جريدة الرؤية العمانية:
2024-07-06@12:44:21 GMT

تواضعوا.. فالجنة لا يدخلها متكبرون

تاريخ النشر: 20th, August 2023 GMT

تواضعوا.. فالجنة لا يدخلها متكبرون

 

حمد الحضرمي **

الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي شرفه الله ومنحه الثقة ليكون خليفته في الأرض، وهذه منزلة عظيمة رفيعة تدل على عظم العمل الموكل إليه، وهو تعمير الأرض ببناء أعظم الحضارات عليها وهي الحضارة الإنسانية، وهذه الحضارة لن تُقام إلا بتفعيل مبادئ وقيم مكارم الأخلاق في السلوك الإنساني، والإنسان يُعتبر مركز الكون، حيث إن معظم النصوص الدينية موجهة للنهوض به وترقيته وتهيئة الأجواء المناسبة له، لكي ينتج وينجح في حياته، وبموجب ذلك أصبح الإنسان اليوم هو رأس المال الحقيقي لأي أمة، وتعتبر الأخلاق في حياة الشعوب والأمم هي الأساس في حياتهم، وتبقى آثارها الطيبة باقية خالدة حتى بعد وفاتهم وفنائهم، وصدق القائل:

قد مات قوم وما ماتت مكارمهم // وعاش قوم وهم في النَّاس أموات

إنَّ الإنسان أوله نطفة تافهة لا قيمة لها، وآخره جيفة يتم التخلص منها في قبر مُظلم وضيق، وبين نقطة البداية ونقطة النهاية يقضي الإنسان حياته مع النَّاس، ويكون بعضهم متكبرًا متعاليًا، وهذا الغرور يورث الكبر والعجب وغيرها من أمراض القلب، والغرور يهلك الأمم، ويصيب الأفراد بالأمراض النفسية الخطيرة، فكيف يُعمر الإنسان المتكبر الأرض التي تحتاج إلى أناس طيبين متواضعين أصحاب خلق ومبادئ وقيم وأسس إنسانية عظيمة.

فإلى متى يا أيها الإنسان هذا التكبر؟! وأنت مخلوق ضعيف، قليل الهمة، بالغ العجز، شديد الضعف كقطعة القماش البالية، أمام الأهواء والأمراض وصعوبات الحياة والأزمات النفسية والمادية، وهذه الأحوال التي تمر على الإنسان في حياته تجبره أن يكون متواضعًا وتبعده- رغم أنفه- عن الغرور والتكبر والخيلاء إن كان يفكر بعقله، وقد قال الله تعالى في سورة الإسراء الآية 13 "وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ"؛ وطائره هو ما طار عنه من عمله؛ سواءً كان خيرًا أم شرًا، والإنسان لا يقدر على الهروب من عمله، فهو ملزم به رغم أنفه، وسوف يجازى عليه، فخير الإنسان وشره ملتصقان به، لا يفارقانه حتى يحاسب، فالخير طريق السعادة وهي الجنة، والشر طريق الشقاء وهي النار.

إن الكبر آفة عظيمة، وسبب في عدم دخول الجنَّة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يدخلُ الجنة من في قلبه مثقالُ ذرةٍ من كبر"؛ فالأخلاق منبع السعادة وهي أبواب الجنة، والكبرُ منبع الشقاء وتغلق أبواب الجنة، فلا تنفتح لأي متكبر؛ لأن المتكبر قد أنزل نفسه فوق منزلتها، ويرى نفسه أكبر من غيره، ويستعظم ويستحسن ما فيه من الفضائل ويستهين بالنَّاس ويستصغرهم، ويترفَّع على من يجب التواضع له.

إن المتكبرين قد عميت قلوبهم بظلمة الجهالة، وأصبحت صدورهم ضيقة، فاتخذوا الهوى لهم قائدًا والشيطان دليلًا. ومن أسباب الكبر هو العُجْبُ والحقد والحسدُ والرياءُ، فأما العجب: فإنه يورث الكبر الباطن ثم يكون تكبرًا ظاهرًا في الأعمال والأقوال والأحوال، وأما الحقدُ: فإنه يحمل على التكبر من عجب، كالذي يتكبر على من يرى أنَّه مثله أو فوقه، فيغضب عليه ثم يحقد ويرسخ البغض في قلبه، ولا تطاوعه نفسه أن يتواضع له، وأما الحسدُ فيوجب البغض للمحسود وجحد الحق حتى يمنع من قبول النصيحة وتعلم العلم، وأما الرياء: فهو أيضًا من صفات المُتكبرين، لأنه يتعالى بريائه على من هو أفضل منه.

فحسب المراجع الإلكترونية التي اطلعنا عليها، يكون للكبر ثلاث درجات؛ الأولى: أن يكون الكبر مستقرًا في قلب الإنسان ويرى نفسه خيرًا من غيره، إلا أنه يجتهد ويتواضع، فهذا في قلبه شجرة الكبر مغروسة، إلا أنه قد قطع أغصانها، والدرجة الثانية: أن يُظهر لك بأفعاله من الترفع في المجالس والتقدم على الأقران، والإنكار على من يقصر في حقه، وأما الدرجة الثالثة: أن يظهر الكبر بلسانه كالمُفاخرة، وتزكية النفس والتكبر بالنسب، فالذي له نسب شريف يستحقر من ليس له ذلك النسب، وإن كان أرفع منهُ عملًا. ومن أصناف التكبر، التكبر بالمال وأكثر ما يجري بين أصحاب الأعمال والتجار ونحوهم، وأما التكبر بالجمال فأكثر ما يجري بين النساء، ويدعوهن إلى التنقص والغيبة وذكر العيوب. وللكبر أنواع ثلاثة: النوع الأول: الكبر على الله تعالى وهو أفحشُ أنواع الكبر، وذلك مثل تكبر فرعون والنمرود، حيث رفضا أن يكونا عبدين لله، والنوع الثاني: الكبر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يمتنع المتكبر من الانقياد له تكبرًا وجهلًا وعنادًا كما فعل كفار مكة، وأما النوع الثالث: الكبر على العباد بأن يستعظم نفسه ويحتقر غيره ويزدريه ويترفع عليه.

إن التكبر غطرسة وعجرفة بلغ تأثيرها على الفرد والمجتمع، والكبر حين يستشري في نفس المرء يستحكم قلبه، ويفتن عقله متغاضيًا على نقصه، مشهرًا سوءة غيره، وإن تكلم تبجح، وإن مشى اختال، وإن نصح تباهى، وأن ساعد تعاظم. إن الإنسان التقي من يقدر غيره، فالأخلاق الكريمة سند ومدد، والأخلاق السيئة تحطيم وتهديم، إن التواضع سمة أهل العلم والفهم، أودعها الله في نفوس الأنبياء، وورثها العقلاء والنبلاء، وأما الخيلاء والكبرياء فما هما إلا سقام وخيم، دب بين النَّاس كالنار في الهشيم، وما أن بث سمومه في المجتمع إلا وقد تصدع بنيانه، وتهشمت أركانه وتشققت عمدانه.

وأخيرًا.. إنَّ التبختر موجب للشقاء، والتجبر مسوغ للعناء، وسقم عليل وشر مستطير وخطيئة إبليس الرجيم، فمن تكبر ذله الله، لأن الكبر يسلب الفضيلة ويسكب الرذيلة، وأنه لمن المؤسف والمُحزن أن نرى بيننا ومعنا أناساً متكبرين على الوالدين وعلى الإخوة وعلى الأصدقاء والزملاء في العمل..

 

تواضعوا؛ فالجنة لا يدخلها متكبرون، وإياك أيها الإنسان والتكبر لأنه وجه من وجوه الظلام، وصفة من صفات وأخلاق اللئام، وعليك بالتواضع لأنه وجه من وجوه النور، وصفة من صفات وأخلاق الكرام.

** محامٍ ومستشار قانوني

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

مِنَ الزُّهد إلى الأدب

تَبلوَر الزُّهد بادئ أمره بوصفه ردَّ فعل "الدين المُجرَّد" -إبَّان قرون الإسلام الأولى- على تشوه التركيبة النفسية، وانحراف وجهة الحياة الاجتماعيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة في مُجتمعات الأمويين ثم العباسيين، التي ولغت في الترف المفسد. ورويدا رويدا، نَضجَت ممارسات هذا الزهد نُضجا إسلاميّا مُركَّبا؛ فتحوَّلت إلى ظاهرة صوفيَّة، وانطوى هذا الزهد نفسه تدريجيّا حتى أمسى عُنصرا مهمّا من عناصر الظاهرة الاجتماعيَّة الجديدة، حين ترسَّخ المركَّب الجديد بوصفه نمطا معيشيّا إسلاميّا فريدا، وشبه مُتكامل. هذا النمط الجديد هو ما اصْطُلحَ على تسميته بـ"التقليد الصوفي".

لم يؤدِّ نُضج التقليد الصوفي إلى نبذ الزُّهد، بل صار رد الفعل الأحادي المبكر -الأقرب إلى الرهبنة في أصله- عُنصرا داعما من عناصر اتزان المركَّب الجديد، بعد أن كان عُنصر "غُلوٍّ" مُضاد -للغلو في الترف- مبدأ ظهوره. صار عُنصرا لا يُهيمن على المركَّب الجديد ولا يحرفه عن اعتدال الإسلام؛ وإنما يزنه بميزانه التركيبي، ويُفيد من فعاليته. وبعد جنوح أهل الزهد -بادئ ذي بدءٍ- إلى التنفير من أكثر الطيبات تورُّعا -على النمط المسيحي- لم يَعُد الطعام أمرا مُنفرا للوجدان الصوفي وتقليده الناضج؛ إذ صحَّ تعبيره عن الإسلام. وباعتدال الكفَّة، جرى إعادة استيعاب الطيبات الحقَّة ثانية داخل النمط الإسلامي المتكامل، ودُمجت طيبات المأكل في منظومة التصوف الآخذة في التطور، وذلك بوصفها عُنصرا تأسيسيّا من عناصر الآداب الإسلاميَّة؛ أي سُنَّة من سنن تزكية النفس وأبواب رياضتها وتهذيبها.

لُقِّبَت آداب الحياة الاجتماعية ورياضتها هذه بآداب الظاهر، وصارت آداب السلوك والذكر والرياضة الروحية هي آداب الباطن. هذه اﻵداب الشرعيَّة -في تنظيم نعمة الأخذ من الطيبات- هي الموجِّه الأساس للحياة البرانية للصوفي، بالتوازي مع المقامات والأحوال الجوانيَّة للطريق الصوفي
وقد لُقِّبَت آداب الحياة الاجتماعية ورياضتها هذه بآداب الظاهر، وصارت آداب السلوك والذكر والرياضة الروحية هي آداب الباطن. هذه اﻵداب الشرعيَّة -في تنظيم نعمة الأخذ من الطيبات- هي الموجِّه الأساس للحياة البرانية للصوفي، بالتوازي مع المقامات والأحوال الجوانيَّة للطريق الصوفي. وفيهما معا لا قدوة إلا الأسوة الحسنة صلى الله عليه وآله وسلم، بوصفه مجمع اﻵداب والأخلاق الربانية، والإنسان الكامل. فعلى المسلم -بله السالك المريد- أن يكون كل تخلُّقه -من معاملة البشر إلى أكل طعامه- احتذاء لسنَّة حضرته، ولمثاله النماذجي. ولذلك؛ صار الصوم والفطر، والأكل والإمساك، والنوم والقيام؛ بذات القدر من الأهميَّة(1).

وفي هذا الإطار، عادت وجبة الطعام زادا لا غنى عنه للجسد العابد والعقل المتفكِّر؛ إذ تُخفِّف عن الروح أثقال حاجات الجسد وضغط إلحاحها، ما تقيَّدت بالقيود الشرعيَّة في نبذ التكلُّف وعدم الإفراط؛ أي صارت عبادة إسلاميَّة، فإن الإسلام لا يحضُّ -مثل الدين المجرَّد- على الامتناع التام عن الطعام، وإنما يأمرُ بعدم الإسراف، وبأكل الطيب، وبالصوم، وبإطعام الطعام؛ لئلا تصير نعمة تناول الطعام (وتلبية الشهوة) لهوا مُحرَّما صارفا عن السلوك وعن التكليف، بالإفراط فيه، أو البخل به، أو تناول الخبيث منه. وعليه، فإن الصوم عندنا ضرورة؛ لأن دوام إشباع الشهوة الحلال امتلاءٌ يُقعِدُ عن العبادة ويورِث الوهن، بل وقد يزيد الشبق إلى الشهوات والانشغال بها. ومن ثم؛ صار الصوم استعادة لتوازُن النفس كما هو استعادةٌ لتوازُن الجسد. فيجب على المؤمن رياضة نفسه وجسده ليستقيم جوانيه(2). والصوم بذلك ليس غاية، وإنما وسيلة، مثله في ذلك مثل الخلوة؛ فإنما تُخلى الروح من الشواغل والصوارِف بحفظ الجسد وعدم بث الوهن في أوصاله بتلبية كل شهوة يجنح إليها، وذلك إذ يُحفظ الجسد والروح بالتوسُّط في التلبية والإشباع.

ومما يُسهم في تحقُّق هذا التوسُّط الإسلامي ألا يُكثر الإنسان الاشتغال بمعاشه ومأكله، والكلام عنه، والتكلُّف فيه؛ فهذا نهمٌ مذموم، وشبقٌ مؤذ، وانصرافٌ عن المنعم إلى النعمة. وهذا غير التحدُّث بنعمة الله، وذكر فضله تعالى. إذ أن الطعام عند المسلم -والصوفي خصوصا- سدٌّ للجوع وتسكينٌ للروح، لا التذاذٌ حيواني وتُخمة تُفضيان إلى وَهَن. وقد كان بعضهم يَعُدُّ مائدته ساحة جهاد؛ يحذر فيها الزلل إلى دَرَك الالتذاذ الحيواني بإشباع كل شهوات النفس، والذي قد يَقلِبُ كل رياضته رأسا على عقب؛ فيصير سيره لنفسه وشهوته لا لله. وفي هذا السياق، نُدرِك لِمَ كان بعض الصوفية والأولياء الكبار يُحجمون أحيانا عن أكل ما يشتهون رياضة لأنفسهم، وتأديبا لها؛ فعندهم أن آدم عليه السلام إنما غوى بمأكله، الذي حسب أنه يُبلِّغه ما لن يُبلِّغه إياه الامتناع لله. فإن كان لا بُد مُنشغلا؛ فليكُن ممن يُطعمون الطعام، ويتقرَّبون إلى الله تعالى بما لا حيلة له في دفعه من هذا الجنوح النفسي(3).

***

وإذا كان التصوف قد بدأ زُهدا مُجرَّدا، يتغيَّا تجريد التوحيد من غواشي الترف؛ فإن سلامة التوحيد نفسه هي باب الزُّهد، وأهم مفاتحه الزهد في الصور والأشباح، التي يصطنع منها الإنسان غشاوة تحجبه عن الحق سبحانه. لكنَّ كمال التوحيد نفسه لا يُفضي إلى الزُّهد وإنما إلى الأدب، ومن الأدب عدم الإسراف، والحذر من الغفلَة التي يؤدي إليها الإفراط.

فالطعام الحلال الطيب ليس مذمَّة وإنما يصيرُ الإفراط فيه كذلك. وإن من الأدب تناول الطعام تناولا يُذكر بالصلاة؛ ففيه عبادة مثلها في الأهمية مثل عبادة النكاح(4)، عبادة يجب أن تُزكِّي لا أن تُنسي. فإن أُنسي الإنسان سبب أكله وغرض شهوته ووجهتها؛ فقد انقلب ما أحلَّه الله حراما عليه، لأنه يصرفه عن الغاية، ويشغله بشهوته عن الذكر والشكر. وقد اشتهر عن بعض السلف قولهم: إن الطبيخ طعام الغافلين! وذلك لما فيه من دسمٍ قد يُثقِلُ البدن ويُشوش الذهن، ويُفضي غالبا إلى الغفلَة، والغفلة مضيعة للشُّكر، والإنسان أحوج ما يكون إلى الشكر خصوصا في الموطن الأشد جلاء لفضل الله ونعمه: نعمة تلبية الشهوات من حلال.

باستعادتنا الآداب الشرعيَّة القويمة للتعاطي مع النعم، والتقاليد المحليَّة في مُعالجتها إلى بؤرة الطرح، استنقاذا للذائقة المصريَّة التي فسدت وكرَّس فسادها المطاعم الرديئة المتكاثرة، والأنماط الاستهلاكيَّة الرأسماليَّة المدمِّرة؛ فإننا نؤكد بذلك على أن نقيض هذا الفساد والانحطاط ليس الزُّهد المطلَق، وإنما هو الأدب الرباني في التعاطي مع النعم
إن استيعاب السالك للتوحيد، يُفضي به إلى القبض على بعض زُهده في الدنيا استبقاء للمعيَّة. فإن المعيَّة الإلهيَّة للسالك لا تجتمع مع غفلة، والغفلة لا تتسلَّط إلا بالولوغ في تلبية كل ما أحلَّ للبشري من الشهوات، والانشغال بها وبإشباعها حتى الثمالة. وهذا ليس إنكارا للشق المادي في الإنسان -فهو شقٌّ لا يُنكره إلا كافر- وإنما ضبطٌ له على مراد الله، وعدم انشغال بما خُلِقَ لك عمَّا خُلِقْتَ له، وإنما أخذ منه بحق؛ إلى الدرجة التي تكفي حاجة الحركة الإنسانيَّة ولا تُلهي عنها(5). والصوفي في هذا كله مجاهد، وميدان جهاده هو النفس الأمَّارة بالشهوات (السوء). وإن غفلة النفس عن نعيم اﻵخرة وانصرافها عنه لا يتجلَّى في مثل تهالُكها على ملذَّات الحياة الدنيا وتمام انشغالها بألوانها.

إننا باستعادتنا الآداب الشرعيَّة القويمة للتعاطي مع النعم، والتقاليد المحليَّة في مُعالجتها إلى بؤرة الطرح، استنقاذا للذائقة المصريَّة التي فسدت وكرَّس فسادها المطاعم الرديئة المتكاثرة، والأنماط الاستهلاكيَّة الرأسماليَّة المدمِّرة(6)؛ فإننا نؤكد بذلك على أن نقيض هذا الفساد والانحطاط ليس الزُّهد المطلَق، وإنما هو الأدب الرباني في التعاطي مع النعم، والمشتمل على زهد نسبي في هذا الغثاء؛ يُعيده إلى حجمه الحقيقي منبوذا، ويستنقذ منه النفوس والعقول والأرواح قبل الأجساد. وتخيَّل أكرمك الله أن هذا الأدب والزُّهد النسبي محمودٌ مطلوب مأمور به في الطيبات التي أحلَّها الله، فكيف بالرديء الذي حفَّته الشبهات، وعجزت عنده الاجتهادات بسبب صدِّ أهل السلطة والمال -المنتفعين- عن ذلك السبيل؟!
__________
الهوامش:
(1) وهذا لما رواه البخاري، من حديث طويل لأنس بن مالك؛ أن حضرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله قال: "أَمَا واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ له؛ لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ. فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي".
(2) وثمَّ أثر ماتع يُفيد في توجيه هذه الرياضة، وهو منسوب إلى عمر بن الخطاب: "اخْشَوْشِنوا؛ فإنَّ النِّعمَةَ لا تدومُ".
(3) وقد روى ابن ماجه، من حديث طويل لعبد الله بن سلام؛ أن حضرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ قال: "يا أيُّها النَّاسُ أفشوا السَّلامَ، وأطعِموا الطَّعامَ، وصِلوا الأرحامَ، وصلُّوا باللَّيلِ، والنَّاسُ نيامٌ، تدخلوا الجنَّةَ بسَلام".
(4) روى مسلم، من حديث طويل لأبي ذر الغفاري؛ أن حضرة سيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ قال: ".. وفي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ"، قالوا: يا رَسولَ اللهِ؛ أَيَأتي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكونُ له فِيهَا أَجْرٌ؟ قالَ: "أَرَأَيْتُمْ لو وَضَعَهَا في حَرَامٍ، أَكانَ عليه فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذلكَ إذَا وَضَعَهَا في الحَلَالِ كانَ له أَجْرٌ".
(5) وفي ذلك يحكمنا ناموس نبوي، مما أخرجه ابن حبان وأحمد (واللفظ له) والبيهقي في الشُّعَب، من حديث أبي الدرداء؛ أن حضرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ قال: "ما طَلَعَتْ شَمسٌ قَطُّ إلَّا بُعِثَ بجَنَبتَيها ملَكانِ يُناديانِ؛ يُسمِعانِ أهلَ الأرضِ إلَّا الثَّقَلَينِ: يا أيُّها النَّاسُ، هَلُمُّوا إلى ربِّكم؛ فإنَّ ما قَلَّ وكَفى، خيرٌ ممَّا كَثُرَ وألْهى، ولا آبَتْ شَمسٌ قَطُّ إلَّا بُعِثَ بجَنَبتَيها ملَكانِ يُناديانِ؛ يُسمِعانِ أهلَ الأرضِ إلَّا الثَّقَلَينِ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنفِقا خَلَفا، وأَعْطِ مُمسِكا مالا تَلَفا".
(6) راجع مقالينا السابقين على هذا الموقع نفسه: "كيف فسدت الذائقة المصريَّة؟"، و"لماذا تنتشر المطاعم الرديئة في مصر؟".

مقالات مشابهة

  • كاتب في التاريخ: لو أراد الإنسان معرفة حقيقة التاريخ الإسلامي عليه الاعتماد على القرآن والسنة الصحيحة
  • حمدوك، حميدتي والبرهان !!!
  • نظرية إسلامية للحكم
  • “سي إن إن”: المناظرة الفاشلة لبايدن تحتم عليه إثبات نفسه في قمة الناتو
  • مِنَ الزُّهد إلى الأدب
  • السيد القائد حول أزمة الحجاج: السعودي يسيء لنفسه بتعنته ويفضح نفسه وعواقبه السيئة عليه
  • «انكسار».. تسرد حكاية الحب والخيانة من منظور فلسفي
  • مرصد الأزهر: الكيان الصهيوني شاذ دخيل على الشرق الأوسط غرسته أيادٍ غربية
  • كيفية تحصين النفس من الفتن؟.. «الإفتاء» تحدد 10 أمور مهمة
  • عادل حمودة يكتب: في صحة أحمد زكي