هندسة الانتصار.. كيف خطّطت حماس لمشاهد ما بعد الحرب؟
تاريخ النشر: 20th, January 2025 GMT
لطالما ملأت هوليود رؤوسنا بحكاياتها عن أبطال الغرب؛ فترى أحدهم منقذا للعالم من غَزو فضائي في إحدى الحكايات، وفي أخرى، نشاهد بسالة البطل وقدراته الخارقة في مواجهة هجمات الأشرار (من الشيوعيين أو النازيين أو غيرهم)، التي كادت تُهلك العالم لولا حضور المنقذ الأبيض. ودائمًا ما يواجه هذا البطل صراعًا مريرًا، يتأرجح خلاله بين النصر والانكسار، ويكون الصمود مفتاحا لغلبته في الأخير، بما يأذن بمشهد ختامي مؤثر تتقن هوليود إخراجه.
يحدث ذلك في الأفلام وفق سيناريو محسوب ومحدد مسبقًا على الورق، وليس مقبولًا بأي حال أن يحيد طاقم العمل عن خطوطه الأساسية، فمن شأن ذلك أن يفسد ذروة الختام. ولكن في مقابل تلك الصورة السينمائية المحبوكة والمغلفة بالبروباغندا، غالبا ما تكون مشاهد البطولة الحقيقية على الأرض أكثر بساطة وواقعية.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2القسام في شوارع غزة من جديد.. ما دلالات عروض النصر؟list 2 of 2أبو عبيدة في خطاب النصر.. البلاغة من فوهة البندقيةend of listأحد تلك المشاهد بلا شك هو ما رأيناه في قطاع غزة، في الساعات الأولى لسريان وقف النار من جانب المقاومة الفلسطينية وشعبها في غزة، وهو مشهد على واقعيته لم يخل من ملحمية واضحة. خرج مقاتلو كتائب القسام بكامل عتادهم العسكري مرتدين زيهم الأخضر الشهير، نظيفا ومرتبا وزاهيا، وكأنهم متوجهون إلى مهرجان أو احتفالية، وسرعان ما انتشر هؤلاء المقاتلون في جميع أنحاء غزة ببراعة ودقة وتنظيم فائقَين، وظهرت معهم سيارات الدفع الرباعي البيضاء ناصعة.
إعلانبالنظر إلى أن ذلك كله حدث مباشرة بعد 470 يوما من حرب الإبادة التي لم تتورع فيها إسرائيل عن استخدام طريقة مهما كانت لإخضاع شعب غزة ومقاومتها، يبدو ذلك المشهد سينمائيا بامتياز. وللحقيقة، من الواضح أن حركة حماس والمقاومة الفلسطينية تعمدت إظهاره بتلك الصورة لتمرير رسائل مبطنة إلى العالم وبشكل أكثر تحديدا إلى الإسرائيليين، رسائل حول قوة وصلابة مقاتليها بعد هذه الجولة من القتال المطول، وحول حجم التفاف الشعب الغزي حولها رغم إمعان إسرائيل في التنكيل به لدفعه لنبذ المقاومة، وأخيرا حول حيوية وكفاءة تنظيمها الذي أدار المشهد بحرفية بالغة، وعناية مثيرة للانتباه بأدق التفاصيل وأصغرها.
كما هي العادة.. التخطيط والاهتمام بأدق التفاصيلفي الحقيقة كان الاهتمام بالتفاصيل دائما أحد السمات المميزة لحركة حماس، وفي القلب منها جناحها العسكري، كتائب عز الدين القسام. ويرجع ذلك إلى إدراكها أن الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، وكما أنه صراع حول الأهداف والقضايا الكبرى، فهو أيضا صراع حول السردية والرواية وحتى التفاصيل الصغيرة. تلك التفاصيل، التي تظهر في الصور ومقاطع الفيديو والرسائل الموجهة وغيرها، غالبا ما تكون قادرة على مخاطبة مخاوف الإسرائيليين وغرائزهم واللعب على أوتار انقساماتهم، مما يعكس فهما "مزعجا" من قبل الفلسطينيين لطبيعة خصمهم ودوافعه ومحركاته الأساسية.
وإذا ما عدنا زمنيا إلى الوراء، بإمكاننا أن نعثر على شواهد عدة على ذلك الاهتمام بالتفاصيل ليس فقط في المشاهد والرسائل الإعلامية ولكن في تنظيم الفعل المقاوم نفسه. من ذلك على سبيل المثال، اللمسات النهائية التي وضعتها المقاومة على عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، في وقت كانت فيه إسرائيل تتخبط داخليا على خلفية توترات وانقسامات سياسية طويلة، بسبب مجموعة التشريعات التي دفع بها رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو ضمن خطته "للإصلاح القضائي" التي قابلت رفضا واسعا من قبل الكثير من الإسرائيليين.
إعلانوكان من شأن هذه الاضطرابات الداخلية أن توفر ما يشبه "الضوضاء الخلفية"، التي عملت على تشتيت انتباه الاستخبارات وأجهزة الأمن الإسرائيلية عن نية حماس وتحركاتها.
سبق ذلك استثمار حماس في البنية التحتية للأنفاق عبر إنشاء شبكة واسعة من الممرات تحت الأرض، تمكّنها من شنّ هجمات مفاجئة، ومن المؤكد أن هذه المرافق ساهمت في إخفاء الاستعدادات وتعزيز عنصر المباغتة، سواء خلال هجوم طوفان الأقصى أو فيما تلاه من المعارك الحضرية داخل القطاع.
كما اتضحت قدرة المقاومة، خلال شهور الحرب، على استغلال بيئة المعركة وتعقيداتها على النحو الأمثل، رغم فارق القدرات بين الطرفين، وهو أمر لا يتأتى إلا من خلال الاستعداد الدقيق بعيد المدى، وفق ما يشرح زميل معهد واشنطن، مايكل نايتس، مشيرا أن حماس أعدت على مدار 15 عاما دفاعا عميقا يدمج التحصينات تحت الأرض وفوقها، فضلًا عن تجهيز حقول الألغام المحتملة والعبوات الناسفة المرتجلة والألغام المضادة للدروع والمباني المفخخة، كما نجحت في تعقيد بيئة العمليات بصورة أكبر بعد احتجازها لأسرى إسرائيليين، مما دفع الداخل الإسرائيلي إلى حالة انقسام بشأن مصير هؤلاء الأسرى طوال مدة الحرب.
وعلاوة على الشق العملياتي، أدركت المقاومة الفلسطينية منذ اليوم الأول أن الاحتلال سوف يرد بشراسة على هجوم طوفان الأقصى، وتجهزت للصمود أمامه دون نسيان تحقيق أكبر استفادة سياسية ممكنة لقضيتها حتى وهي تخوض الحرب الأكثر شراسة في تاريخها.
وفي هذا الصدد، تمكنت المقاومة والمتعاطفون معها في الخارج من تحقيق إنجازات على محاور عدة، منها النجاح في ضرب سياج من العزلة الدولية حول إسرائيل، واكتساب التعاطف الشعبي خاصة بين الفئات الأصغر عمرا في الغرب، والتي سوف تشكّل الكتلة الانتخابية الأكبر في بلدانها في غضون السنوات القادمة، ومن المرجح أن يكون لها دور في الحد من الدعم الغربي غير المشروط لدولة الاحتلال في المستقبل في حال تحول هذا التعاطف الشعبي إلى قرار انتخابي يوجّه قرار الناخب.
إعلانكما يمكن ملاحظة أثر الطوفان في إعادة القضية الفلسطينية إلى صدارة المناقشات العربية والدولية.
لقد كان كل يوم، بل كل ساعة، من الصمود للمقاومة وشعبها في غزة يسقط المزيد من الأصباغ عن وجه إسرائيل ويكشف المزيد من الحقائق على معاناة الفلسطينيين وعدالة قضيتهم. وهو ما يشير إليه "جون ألترمان"، مدير برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية في واشنطن، منوهًا أن حماس لا ترى النصر في عام واحد أو 5 أعوام، بل من خلال الانخراط في عقود من النضال، الذي يزيد من التضامن الفلسطيني ويزيد من عزلة إسرائيل.
وبتعبير آخر، يمكن القول إن ما قامت به المقاومة، يتقاطع مع مفاهيم المنظّر البروسي الشهير "كلاوزفيتز"، الذي رأى في الحرب وجها آخر للسياسة أو شكلا من أشكال العمل السياسي (ونعني هنا العمل السياسي بمفهومه الشامل وليس بمفهومه الحزبي الضيق)، وتمكنت بذلك من إعادة توجيه القوة المفرطة التي يوجهها الاحتلال ضد قطاع غزة كي تعمل ضده، مستغلة تخبط القيادات الإسرائيلية وافتقارها إلى الرؤية بشأن هدفها من الحرب، وافتقادها القدرة على تحقيق ما تريد.
ورغم امتلاك إسرائيل اليد العليا من حيث التقنيات والأسلحة والدعم الغربي غير المشروط، فإنها كانت تتحرك في الأخير على الرقعة التي صنعتها المقاومة الفلسطينية وصممتها بنفسها. وكأن ما دار هو لعبة شطرنج بين خصمين، تمكّن خلالها أحدهما من توجيه الآخر نحو نقلات إجبارية ودفعه إلى التحرك وفق ما يريد.
وكان الختام لذلك، هو قبول إسرائيل بوقف الحرب وتبادل الأسرى مرغمة لا طائعة بعد أشهر من رفضها الصفقة نفسها، تلك الصفقة التي وُصفت بـ"صفقة الاستسلام" من قبل بعض وزراء الحكومة الإسرائيلية وقادتها الذين اعتبروها إعلان هزيمة لإسرائيل، فاستقال على أثرها الوزير اليميني المتطرف إيتمار بن غفير وحزبه من الحكومة والكنيست الإسرائيلي، فيما اعتبرها وزير المالية اليميني بتسلئيل سموتريتش صفقة "كارثية".
نخلص من ذلك إلى أن قوة حماس تمثلت بشكل أساسي في تقديرها وحسابها لكل خطوة، واعتبارها أن ما هو فرعي يقع على الدرجة نفسها من الأهمية التي يحظى بها الرئيسي، وكان ذلك سبيلها لتحقيق التوازن (بل والتفوق النسبي) بشكلٍ ما أمام فارق القوة بينها وبين الاحتلال الإسرائيلي، مما يدفعنا بالضرورة إلى إعادة النظر في المشاهد التي أعقبت وقف إطلاق النار في غزة، واعتبارها أيضًا جزءًا ضمن أهداف حماس وإستراتيجيتها طويلة النفس لمجابهة دولة الاحتلال.
إعلانوفيما يبدو، أرادت المقاومة -في المقام الأول- أن تثبت لإسرائيل، أن ما أعلنه نتنياهو في وقت سابق، حول القضاء على حماس وتدمير قدراتها العسكرية، باعتباره هدفا لحربه الضارية على القطاع ومسوغا لتدميره، هو أمر لم يتحقق، والدليل، تمكّن أفراد حماس من استعادة السيطرة على القطاع في غضون دقائق من إعلان وقف إطلاق النار، وظهورهم بالزي الموحد البرّاق والمركبات العسكرية والنشاط الجمّ، وكأنهم لم يتأثروا بخوض هذه الحرب الطويلة بتاتا، وفي ذلك رسالة إلى عدوهم بأنهم على استعداد لتحمل حرب أطول إذا ما اقتضت الظروف.
كما حملت هذه المشاهد نوعا من استعراض القوة، الذي يحطم أي ادعاء نصر يزعمه نتنياهو أمام شعبه، كما يساهم في تدني الروح المعنوية لعدوهم الإسرائيلي، الذي استُهلك ماديا وبشريا ونفسيا على مدار هذه الشهور، دون تحقيق أي من أهدافه الرئيسية. وفي السياق ذاته، ينفي ظهور أفراد القسام في وسط غزة واستقبالهم بهذه الحفاوة من قبل الأهالي، الشائعات التي تداولتها بعض وسائل الإعلام الغربية، والتي زعمت خلالها أن أهالي القطاع يحمّلون المقاومة وزر تعرضهم للقصف الإسرائيلي على مدار هذه الشهور، كما يُبطل ذلك أي محاولات للوقيعة بين القسام وبين حاضنتها الشعبية في غزة.
أكثر من ذلك ينطوي مشهد غزة الموحدة -على ذلك النحو- على رسالة أخرى للاحتلال، مفادها أن قوة القسام البشرية قابلة للتجدد والتعويض بل وللزيادة مما يبدد اعتقاد الاحتلال في إمكانية القضاء على المقاومة، عبر إسقاطه أكبر عدد من الشهداء وسط صفوفها. وأكثر من ذلك تُظهر الترتيبات والتحركات المنظمة من أفراد الحركة داخل القطاع، أن المقاومة الفلسطينية نجحت ولو نسبيا في تجديد هيكلها القيادي بعد اغتيال الاحتلال لعدد من قادتها البارزين وعلى رأسهم إسماعيل هنية ويحيى السنوار، وهو ما يهدم نظرية تقويض الحركة من خلال استهداف قادتها.
إعلانوفي الختام، جاء تسليم الأسرى، ليتوج رسائل حماس السياسية في مشهد النصر. ظهرت الأسيرات الإسرائيليات الثلاث في أفضل هيئة ممكنة، بثياب نظيفة وضفائر معقودة بعناية ووجوه مطمئنة لا توحي إطلاقا بقضائهن 15 شهرا كاملة في الأسر تحت وطأة القصف والحصار والتجويع. ناهيك بالهدايا التي وزعّها عليهن رجالُ القسّام وشملت خريطة لقطاع غزة وشهادة إفراج وصورا تذكارية من فترة الأسر.
يشير ذلك المشهد أن الأسيرات حظين بأفضل معاملة ممكنة وفق الظروف المتاحة، تماما كما تأمر الشريعة الإسلامية الغراء. تتناقض تلك الصورة تماما مع صورة الأسيرة الفلسطينية المفرج عنها من سجون الاحتلال خالدة جرار، إذ بدت مذهولة ومنهكة بشكل واضح وبحاجة إلى من يتناول يدها ويسندها خلال سيرها. وتكفي هذه المقارنة كي تبرهن للعالم على الفارق الإنساني والأخلاقي بين الطرفين، لمن أراد أن ينتبه أو يعتبر.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات أبعاد المقاومة الفلسطینیة على مدار من ذلک فی غزة من قبل
إقرأ أيضاً:
مقترح بلا ضمانات… لماذا ترفض المقاومة الفلسطينية المقترحات “الإسرائيلية”؟
في الوقت الذي تتصاعد فيه الدعوات الدولية لاستئناف الهدنة في قطاع غزة، تبدو الفجوة بين طروحات الاحتلال الإسرائيلي ومطالب المقاومة الفلسطينية أوسع من أي وقت مضى، فالمقترح الإسرائيلي الأخير، الذي رُوّج له إعلاميًا باعتباره خطوة نحو التهدئة، لا يحمل في طياته سوى شروط تعكس أهدافًا استراتيجية تسعى لتفكيك قوة حماس وسحب أوراقها التفاوضية، في مقابل تقديم تنازلات شكلية لا تلبّي الحد الأدنى من المطالب الفلسطينية.
هدنة مؤقتة لا تلبي الشروط الأساسية
الموقف الفلسطيني الرافض لمقترح الاحتلال لم يكن وليد رغبة في التصعيد، بل جاء كرد طبيعي على بنود تحمل نوايا خفية أكثر من كونها مبادرات سياسية، فحسب مصدر بارز في المقاومة، فإن جوهر الطرح الإسرائيلي لا يستجيب للمطالب الجوهرية المعلنة، وعلى رأسها وقف شامل ودائم لإطلاق النار، وانسحاب كامل لقوات الاحتلال من القطاع، وبدلًا من ذلك، يقترح الاحتلال “هدنة مؤقتة” مدتها 45 يومًا، يُسمح خلالها بمرور المساعدات الإنسانية عبر المعابر، ولكن بشروط يحددها الجانب الإسرائيلي، ما يُبقي قبضة الحصار مفروضة ولو بصيغة جديدة.
الهدف غير المعلن: نزع أوراق القوة من يد حماس
القراءة التحليلية لبنود المقترح تشير إلى أنه لا يُراد له أن يكون اتفاقًا لإنهاء الحرب، بل أداةً لفرض وقائع سياسية جديدة، فتركيز المقترح على استعادة تسعة أسرى إسرائيليين، بينهم جندي يحمل الجنسية الأمريكية، يعكس رغبة الاحتلال في استعادة “ورقة الأسرى” كأولوية تفوق أي اعتبار إنساني يتعلق بأهالي غزة، بل إن المصدر ذاته يؤكد أن الطرح يهدف إلى سحب هذه الورقة تدريجيًا من يد حماس، باعتبارها أحد أهم عناصر الضغط التي تملكها الحركة.
ويُضاف إلى ذلك، تضمّن المقترح بندًا ينص على إعادة تموضع الجيش الإسرائيلي في غزة على نحو ما كان عليه قبل الثاني من مارس، وهي صيغة تعني استمرار الاحتلال الفعلي، سواء عبر التمركز العسكري المباشر أو السيطرة على المجالين الجوي والبحري، بما يفرغ أي حديث عن “التهدئة” من مضمونه الحقيقي.
استراتيجية “التهدئة المشروطة”.. إعادة إنتاج الحصار
من الناحية السياسية، يبدو أن “إسرائيل” تسعى لإعادة صياغة مفهوم الحصار عبر أدوات جديدة، فبدلًا من الحصار العسكري الصريح، يُطرح الآن “فتح مشروط للمعابر” لفترة مؤقتة، بما يُبقي مصير غزة بيد الاحتلال، وهذه الاستراتيجية تُعيد إلى الأذهان سيناريوهات التهدئة السابقة التي فشلت لأنها لم ترتكز على ضمانات دولية ملزمة، ولم تُحقق أي تغيير جوهري في حياة الفلسطينيين، بل إن هذا النوع من التهدئة المشروطة يُستخدم عادة لكسب الوقت، وإعادة التموضع، وتفكيك المقاومة من الداخل عبر خلق حالة إنهاك وإرباك سياسي وأمني.
إعادة التمركز لا تعني الانسحاب
البند المتعلق بـ”التمركز العسكري قبل الثاني من مارس” لا يمثل سوى عودة إلى مرحلة تصعيدية سابقة، فهذا التاريخ يُمثل ذروة العمليات البرية التي شنّها جيش الاحتلال داخل القطاع، وبالتالي فإن العودة إلى تلك الوضعية تُعدّ بمثابة تثبيت لواقع الاحتلال وليس العكس، كما أن المقترح لا يشير إلى أي نية للانسحاب الكامل من غزة، وهو مطلب جوهري لدى المقاومة، ما يُفقد المقترح أي جدية في تحقيق تهدئة حقيقية.
الرهان على الزمن.. تكتيك إسرائيلي مألوف
ما تقوم به “إسرائيل” ليس جديدًا؛ فالرهان على عامل الزمن، عبر مقترحات مؤقتة، هو جزء من تكتيكها المعروف لإدارة الصراع وليس حله، وقد استخدمت هذه الاستراتيجية في جولات سابقة من المواجهة، حيث تسعى لتجميد الوضع الميداني لفترة محددة، تسمح لها بإعادة ترتيب أوراقها العسكرية والسياسية، دون أن تُقدّم أي التزامات حقيقية للفلسطينيين، وفي هذا السياق، فإن ما يُطرح اليوم لا يختلف في جوهره عن مبادرات سابقة فشلت لأنها لم تكن سوى محاولات لفرض الاستسلام بغطاء دبلوماسي.
حماس بين الضغط والتريث
المعطى الجديد في المشهد هو موقف حماس، التي لم تُعلن رفضها الرسمي للمقترح لكنها لم تُقدّم ردًا نهائيًا أيضًا، ما يدل على أن الحركة تدير الموقف بتأنٍ شديد، في ظل توازن معقد بين الضغوط العسكرية والسياسية والإنسانية، فالحركة تدرك أن أي خطوة نحو قبول مقترح هشّ قد يُفقدها دعمًا شعبيًا واسعًا، وخاصة في ظل تصاعد الغضب الفلسطيني والعربي نتيجة استمرار العدوان الإسرائيلي، وفي الوقت ذاته، فإن التريث يسمح لحماس بقراءة المشهد الإقليمي والدولي، وخاصةً في ظل تنامي الأصوات المطالبة بوقف فوري للحرب، وارتفاع منسوب الإدانة للجرائم الإسرائيلية.
غياب الضمانات الدولية.. مأزق أي اتفاق محتمل
ما يفاقم هشاشة المقترح الإسرائيلي هو غياب أي آلية دولية تضمن تنفيذ بنوده. فحتى في حال قبول حماس بوقف مؤقت لإطلاق النار، فإن التجربة السابقة تُظهر أن الاحتلال لا يلتزم بأي تفاهمات ما لم تُقيدها قوة دولية قادرة على المحاسبة، وفي ظل تواطؤ بعض القوى الكبرى مع الرؤية الإسرائيلية، وتراجع فعالية المؤسسات الدولية، تبدو أي ضمانات مجرد وعود شفوية لا تلبث أن تنهار تحت ضغط التغيرات الميدانية.
الخشية من فخ النزع التدريجي للسلاح
أخطر ما في الطرح الإسرائيلي هو ما بين السطور.. فتح الطريق أمام مرحلة جديدة من الضغط السياسي والعسكري لنزع سلاح المقاومة، دون خوض معركة مباشرة، فالمقترح يُمهّد لحالة من التفكيك التدريجي لقدرات حماس، عبر إدخالها في مسارات تفاوض طويلة، تُستنزف خلالها سياسيًا وعسكريًا، ويُعاد فيها تشكيل البيئة الأمنية في غزة وفقًا للرؤية الإسرائيلية، وهذا ما يُفسر إصرار المقاومة على التمسك بشروطها الأساسية، ورفضها لأي صيغة تُعيد إنتاج الاحتلال أو تُفرّغ انتصاراتها الميدانية من مضمونها.
في النهاية، في ضوء ما تقدّمه “إسرائيل” من مقترحات ظاهرها التهدئة وباطنها الهيمنة، تبرز معادلة جديدة تُختبر فيها صلابة الموقف الفلسطيني وقدرته على الصمود السياسي بعد الصمود الميداني، فالعرض الإسرائيلي الأخير ليس سوى حلقة في سلسلة طويلة من المحاولات التي يسعى من خلالها الاحتلال لتفكيك بنية المقاومة، ليس عبر الحرب المفتوحة فقط، بل من خلال ما يُروّج له كمساعٍ دبلوماسية وإنسانية.
تركيز الاحتلال على استعادة الأسرى، وإصراره على فتح المعابر بشروطه، وتحديده لفترة تهدئة مؤقتة، ثم الإبقاء على وجوده العسكري بطريقة أو بأخرى، كلها مؤشرات على أن المقترح يفتقر لأي نية حقيقية لإنهاء العدوان، بل يُراد له أن يكون وسيلة ضغط مركبة: استنزاف سياسي لحماس، وإنهاك مجتمعي لسكان غزة، وتلميع لصورة “إسرائيل” دوليًا على أنها تسعى لـ”السلام”، لكن ما يغفله الاحتلال أن المقاومة الفلسطينية، وبعد سنوات من المواجهة والخبرة، لم تعد أسيرة الأوهام الدبلوماسية، فقراءة الحركة للمقترح تعكس نضجًا في فهم أبعاد الصراع، وتؤكد أن الميدان ليس وحده من يحسم المعركة، بل الوعي بطبيعة الخصم وأدواته السياسية.