ أخرى في قرية العيلفون، جنوب شرقي العاصمة السودانية الخرطوم. كان ضحايا هذه المجزرة شبانٌ صغار السن، جيء بهم قسرًا لمعسكرٍ للدفاع الشعبي. طالب هؤلاء الشباب إدارة المعسكر منحهم عطلةً ليومٍ أو يومين ليحضروا العيد مع ذويهم. لكنَّ إدارة المعسكر رفضت طلبهم، فحاولوا الهروب. فما كان من إدارة المعسكر إلا أن أطلقت عليهم النيران، فغرقوا بالعشرات في مياه النيل الأزرق، الذي يقع المعسكر على ضفته الشرقية.

في عام 2003، اشتعلت حرب دارفور، فاستأجرت حكومة الكيزان الزعيم القبلي، موسى هلال، ومعه علي كوشيب، وغيرهم، فعاثوا في أهل دارفور قتلاً وتشريدًا. كما حرقوا القرى ومسحوها من وجه الأرض. وقد قدَّرت المنظمات الدولية أن من قُتلوا في تلك المجازر يبلغ 300 ألف. أما الذين أصبحوا يعيشون في المعسكرات فيفوق عددهم المليونين. وهذا العدد من الضحايا ليس سوى جزءٍ من عددٍ أكبر جرى قتله، من قبل في جنوب السودان، ومن بعد في جبال النوبة، والنيل الأزرق.

في عام 2013، اشتعلت انتفاضةٌ شعبيةٌ قويةٌ ضد نظام الكيزان، فواجهوها بالرصاص الحي المُصوَّب بدقة إلى رؤوس المتظاهرين وصدورهم، وبلغ عدد الضحايا المئات. وتحدَّث عن تلك الحوادث، نائب الرئيس، على عثمان محمد طه قائلاً: إن التعليمات لقوى الأمن أن تصوِّب بنادقها لتقتل، وحسب، shoot to Kill، كما قالها باللغة الإنجليزية. وإلى جانب كل ذلك، كان المعارضون للنظام من الرجال والنساء، طيلة فترة حكم الكيزان الممتد من 1989 وإلى 2019، يُعتقلون ويُهانون ويعذَّبون بأخس الأساليب وأبشعها، بل ويُغتصبون. كما أحيانًا يُقتلون بدمٍ باردٍ، وهم في المعتقلات، ويجري إخفاء جثثهم أو رميها كيفما اتفق.

مجازر ما بعد الثورة

منذ أن اشتعلت ثورة ديسمبر 2018 واجهها نظام الكيزان بعنفٍ مفرط. فما من مظاهرةٍ سلميةٍ خرجت إلا وجرى قتل بعض ممن قاموا بها. ثم حدثت المذبحة الكبرى التي جرت في فض اعتصام القيادة العامة. دبَّر تلك المذبحة الكيزان وجيشهم، وجرت تحت سمعهم وبصرهم. في تلك المذبحة البشعة، جرى قتل مئات من المعتصمين بالرصاص الحي. كما جرى إلقاء بعضهم في النيل الأزرق وهم أحياء، مع شد الوثاق على اليدين والقدمين، وربط الأجساد إلى أثقالٍ خرسانية، لكي يموت الشبان غرقًا، ولكيلا لا تطفو جثثهم بعد موتهم إلى السطح. لكن الجثث طفت وانفضحت الجريمة. وبعد انقلاب البرهان على الوثيقة الدستورية في 25 أكتوبر 2021، استمر قتل الشبان والشابات قنصًا من على أسطح البنايات، وبالدهس بسيارات الشرطة وقوى الأمن. كما استمر حملات الاعتقال والتعذيب والاغتصاب.

كان غرض البرهان والكيزان من إشعال الحرب الجارية الآن، هو قطع الطريق على الاتفاق الإطاري، وسحق قوات الدعم السريع التي وقفت معه. وأهم من ذلك، قلب الطاولة على الجميع. ونقل الناس إلى مربعٍ جديدٍ، اعتمادًا على قصر ذاكرة الجماهير، وتلاشي تأثير الفظائع من الأذهان. فشلت خطة على قوات القضاء على الدعم السريع في مدة قصيرة. فاتجه البرهان والكيزان إلى الاستثمار في التجاوزات التي حدثت من جانب قوات الدعم السريع. حشدت الآلة الإعلامية الكيزانية الضخمة جهودها لشيطنة قوات الدعم السريع، حتى نسي كثيرون من هم الكيزان وماذا فعلوا عبر أكثر من ثلاثين عامًا. بل، نسوا أن هناك ثورة سعت لإزاحتهم من السلطة. اشترى كثيرون صورة الدعم السريع التي رسمها لهم الكيزان، ونسوا صورة الدعم السريع الأولى، الزاهية، التي رسمها له الكيزان أنفسهم، حين كانوا على وفاقٍ معهم. وأشرطة الفيديو في كيل المدح لقوات الدعم السريع من قبل الكيزان والكوزات، على قفا من يشيل. عقب إشعال الحرب والفشل في حسمها لجأوا إلى الاستنفار، وتسليح المدنيين. ورفع البرهان والكيزان شعار، “جيشٌ واحد شعبٌ واحد”، وشعار أن هذه الحرب، “حرب كرامة”. فاشترى كثيرون، ومن بينهم مثقفون، هذه الفرية المفضوحة.

هل فهمنا بعد؟

جاءت استعادة مدني لتؤكد لمن لا يزالون يحتاجون لتأكيد، الطبيعة الوحشية الأصلية للكيزان. فالكوز مهما تظاهر بالتمدن، لا يملك، بحكم نشأته، إلا أن يعود إلى طبيعته الافتراسية الأولى. بعد يومين أو ثلاثة من استعادة المدينة، امتلأت وسائط التواصل الاجتماعي بالفيديوهات التي صوَّر فيها متطرفو الكيزان المرضى، فظاعاتهم. صوَّروا أنفسهم وهم يرفعون رؤوسًا مفصولةً عن أجسادها، وأميرهم يحثهم على قطع المزيد. كما صوَّروا أنفسهم وهم يبقرون بطن امرأة حامل، وكذلك، وهم يلقون بشخصٍ إلى النيل الأزرق من فوق كبري حنتوب، ثم وهم يلاحقونه بوابل من رصاص بنادقهم ليسقط ميتًا في مياه النهر. أيضًا، صوَّروا أنفسهم في حوش فسيح ملئ بالجثث لمن أعدموهم جزافًا، وربما لكي يتسلى هؤلاء المرضى النفسيون. وهذا ليس سوى غيضٍ من فيض.

ما جرى في ود مدني ليس سوى المقدمة لحكم الكيزان الثاني، الذي سيسرفون، أكثر من أي وقتٍ مضى، في القتل والطغيان والفساد. وإذا، لا قدر الله، أمسك البرهان ومن ورائه الكيزان، بمقاليد الأمور من جديد، فسوف يقولون لعمر البشير: “إنت بتعرف شنو”. لقد أظهرت فظائع ود مدني حقيقة “جيشنا” المزعوم، وحقيقة “شعبنا” المزعوم. كما أظهرت زيف اللُّحمة المزعومة الرابطة بينهما. وأهم من ذلك، أظهرت ذاكرةً جمعيةً سمكيةً، حوَّلت أكثريتنا إلى قطيعٍ من السوائم. فبعد ثورةٍ خلبت ألباب العالم بسلميتها، جاءت فظائع ود مدني لتَسِمَنَا كأمة: بِرقَّةِ الدين، وبالتَّوحُّشِ، والنذالةِ، وانعدامِ الشرفِ والمروءة، وخواء العقول، وخلو القلوب من الرأفة والرحمة. لعنة الله على الكيزان أينما ثُقفوا، وعلى كل من شايعهم، ومالأهم، وزيَّن لهم خواء عقولهم، وخراب نفوسهم، أو لزم الصمت تجاه باطلهم الصراح، خوفًا، أو طمعًا.

الوسومالجزيرة النور حمد ذاكرة سمكية مذابح ودمدني

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الجزيرة النور حمد مذابح ودمدني

إقرأ أيضاً:

السودان يشتعل.. «الدعم السريع» تسيطر على النهود وتعتقل نشطاء

أعلنت “قوات الدعم السريع” سيطرتها الكاملة على مقر اللواء “18 مشاة”، التابع للجيش السوداني، في مدينة النهود، العاصمة المؤقتة لولاية غرب كردفان.

وأكدت مصادر ميدانية انسحاب الجيش السوداني من مقر اللواء في مدينة النهود إلى مدينة الخوي، فيما دخلت “قوات الدعم السريع” مقر القيادة وانتشرت في أنحاء المدينة.

وفي سياق متصل، وثق مقطع فيديو متداول اندلاع حريق في مصفاة الأبيض، بولاية شمال كردفان، نتيجة قصف بطائرات مسيّرة من قبل قوات الدعم السريع.

من جانبها، أعلنت غرف طوارئ غرب كردفان أن “قوات الدعم السريع” اعتقلت ستة من أعضاء غرفة طوارئ النهود، ونقلتهم إلى جهة مجهولة، وأشارت، في منشور على “فيسبوك”، إلى أن مدينة النهود تستضيف أكثر من 45 ألف نازح في المخيمات ومراكز الإيواء، بالإضافة إلى سكانها الأصليين، معربةً عن قلقها على مصير المعتقلين وسلامة جميع المدنيين في النهود.

وأفادت مصادر إعلامية بتصفية عدد من العلماء وأساتذة الجامعات في مدينة النهود على يد أفراد من قوات الدعم السريع.

وفي مدينة الفاشر، يسود الهدوء منذ صباح الجمعة، دون تسجيل اشتباكات مباشرة، رغم استمرار القصف المدفعي المتقطع من قِبل “قوات الدعم السريع”، كما رُصد تحليق مكثف لطائرة تابعة لها منذ الساعة الثامنة صباحًا وحتى اللحظة.

قوات الد ع م ال سر ي ع تسيطر على رئاسة اللواء 18 النهود فجر اليوم الجمعة؛ والجيش والمستنفرين ينسحبون إلى مدينة الخوي؛ بحسب مصادر تحدثت مع "دروب".#النهود_الان pic.twitter.com/Zd6zkzwEvj

— صحيفة دروب الإلكترونية (@Droub92402) May 2, 2025

“أوكسفام”: عدد النازحين في السودان يرتفع إلى 12.7 مليون في أكبر أزمة إنسانية بالعالم

أعلنت منظمة “أوكسفام” الدولية، اليوم الجمعة، أن عدد النازحين في السودان بلغ 12.7 مليون شخص، في ما وصفته بأنه أكبر أزمة إنسانية يشهدها العالم حالياً.

وقالت المنظمة في بيان نشرته على حسابها الرسمي بمنصة “إكس”، إن نصف سكان السودان يواجهون خطر الجوع، فيما تعاني خمس مناطق من مجاعة فعلية، وأضافت أن واحداً من كل اثنين من السودانيين بات يعاني من نقص الغذاء الحاد.

وأشارت المنظمة إلى أن تمويل خطة الاستجابة الإنسانية التي أطلقتها الأمم المتحدة لم يتجاوز 10% حتى الآن، محذرة من أن موسم الأمطار المرتقب وتراجع حجم المساعدات الدولية قد يدفع بملايين آخرين إلى حافة الكارثة.

وفي تقرير سابق صدر في 14 أبريل 2025، أكدت “أوكسفام” أن الحرب المستمرة منذ اندلاعها في أبريل 2023 بالعاصمة الخرطوم، تسببت في كارثة إنسانية شاملة اجتاحت البلاد وامتدت إلى دول الجوار، دون مؤشرات على انحسارها.

وأضاف التقرير أن أكثر من 9 ملايين شخص نزحوا داخل السودان، وهو أعلى عدد نازحين داخلياً على مستوى العالم، في حين لجأ نحو 3.7 مليون شخص إلى دول مجاورة، وبهذا يبلغ عدد الفارين من العنف منذ بداية النزاع ما يقارب 13 مليون شخص، ما يجعلها واحدة من أكبر أزمات النزوح منذ الحرب العالمية الثانية.

وأكدت المنظمة أن المدنيين في السودان ما زالوا يواجهون أوضاعاً مروعة، تشمل القتل والتجويع والانتهاكات الجسيمة، في ظل غياب أي حلول سياسية تنهي الأزمة المستفحلة.

مقالات مشابهة

  • الدعم السريع يُدخل السودان في حرب الظلال.. ماذا حدث؟
  • أطباء السودان: الدعم السريع تقتل 100 مدني بمجزرة جنوب البلاد
  • قوات الدعم السريع تنشر صورا لسيطرتها على مدينة النهود غرب كردفان
  • السودان.. الدعم السريع يسيطر على النهود بشكل كامل
  • السودان يشتعل.. «الدعم السريع» تسيطر على النهود وتعتقل نشطاء
  • الدعم السريع يعلن السيطرة على النهود
  • مليشيا الدعم السريع المتمردة تتوعد بمداوسة (الملائكة)
  • مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود
  • ???? من أشعل الحرب في السودان ؟ الجيش السوداني أم الدعم السريع؟
  • مسيرات الدعم السريع تهاجم من جديد مدينة سودانية