لجريدة عمان:
2024-11-15@06:39:44 GMT

حِجاج النماذج

تاريخ النشر: 20th, August 2023 GMT

نشرت مؤخرا دراسة تقترح إعادة النظر في عمر الكون، وقد حظت الدراسة التي نشرت في دورية تصدرها الجمعية الفلكية الملكية بلندن بتغطية إعلامية واسعة، إذ افترضت أن عمر الكون قد يصل إلى قرابة 26.7 مليار سنة، وهو رقم مهول يقارب ضعف العمر الذي يفترضه النموذج السائد في الأوساط البحثية لعلم الكون، أي 13.8 مليار سنة تقريبا، وإذ تقترح الدراسة حل ما يبدو أنه تعارض بين الأدلة الجديدة التي زودتنا بها أحدث تكنولوجيا الرصد الفضائي وبين النموذج السائد، فإنه تجدر الإشارة إلى أن العلماء يبحثون هذا النموذج الرياضي المقترح وأن هناك من قدم بالفعل حججا علمية معارضة لنتائج تلك الدراسة، وكعادة كل نموذج فإنه يخضع لاختبار الثبات من خلال النقد والتجربة، إلا أن نشر الدراسة والتغطية الإعلامية التي حظيت بها أثار أسئلة حول موثوقية النماذج العلمية، وإلى أي مدى يمكن أن تتسم المعرفة العلمية بالثبات؟ ولكن كيف نقرأ الأمر من زاوية التفكير العلمي؟ وعلى أي أساس بنيت فرضية الدراسة؟

لنتتبع الأمر بالعودة إلى اكتشاف توسع الكون من قبل العالم ادوين هابل، وهو أحد أهم مؤسسي علم فلك ما وراء المجرة، اعتمد في اكتشافه على ما يعرف بظاهرة الانزياح نحو الأحمر، أي أن الأشعة الكهرومغناطيسية للجسم يزداد طولها الموجي في طريق ابتعادها عن الناظر ما يظهر للراصد على شكل لون أحمر، وذلك إثباتا للعمل النظري لذات الفكرة والذي نتج عن بحوث عالم الفلك جورج لومتر، وضع هابل قانونا حول العلاقة بين بعد الأجرام السماوية وسرعتها وتم تقدير المسافات التي تبتعد بها المجرات من خلال نجوم متغيرة السطوع، إلا أن ذلك التغير في سطوعها منتظم ما يجعل حساب بعدها أسهل، فكان ثابت هابل، وهو مقياس لمعدل التوسع الحالي للكون يحسب المدة الزمنية التي يحتاجها الكون ليصل إلى ما هو عليه حاليا، تغير هذا الثابت عدة مرات وفق تطور التقنيات المستخدمة، سواء وفق تحليل الأشعة الخلفية المايكرويفية للكون والتي تعتبر أحد أهم الأدلة على الانفجار العظيم، أو وفق البيانات التي رصدها التلسكوب هابل في تسعينيات القرن الماضي، أضف إلى ذلك البحث المستمر في الطاقة المظلمة التي تشكل أكبر مكون من مكونات الكون وفق النموذج السائد، ودورها بالدفع تجاه توسع الكون المتسارع، ما قدم مزيدا من التنقيح لتقديرات عمر الكون.

يمكن القول إن هذه العملية المتواصلة من إعادة النظر في الاستنتاجات بلا كلل ولا ملل وتحديثها بناءً على معلومات جديدة هي السمة التي تجعل طبيعة العلم مميزة، من حيث كونه ذاتي التصحيح، لكن الكون بتعقيده واتساعه لا يزال يتكشف شيئا فشيئا تحت مرأى العلماء، وكلما وقعت في يد الإنسان تكنولوجيا أكثر قدرة كلما اختبرت افتراضاته السابقة حول الكون من خلال تحديات جديدة، وهذا ما حدث باكتشاف نجوم ومجرات بدت وكأنها أقدم من الكون لتشكل معضلة تستدعي صقل النموذج القائم.

رصد التلسكوب الفضائي جيمس وب مجرات غابرة ولكنها كبيرة رغم أنها تشكلت بعد فترة قصيرة من الانفجار العظيم، أي ما بين 500 إلى 700 مليون عام وحسب ما يشير إلى أنها يافعة، وهذا يعني أن الوقت، وفق ما يطرحه النموذج السائد، لم يكن كافيا لتصبح على ما هي عليه، كانت تلك المجرات بعيدة لدرجة أنها لم تظهر سوى وكأنها نقاط حمراء صغيرة أي أنها فعلا تعود إلى زمن غابر من بدايات الكون، ما جعل أمر تكوّن المجرات برمته موضع تساؤل، وحفز العلماء نحو توقعات بتعديلات أو ربما تحولات محورية قادمة في النماذج السائدة، بينما رأى آخرون أن الأمر يستوجب إعادة النظر في البيانات والصور ذاتها قبل الحديث عن تعديل النماذج.

حاولت الدراسة المشار إليها في بداية المقال حل معضلة هذه البيانات الجديدة من خلال افتراض أن الكون يتوسع بمعدل أبطأ مما توقعته النماذج السابقة، فوضع مؤلف الدراسة نموذجا هجينا يجمع بين نموذج هابل وبين فرضية غير عملية وهي فرضية الضوء «المرهَق» والتي ظهرت في العقد الثالث من القرن العشرين، وتتضمن فكرة مفادها أن الضوء يفقد بتنقله الواسع عبر الفضاء طاقة ما يجعله «مرهَقا» قبل وصوله لعيني المراقب، يستتبع هذا أن تظهر الأجسام البعيدة جدا ضبابية في عيني المراقب، إلا أن صور تلسكوب جيمس ويب تظهر الأجسام الأبعد أكثر احمرارا وفق النموذج السائد ولكنها لا تظهرها ضبابية مقارنة بالأجسام الأقرب منها، ما يدل على ثغرة في تلك الفرضية التي استندت إليها الدراسة المنشورة حديثا، إضافة إلى أن الفرضية التي اعتمد عليها الباحث تعتمد فكرة الاختلافات الترابطية بين الثوابت ذات العلاقة، وهو ما ينفيه الواقع ومخرجات العلم التجريبي كما يشير عالم الفيزياء النظرية إيثان سيجل.

تكمن أهمية هذه الدراسات، وبغض النظر عن ضعف ثباتها، في أنها تُظهر وجه العلم الصحيح، من حيث إنه لا يستند إلى مجموعة ثابتة من الحقائق، بل يتجلى جماله في ديمومة عملية الاستقصاء الديناميكية والمستمرة من الاكتشاف والمراجعة، هذا بالضبط ما رأيناه من خلال مسألة تقدير عمر الكون، إذ يستعين العلماء بمنهجيات ونماذج مختلفة لتفسير الملاحظات، وبعدها تختبر الفرضيات وتقارن النتائج مع ما يعارضها من الأدلة، وحين يظهر تناقض يتحدى مخرجات فرضيات معينة أو نماذج رياضية محددة، فإن دور العلماء يتمثل في العكوف على مراجعة ما لديهم من بيانات مبتكرين نماذج أكثر ثباتا عند تجربتها وفق ملاحظاتهم ما يؤدي إلى صقل لا يحده فتح علمي مهما علا شأنه، ولا توقفه نظرية بارعة مهما ترسخت، يتسع باتساع أفق فضول البشر، وبذا يطور العلم فهمنا لتاريخ الكون.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: من خلال

إقرأ أيضاً:

المفتي دريان استقبل الوفد الاغاثي الجزائري

استقبل مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان في دار الفتوى النائب محمد سليمان، في حضور القاضي الشيخ خلدون عريمط.

كما استقبل دريان، رئيس "هيئة الإغاثة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين" والرئيس الشرفي لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين البروفيسور الشيخ عمار طالبي، وتم التداول في الشؤون الإسلامية والإغاثية.

مقالات مشابهة

  • الشبكة العصبية الاصطناعية ثورة في استنساخ عمل الدماغ البشري
  • وزير التعليم: المدارس اليابانية من النماذج التعليمية الناجحة في مصر
  • السوداني: إبداء التشجيع بالروح الرياضية التي تعكس كرم العراقيين
  • السودان من أوائل الدول التي تعاني «سوء التغذية الحادّ»
  • أوقاف الفيوم تنظم أمسية دعوية كبرى بمسجد البحار بأبشواي
  • مصطفى الفقي: ترامب سيحاول إطلاق مبادرات كثيرة عن الشرق الأوسط وروسيا
  • روبوت يتحول لجراج ماهر بعد مشاهدة فيديوهات تعليمية
  • المفتي دريان استقبل الوفد الاغاثي الجزائري
  • اكتشاف جديد لعلاج متلازمة "ليل" القاتلة.. تعرف على التفاصيل
  • فضيحة تتسبب بطرد متسابقة من "ملكة جمال الكون"