«هذا ما يقوله الإنجليز .. فلماذا لا تكتبون أنتم ؟!»
تاريخ النشر: 20th, January 2025 GMT
إذا كانت الأيام دولًا، فإنّ ما أقامه السيد سعيد بن سلطان من دولة مترامية الأطراف، انهار بوفاته عام 1856، إذ دخلت عُمان وشرق إفريقيا وزنجبار عهدًا جديدًا بانفصال الحكم العُماني فـي زنجبار عنه فـي عُمان، وقد استمرّ حكم العُمانيين لهذه الجزيرة الإفريقية حتى الثاني عشر من يناير 1964، تاركًا بصمات لا تخطئها العين وإن أصابها الرمد، إذ أضحت زنجبار تساير ركب الحضارة والمدنية قَدَمًا بقدم وساقًا بساق، كلّ ذلك مصحوب بإرثٍ إنساني وآثارٍ حضارية لا تُقدّر بثمن.
وفـي اعتقادي أنّ هذا التعايش الذي يميِّز زنجبار وأهلها اليوم ليس سوى ثمرة التسامح الذي أرساه الحكام العُمانيون؛ فلم يفرّقوا بين مذهب وآخر ولم يميّزوا هذا الدين عن ذاك. ويستطيع المرء أن يقف على هذا التسامح عندما يحين موعدُ الصلاة، إذ تسمع من يكتفـي بالأذان العادي دون زيادات، وتسمع الآخر يضيف: «الصلاة خير من النوم»، وثالث يردد: «أشهد أنّ عليًّا وليُّ الله»، وكلهم متناغمون ومنسجمون فـي وحدة تسر الناظرين لا يفرّق بينهم شيء.••هذا الفرح بتعايش المسلمين وتسامحهم فـي زنجبار مبعثه علمنا المسبق أنّ ثمة من حاول زعزعة هذا التعايش وذلك التسامح، لكنه فشل ولله الحمد، وهو ما نبّه إليه ذات مرة الشيخ عبدالرحمن بن حمود السميط، الداعية الكويتي الراحل فـي محاضرته فـي جامع الجيطالي بالموالح الشمالية فـي مسقط، عندما قال: «إنّ أسوأ شيء فعلناه، أننا نقلنا إلى إفريقيا أمراض الجزيرة العربية»، وهو بذلك حذّر من تلك الأصوات التي تفرّق ولا تجمع وتشعل الحروب ولا تسعى أبدًا لإطفائها.
وإذا كنتُ قد تحدّثتُ عن والدي وسفره إلى الشرق الإفريقي واستقراره هناك من أجل لقمة العيش، فإنّ ما يؤسف له أنّ كلّ تلك الهجرات الخاصة والعامة لم تُدوَّن؛ فلم يكن من اهتمام العرب تدوين تجاربهم وأعمالهم ونشاطاتهم واكتشافاتهم، باستثناء الكتب القليلة التي تناولت الموضوع مثل كتاب «جهينة الأخبار فـي تاريخ زنجبار» للشيخ سعيد بن علي المغيري، وكتاب «مذكرات أميرة عربية» للسيدة سالمة بنت سعيد، الذي نعرف أنَّ باعثه هو كتابة سيرتها الشخصية أكثر من كونها تأريخًا للجزيرة. صحيح أنّ الألفـية الجديدة شهدت صحوة متأخرة لكتابة تاريخ العُمانيين فـي شرق إفريقيا، لكن ما لم يُكتَب بعدُ أكثر بكثير مما كُتِب. وهنا لا بد من النظر إلى النصف الممتلئ من الكأس والإشادة بكتابَين مهمَّيْن افتتحا عام 2009 سلسلة التأريخ للوجود العُماني فـي زنجبار وشرق إفريقيا، هما «زنجبار: شخصيات وأحداث» للباحث ناصر بن عبدالله الريامي، و«الصحافة العُمانية المهاجرة وشخصياتها: الشيخ هاشل بن راشد المسكري نموذجًا» للأكاديمي والباحث محسن بن حمود الكندي، تبعهما عدد من الكتب الأخرى التي توزعت بين التأريخ السياسي والاقتصادي والمذكرات الشخصية، مثل «زنجبار - التكالب الاستعماري وتجارة الرق» لعيسى بن ناصر بن عيسى الإسماعيلي، و«زنجبار فـي عهد السيد سعيد بن سلطان» للباحث سليمان بن عمير المحذوري، و«الصراع والوئام فـي زنجبار»؛ لعلي بن محسن البرواني أحد رجال الحكم العُماني فـي زنجبار قبل الانقلاب، و«الهجرات العُمانية إلى شرق إفريقيا» لسعيد بن سالم النعماني؛ فهؤلاء - وبالتأكيد هناك غيرهم - وثقوا جزءًا كبيرًا من هذا التاريخ والنشاط الإنساني ممّا جعل هذه الكتب مصادر تاريخية تُنصِف العُمانيين بدلًا من الاعتماد على كتب الغربيين الذين لم يروا فـي العُمانيين إلا تجار عبيد، وحوّلوا ما هو مضيء إلى قاتم وقبيح القسمات والملامح، وهذا ما فاجأنا به المرشد السياحي عندما زرنا «بيت المرهوبي»، حين قال: إنّ المرهوبي هو أول عُماني يصل إلى هذه المنطقة ليتاجر بالعبيد! فعاجَلَه سيف المحروقي بالقول: إنّ الرجل كان تاجرًا وحسب ولم يكن تاجر عبيد، فكان رد المرشد: «هذا ما يقوله الإنجليز، فلماذا لا تكتبون أنتم الحقيقة التي تعرفونها؟!».
مؤكدٌ أنّ هذا المرشد لم يقرأ كتاب عيسى بن ناصر بن عيسى الإسماعيلي «زنجبار - التكالب الاستعماري وتجارة الرق»، وإلا لما دعانا أن نكتب، وحالُ هذا الدليل هو حال الببغاوات التي تحدّث عنها الكاتب الروسي فـيودور دستويفسكي ذات يوم؛ تلك الببغاوات التي تردِّد فقط ما تُلقّنه. يقول دوستويفسكي: «لك أن تقول آراء جنونية؛ ولكن لتكن هذه الآراء آراءك أنت. لئن يُخطئ المرء بطريقته الشخصية، فذلك يكاد يكون خيرًا من ترديد حقيقة لقّنه إياها غيره. أنت فـي الحالة الأولى إنسان، أما فـي الحالة الثانية فأنت ببغاء لا أكثر». غير أنّ المبهج فـي الأمر أنني لاحظتُ من خلال مشاهداتي اليومية خلال هذه الرحلة القصيرة أنَّ نغمة العداء الشديدة للعُمانيين خفّت حدّتُها، غير أنّ ما يؤسف له أنّ المناهج التعليمية هناك لا تزال تهاجم العُمانيين، رغم تحسن العلاقات بين البلدين ورغم المساعدات التي تقدِّمها عُمان إلى زنجبار بسخاء.
بعد أن هبطت الطائرة رأيتُ الميناء الذي وصل إليه أبي قبلي بعقود، ثم وددتُ أن أطرح بعض الأسئلة: متى كان وصوله لهذا الميناء؟ من الذي استقبله؟ وكيف دبّر أمره وهو الفقير المعدم؟ وما هي الأماكن التي ارتادها؟ ومن الذي سبقه فـي القدوم إلى هذا المكان؟ وماذا قال؟ وماذا قيل له؟ لقد دار الزمن دورة عظيمة، ذهب فـيها من ذهب وجاء من جاء؛ أناس رحلوا وآخرون ولدوا، لا الجدد يتذكرون وجوه الذين مضوا ولا الذين مضوا يعرفون ما حدث بعد رحيلهم، هكذا تدور عجلة الحياة بغير توقف. وما أعرفه يقينًا أنّ الجو العام فـي زنجبار أعجب والدي كثيرًا، حيث الصحف والصخب السياسي والندوات والنقاشات والشخصيات والعلماء. فـي هذا الجو الصاخب وجد أبي نفسه، فانغمس فـي رحيق الاستزادة من الثقافة متعددة المشارب مختلفة الألوان متباينة السحنات. كان ممن التقاهم وسعد بهم الشيخ هاشل بن راشد المسكري، صاحب جريدة «الفلق» وهو الذي كان - إضافة إلى أنه رجلُ فكر وسياسة - كريمًا مع كلِّ العُمانيين الذين هاجروا إلى زنجبار، وذكر لي غير مرة أنه كان معجبًا بثقافة المسكري وجرأته، وقد استقبله أول وصوله إلى زنجبار وأكرمه إذ دعاه إلى الغداء فـي بيته المعروف ببيت «المدفع». وبما أنّ أبي كان فقيرًا لا يملك شيئًا فقد أهدى الشيخ هاشل قلمًا قائلًا له: «لا أملك شيئًا أعطيك إياه إلا هذا القلم الرخيص، عسى أن تكتب به مقالاتك فـي «الفلق». أنت مقامُك أعلى لكن هذه إمكانيتي»، وحكى لي أنه كان يرسل بعض الأسئلة للجريدة وتُنشر مع الإجابة عليها.
وبما إنني أقف الآن على الأرض ذاتها التي مشى فـيها أبي سأقول: إنّ لقمة العيش كانت قاسية وعزيزة فعلًا، ولولا أنّه اتخذ هذه الخطوة الواسعة ربما ما كنتُ أتحدّث الآن من زنجبار. وقد كان مثله مثل كلّ العُمانيين الذين كتبت عليهم خطى فمشوها مهاجرين إلى تلك الديار. كان الشرق الإفريقي هو الساحة الخلفـية لعُمان عبر التاريخ، وما زلتُ أعتقدُ أنها كذلك الآن ومستقبلًا. إذن فكلّ ما هنالك أنه ترك زنجبار إلى البر الإفريقي، ترك ابنَيْ عمه اللذين سبقاه وهما سلطان وسيف بن ماجد المحروقي، ليلتحق بأقربائه الآخرين، حيث ذهب فـي البداية إلى «سِنْجيدا» التي سبقه إليها ابن خالته أحمد بن شامس المحروقي، ثم توجه إلى «بوكوبا» ليلتحق بمجموعة من قبيلته، وكان على رأسهم جدّي لأمي سعيد بن حارب المحروقي، وكذلك ابن عم الوالد محمد بن حمد المحروقي؛ رغم أنّ الجو العام فـي زنجبار قد أخذه من نفسه كلّ مأخذ.
زاهر المحروقي كاتب عُماني مهتم بالشأن العربي ومؤلف كتاب «الطريق إلى القدس»
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الع مانیین فـی زنجبار الع مانی سعید بن ع مانی
إقرأ أيضاً:
ما هو سلاح المقاومة الذي يريد الاحتلال الإسرائيلي نزعه من غزة؟
يتبين للمتابع منذ عودة حرب الإبادة الصهيونية على قطاع غزة في 18 آذار/ مارس الماضي أنها حرب فوق كل الأهداف المعلنة المزعومة لها، وعودتها خارج كل المبررات المساقة من الإسرائيليين، وجاءت بعد اختبارهم الناجح للعالم وللإدارة الأمريكية الجديدة عبر انتهاك الاتفاق عشرات وربما مئات المرات أمام ترامب، فكانت نتيجة طبيعية للشعور المفرط بقوة الدعم الأمريكي لكل ذلك. وفي الواقع كانت بقرار وأمر أمريكي يدعو بنيامين نتنياهو لذلك أو يحركه بهذا المسار لينوب عن واشنطن في إبادة أهل غزة؛ لدوافع سياسية اقتصادية كشف عنها ترامب نفسه من خلال صفقته المضخمة حول غزة مع بدء تنفيذ المرحلة الأولى من الاتفاق الذي دمرته إسرائيل، وهو ما شكل حجر الأساس الأمريكي لتدمير الاتفاق وبما يتماشى مع رغبات نتنياهو الشخصية والسياسية بمواصلة حرب ضد شعب فلسطيني أعزل، بهدف دفعه نحو التهجير القسري وتفريغ غزة وسرقتها.
وتشير المعطيات منذ استئناف الإبادة إلى أن معركة وجودية لم يعد يخوضها الاحتلال ضد المقاومة المقاتلة ككيان عسكري في قطاع غزة، بل إنها معركة وجودية بالنسبة إليه ضد كل الوجود الفلسطيني في قطاع غزة، وانتقل الحديث المعلن المكشوف لدى كثير من قادته ووسائل إعلامه باعتبار المدنيين أضرارا
جانبية إلى جعلهم هدفا معلنا، وهو أوقح أنماط الإصرار على الإبادة، فما يحدث في غزة الآن حرفيا هو إبادة فقط وإبادة للسكان الأصليين بدون الحد الأدنى من المقاومة المعتادة المعهودة، أو على الأقل الظاهرة بتكتيك المعارك الثابتة والتصدي المباشر.
إنها حرب يشنها جيش منظم على عظام المدنيين وخيام النازحين دون مقدمات أو مبررات، فحتى مبرر هجوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 قد بطل كليا من النواحي السياسية والعسكرية والشعبية التي تحركها دوافع الانتقام نفسها والرغبة بالتدمير العسكري للمقاومة الفلسطينية نفسها وتحرير الأسرى، هذا إن افترضنا بشكل حيادي للحظات أنها معركة لفعل ذلك، فكل ذلك لم يعد مبررا بالمرة ولم يعد أحد يمكنه تصديق كل ذلك، حتى من كثير من الجنود وضباط الجيش والمخابرات في دولة الاحتلال وكثير من حلفاء إسرائيل والمؤيدين لإبادة غزة، فانتقلت إسرائيل بكل وقاحة لمرحلة الإفصاح عن الهدف المباشر، وهو القتل الجماعي بهدف القتل الجماعي الذي يؤدي لتهجير السكان أو دفعهم للهجرة بعد قتل نسبة كبيرة منهم. حتى الجولة الأولى من الإبادة قبل الاستئناف الأخير في 18 آذار/ مارس الماضي لم يكن شكلها بهذا الشكل.
وهذا الكلام ليس للوم المقاومين، فهم بذلوا كل ما يملكون وما يمكنهم سواء أكانوا يحاولون الحفاظ على بعض مقدراتهم المحلية أو ضرب العدو بذكاء وبشكل نوعي محقق ليظهر بمظهر الإرهابي أكثر وأن يسوؤوا وجهه أكثر سياسيا وحقوقيا وعسكريا من خلال عدم الرد أو التعامل معه عسكريا بنفس الطريقة السابقة قبل استئناف الإبادة، أو ربما بسبب أنه لم يعد لديهم مقدرات كافية لفعل ذات الأمر. وأتحدث هنا بتجرد تام وحيادية مؤقتة.
وفي سياق المقترح المقدم لاتفاق جديد مؤخرا فهناك نقطتان خطيرتان في المقترح الجديد الذي مررته مصر لحركة حماس من الاحتلال والذي قالت حركة حماس إنها تدرسه، وهما: تضمنه شرطا ابتزازيا بالتفاوض على نزع سلاح المقاومة بغزة كشرط أساسي لأي اتفاق لوقف إطلاق النار وفقا لما تم نشره وتداوله، وهو أمر رفضته حماس كليا وقطعيا، وثانيا فكرة الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين ضمن دفعتين فقط مقابل أسرى فلسطينيين، والتزامات تترتب على الاحتلال وضمن فترات زمنية. وهذا يسهل على إسرائيل التنصل لاحقا والعودة للإبادة التي ترغب بها، فهي فعلت شيئا مشابها وتنصلت من التزاماتها في الاتفاق الأخير ومنعت الانتقال للمرحلة الثانية رغم أن الإفراج كان يتم على دفعات صغيرة، فإن تم تعجيل الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين ضمن دفعتين فهذا يعني تعجيل تمكن الاحتلال من التنصل منه في حال لم تكن هناك ضمانات أقوى ضد إسرائيل؛ من خلال ابتزازها بأوراق من المقاومة داخليا أو بقوة ردع من المجتمع الدولي.
وبالعودة لمسألة حرب الإبادة وقدرات المقاومة، فربما يرجح أن المقاومة تركت الجيش الإسرائيلي يقاتل دون إشعارها له بوجود عمليات مقاومة ثابتة متكررة الضربات ومتوقعة التكتيكات، وهو ما يربك الاحتلال ويعزز عنصر المفاجأة لدى المقاومة والخوف لدى الجنود الإسرائيليين المتوغلين، كما يعزز من استراتيجية اقتصاد القدرات لديها، ومن ناحية أخرى يثبت أو يتقارب مع نظريات عسكرية تحدث عنها جنرالات أمريكيون متقاعدون من أن المقاومة (بشكل عام وليست الفلسطينية فقط، بل من حيث المبدأ لدى المقاومات) تعمل أحيانا بتكتيكات تحاول إبراز الجانب الإجرامي والدموي الوحشي غير المبرر للاحتلال ضد السكان، من خلال كشف معركته الحقيقية التي هي ضد كل السكان الأصليين وليس ضد حَمَلة السلاح والمقاتلين، وهذا بحد ذاته يضعفه ويضعف روايته ويربكه أمام مجتمعه وأمام العالم وأمام المقاومين أنفسهم.
والمحتل في كل الأحوال يرتكب الجرائم وسيتم الرد عليه مهما اختلف التكتيك في القتال، لكن هذه الأساليب ترفع من أسهم المقاومة والرأي العام الداعم لها وللشعب الفلسطيني، وتحسن الحالة النفسية للمقاومين وتحسن الاستثمار الوطني والنتائج الممكنة بالتضحيات الكبيرة وفقا لوجهات نظر، كما تُشعر الجندي الإسرائيلي بأنه يقاتل بشكل عبثي ودون وجهة أو هدف واضحين، كما ينزع هذا الأسلوب وفقا لمقالة للمحلل في قناة الجزيرة سعيد زياد؛ الشرعية عن حرب الاحتلال داخليا أمام جمهور الإسرائيليين ويظهرها بمظهر الحرب العبثية التي تشن لأهداف شخصية لدى نتنياهو واليمين الإسرائيلي.
وعلى الرغم من كل ذلك تبقى حقيقة أن المقاومة هي بإمكانيات محدودة عسكريا من الناحية العملية، وموضوعيا إن أردنا مناقشة الأمر المتعلق بالشرط الإسرائيلي بنزع سلاح المقاومة بواقعية عسكرية وسياسية، فهدف إضعاف المقاومة عسكريا قد تحقق إسرائيليا وإن نسبيا، فيستحيل أن تكون المقاومة لم تفقد كثيرا من قوتها مقارنة بما قبل هذه الحرب الوحشية، وهذا لا يعني أنها غير قادرة على الردع والصمود والثبات.
وفكرة نزع سلاح المقاومة هي فكرة غير قابلة للتنفيذ بتاتا؛ ليس لأنه أمر غير قابل للمساومة والنقاش أو لأنه من ثوابت الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة للدفاع عن بقائه على قيد الحياة ومواجهة الاحتلال دون شطب كامل له ولهويته، فالفلسطينيون صنعوا سلاحهم محليا ويمكنهم صناعة مثله من أبسط الإمكانيات دائما، ولكن لأنه لا يوجد سلاح للنزع أصلا، بل هي محاولات فلسطينية لإيجاد سلاح وردع والحفاظ على البقاء، وليس سلاحا بالمعنى الحقيقي للسلاح الذي يمكن نزعه.
وفكرة استمرار القصف الإسرائيلي على غزة والتدمير والقتل حتى اللحظة دون مواجهة عسكرية شاملة في كل زقاق وشارع وحي كالسابق؛ من منظور عسكري غير مبررة عند الإسرائيليين، فالمقاومة حاليا شبه منزوعة السلاح وإن نظريا وصوريا أو إن كانت تفعل ذلك كخدعة، لكن هذا ما يظهر واستنفدت كثيرا من إمكانياتها في مراحل مضت من محاولة التصدي لجرائم الإبادة، بل إن أسلحتها من الأساس دفاعية خفيفة يمكنها إن استخدمت بذكاء واقتصاد ومرونة كما أن تحدث إصابات مؤكدة لكنها ليست حاسمة، ولا يمكن غالبا من تكرار طوفان الأقصى كل عدة سنوات مثلا، فعن أي نزع سلاح يتحدث الإسرائيليون إذا؟!
أنا لا أتحدث هنا عن رؤية كل منا للطريقة الأفضل التي يمكن أن تدار بها معركة أو نهج قتالي من مقاومة شعبية ضد احتلال، فهذه معركة طويلة ولها رؤى عديدة كلها تحمل في طياتها الإيجابي والسلبي، وليس الحديث أيضا عن خلافات أيديولوجية أو خصومات سياسية أو توافق مع حركة المقاومة الأبرز حاليا، أو حول سؤال كيف نفكر باليوم التالي، فالأمر تجاوز ذلك منذ وقت طويل من عمر هذه المجزرة المتواصلة، وكل تلك القضايا نوقشت وقيل فيها كل شيء، بل إن اليوم التالي الفلسطيني نوقش مرارا وتكرارا بين الفلسطينيين بمن فيهم الفرقاء وتم التوصل لحالة يمكن تطبيقها كتشكيل حكومة وحدة وطنية أو لجان إسناد تدير القطاع مثلا. حتى مسألة إن كانت المقاومة قد فكرت مليا بنتائج الطوفان أم لا نوقشت، ولم تعد هذه المسألة هي الفكرة الرئيسية اليوم ولم يعد النقد الداخلي هو أساس الحل أو المشكلة، رغم أهميته، وذلك بصرف النظر عن كل الرؤى؛ من أكثرها تمسكا بالمقاومة المسلحة إلى الأبعد عنها أو حتى من يجاهر بالعداء معها. تجاوزت الأمور مسألة كيف يمكن للشعوب العربية والإسلامية وأحرار العالم دعم غزة وفلسطين في ظل حرب الإبادة المستمرة، كما تجاوز الأمر كل مراحل خذلان المدنيين والمقاتلين في قطاع غزة الذين خفت ذخيرتهم وجفف عنهم الطعام والدواء والماء وكل شيء، هذا عدا عن القتل الجماعي الذي لا يتوقف للحظة.
لكن بالفعل، ماذا يعني طلب نزع سلاح المقاومة في ضوء كل ذلك؟ وماذا تعني فكرة نزع سلاح كان بالأصل سلاحا دفاعيا مصنعا محليا خفيفا لم يعد موجودا منه الكثير، وحتى إن كان بالأصل موجودا فهو لا يعادل سلاح كتيبة شرطية في أصغر دولة في العالم؟ ماذا يعني نزعه كشرط لوقف المقتلة؟ وهل هذا يعني شيئا سوى تأكيد أن إسرائيل خائفة من أبسط أداة يمكن أن يقاتل بها الفلسطينيون للبقاء وتأكيد على استمرار المقتلة والإبادة أطول وقت ممكن؟
ما يعنيه ذلك باختصار هو أن السلاح الذي تتحدث إسرائيل عن ضرورة نزعه من غزة هو الشعب، نعم الشعب الفلسطيني، فإما نزع الشعب وتهجيره واقتلاعه أو الإبادة، أو ربما كلاهما معا، لأن السلاح العسكري الحقيقي بالأساس هو سلاح مقاومة قدراتها محدودة مصدرها الشعب نفسه، والتسليح كنظرية فعلية بسيط جدا وسطحي ومحدود في كل من تخشاهم إسرائيل عسكريا مقارنة بها، وهذا ما أثبتته الوقائع منذ نشوئها إلى اليوم وليس فقط خلال حرب الإبادة الأخيرة، ولا ترقى الأمور لفكرة النزع فهو سلاح متواضع خفيف بسيط محلي الصنع.
الشعب الفلسطيني في غزة ككتلة بشرية كبيرة هو السلاح المراد نزعه هذه المرة -على الأقل في غزة- لأنه سيقاوم دائما بمجرد بقائه في أرضه، وهو من يقاوم، وهو السلاح حتى لو امتلك حجرا أو قلما أو رصاصة. لو كان هناك سلاح عسكري حقيقي لدى الفلسطينيين لما استمر الشيء المدعو "إسرائيل" حتى اللحظة أصلا، باعتبار المعركة بين الإسرائيليين والفلسطينيين هي المعركة الوجودية الصفرية الأشد بين الكيان والسكان الأصليين، ورفض نزع سلاح الفلسطينيين يعني رفض انتزاعهم من أرضهم بكل بساطة.