قالت دار الإفتاء المصرية، إن القرآن الكريم تحدث عن مكة المكرمة، وبيَّن ما لها من فضل عظيم، فبها بيت الله الحرام؛ أول بيت وضعه في الأرض لخلقه، وجعله مباركًا وهدًى للعالمين، وقبلةً للمسلمين؛ كما قرَّر القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 96].

الإفتاء توضح حكم زيارة أضرحة آل البيت ومقامات الصالحين حكم العمرة لمَن لا تجد مَن يعتني بأطفالها.. الإفتاء توضح

أضافت الإفتاء، أن الإمام البيضاوي قال في "أنوار التنزيل وأسرار التأويل": [أي: وضع للعبادة وجعل مُتعبدًا لهم.. ﴿لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ لَلْبَيتُ الذي بِبَكَّةَ، وهي لغة في مكة.. وقيل: هي موضع المسجد، ومكة البلد من بَكَّهُ إذا زحمه، أو من بَكَّهُ إذا دقه فإنها تبك أعناق الجبابرة.. ﴿مُبَارَكًا﴾ كثير الخير والنفع لمن حجه واعتمره واعتكف دونه وطاف حوله.. ﴿وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾؛ لأنه قبلتهم ومتعبدهم، ولأن فيه آيات عجيبة.. ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾ كانحراف الطيور عن موازاة البيت على مدى الأعصار، وأن ضواري السباع تخالط الصيود في الحرم ولا تتعرض لها، وإن كل جبار قصده بسوء قهره الله؛ كأصحاب الفيل. والجملة مُفَسِّرة للهدى، أو حال أخرى.. ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾.. أي: ومنها: أمن من دخله].

الآداب التي يستحب للمسلم أن يراعيها عند دخول مكة المكرمةالكعبة

أوضحت الإفتاء، أنه لمَّا كانت لمكة المكرمة هذه الفضائل وغيرها من المكارم استحقت أن تُراعى عند دخولها مجموعةٌ من الآداب والفضائل، وأهمها ما يلي:

- ألا يدخل مكة إلا محرمًا بحج أو عمرة؛ استحبابًا.

- الغسل؛ لما رواه الترمذي في "سننه" عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: «اغْتَسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ لِدُخُولِهِ مَكَّةَ بِفَخٍّ»، وفي "الصحيحين" عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «إِذَا دَخَلَ أَدْنَى الحَرَمِ أَمْسَكَ عَنِ التَّلْبِيَةِ، ثُمَّ يَبِيتُ بِذِي طِوًى، ثُمَّ يُصَلِّي بِهِ الصُّبْحَ، وَيَغْتَسِلُ»، وَيُحَدِّثُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ.

فيُستحبُّ لكلِّ مَن يدخل مكة المكرمة أن يغتسل؛ فإن لم يستطع فيجزئه في ذلك الوضوء.

وقد نقل الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" حكاية الإجماع على ذلك عن الإمام ابن المنذر، بعد أن ذكر تبويب الإمام البخاري بقوله: [قوله: باب الاغتسال عند دخول مكة].

- أن يَبتدئ دخولها بالمسجد؛ لأجل الطواف بالبيت؛ فقد أخبرت أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها أنَّ: "أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حِينَ قَدِمَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ، ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً" متفق عليه.

قال الإمام الطيبي في "مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح": [وفي الحديث: الابتداءُ بالطواف في أول دخول مكة سواء كان محرمًا بحج، أو بعمرة، أو غير محرم].

- إذا رأى البيت المعظم كبرَّ وهَلَّلَ ودعا؛ فإنَّ الدعاءَ مستجابٌ عند رؤيته، وذلك بأن يقول: "اللهم هذا حرمك، وأمنك؛ فحرِّم لحمي ودمي وشعري وبشري على النار، وأَمِّني من عذابك يوم تبعث عبادك، واجعلني من أوليائك وأهل طاعتك".

أو يقول: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السلام ودارك دار السَّلَامِ تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، اللَّهُمَّ إن هَذَا بَيْتُكَ عَظَّمْتَهُ وَكَرَّمْتَهُ وَشَرَّفْتَهُ؛ اللَّهُمَّ فَزِدْهُ تَعْظِيمًا وَزِدْهُ تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا وَزِدْهُ مَهَابَةً، وَزِدْ مَنْ حَجَّهُ بِرًّا وَكَرَامَةً، اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، وَأَدْخِلْنِي جَنَّتَكَ، وَأَعِذْنِي مِنَ الشَّيْطَانِ الرجيم".

- وإذا دخل المسجد الحرام فليقل: "بسم الله وبالله، ومن الله وإلى الله، وفي سبيل الله وعلى ملة رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ"؛ فَإِذَا قرب من البيت قال: "الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى، اللهم صل على محمد عبدك ورسولك، وعلى إبراهيم خليلك وعلى جميع أنبيائك ورسلك"، وليرفع يديه وليقل: "اللهم إني أسألك في مقامي هذا في أول مناسكي أن تتقبل توبتي وأن تتجاوز عن خطيئتي وتضع عني وزري، الحمد لله الذي بلغني بيته الحرام الذي جعله مثابة للناس وأمنًا وجعله مباركًا وهدًى للعالمين، اللهم إني عبدك، والبلد بلدك، والحرم حرمك، والبيت بيتك، جئتك أطلب رحمتك، وأسألك مسألة المضطر الخائف من عقوبتك، الراجي لرحمتك الطالب مرضاتك".

قال الإمام بدر الدين العيني الحنفي في "البناية شرح الهداية": [آداب دخول مكة: م: (قال: فإذا دخل مكة ابتدأ بالمسجد) ش: أي: إذا دخل المُحْرِم مكة ابتدأ بالمسجد الحرام؛ يعني: لا يشتغل بعمل آخر قبل أن يدخل المسجد الحرام؛ لأن المقصود زيارة البيت؛ أي: الكعبة في المسجد.. م: (وإذا عاين البيت كبَّر، وهلَّل)؛ ش: أي: قال: الله أكبر؛ أي: أجلُّ من هذه الكعبة المعظمة، وهلَّل، أي قال: لا إله إلا الله.. وقد قيل: إن الدعاء مستجاب عند رؤية البيت؛ فلا يغفل].

- أن يقصد الحجر الأسود بعد ذلك، ويمسه بيده اليمنى، ويُقَبِّلُه -دون مزاحمة- ويقول: "اللهم أمانتي أديتها، وميثاقي وفيته، اشهد لي بالموافاة"؛ فإن لم يستطع التقبيل وقف في مقابلته، ويقول ذلك، ثُمَّ لَا يُعَرِّجُ عَلَى شَيْءٍ دُونَ الطَّوَافِ إِلَّا أَنْ يَجِدَ النَّاسَ فِي الْمَكْتُوبَةِ؛ فَيُصَلِّيَ مَعَهُمْ ثُمَّ يَطُوفَ.

- أن يتحفظ في دخوله من إيذاء الناس في الزَّحْمَة، ويتلطف بمن يزاحمه، ويلحظ بقلبه جلالة البقعة التي هو فيها، والتي هو متوجه إليها، ويُمَهِّدَ عذر من زاحمه، وما نُزِعت الرحمة إلا من قلب شقي.

 

- أن يكون أول شيء يفعله هو الطواف بالبيت؛ أي: قبل شراء أغراض، أو استئجار بيت، أو غيره، إلا أن يكون ذلك ممَّا لا بد منه، أو تترتب عليه مشقة، أو ضرر.

وأردفت الإفتاء: أما بالنسبة إلى ما ورد في السُّنَّة النبوية ونصوص الفقهاء من سنن وآداب تتعلق بتحديد أماكن معينة للدخول إلى مكة المكرمة؛ كالدخول من الثَّنِيَّةِ العُلْيَا، والخروج من الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى، ودخول المسجد الحرام من باب بني شيبة، وكذا بتحديد أوقات معينة كالدخول نهارًا ونحو ذلك؛ فلا حرج على المكلف في عدم فعلها؛ لأن هذه الأماكن الآن دخلت في توسعات الحرم، ولم تَعُد معلومة بأعيانها غالبًا، مع تشعب الطرق الموصلة وتعددها الآن؛ فضلًا عن تعارض الإتيان ببعضها في أغلب الأحوال مع الإجراءات المتبعة في نظام التفويج، والموضوعة من قِبل الجهات المنظمة لسير حركة الحجيج والمعتمرين والزائرين دخولًا وخروجًا؛ بل الالتزام بهذه الإجراءات هو عين السُّنَّة، وذات الأدب المطلوب شرعًا؛ لما تقرر في قواعد الشرع الشريف من الأمر بطاعة ولي الأمر الذي أقامه الله تعالى في خدمة الحرمين والأماكن المقدسة ورعاية شؤون الحجيج وتنظيم أمر الحج والمناسك؛ لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 59]، ولقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ إِلَّا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ» أخرجه الستة من حديث ابن عمر رضي الله عنهما؛ فهذا يدل على أن السنة مراعاة أوامر السلطات التنظيمية في الأحكام الخاصة بالحرم وبالمناسك ونحوها.

وقد نقل الإمام القرطبي في تفسيره "الجامع لأحكام القرآن" عن الإمام سهل بن عبد الله التُّستري أنه قال: [أطيعوا السلطان في سبعة: ضرب الدراهم والدنانير، والمكاييل والأوزان، والأحكام، والحج، والجمعة، والعيدين، والجهاد].

والملاحظ في الآداب المذكورة أن المراد هو أن يتخلق الإنسان بكل أدب يليق بهذه البقاع الشريفة؛ أي: أن مُحَصَّلَ هذا الأمر أن الإنسان يستحب له مراعاة الآداب التي يكون بها مُعظِّمًا مكة المكرمة؛ عملًا بقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32].

الخلاصة

واختتمت الإفتاء قائلة: "وبناءً على ذلك: فإن أهم الآداب التي يستحب للإنسان أن يراعيها عند دخول مكة المكرمة: أن يدخلها مغتسلًا، وأن يدخلها محرمًا بحج أو عمرة، وأن يبتدئ بالمسجد؛ ليستلم الحجر، ويطوف بالبيت، وأن يُكبِّرَ ويُهلِّلَ عند رؤية البيت المعظم ويدعو بالدعاء المأثور أو ما يجري على قلبه، وأن يتلطف بالناس ولا يزاحمهم؛ فلا يُسبب لهم أدنى أذى، وفي الجملة يستحب أن يراعي كلَّ ما مِن شأنه تعظيم هذه البلاد المقدسة المعظمة".

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: مكة دار الافتاء الإفتاء القرآن المسجد الحرام الآداب التی مکة المکرمة الله ع ى الله

إقرأ أيضاً:

حكم قول الله أكبر عند الرفع من الركوع

اجابت دار الإفتاء المصرية، عن سؤال ورد اليها عبر موقعها الرسمي مضمونة:"ما حكم قول الله أكبر عند الرفع من الركوع؟ فبينما كنتُ أصلي أمس وعند الرَّفع من الركوعِ نسيتُ فقلت: "الله أكبر"، بدلًا من قول: "سمع الله لمن حمده"، فما حكم صلاتي؟ مع العلم أني تداركت الأمر وقلت هذا الذكر المطلوب بعدها". 

لترد دار الإفتاء موضحة: أن صلاة السَّائل الذي استبدل ناسيًا قول: "الله أكبر" بـ"سمع الله لمن حمده" صحيحة، ولا يلزمه إعادتها، كما لا يلزمه سجودُ السهو؛ لأن الذكر هنا سنة لا يتعلَّق بها سجود السَّهو، خاصًّة وأنَّه قد تدارك النقص وأتى بالمطلوب وهو قول: "سمع الله لمن حمده" في محلِّه.

حكم  تكبيرات الانتقال

من المقرَّرِ أن تكبيرات الانتقال في الصلاة مشروعةٌ؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بِهِمْ، فَيُكَبِّرُ كُلَّمَا خَفَضَ، وَرَفَعَ، فَإِذَا انْصَرَفَ، قَالَ: "إِنِّي لَأَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ" متفقٌ عليه.

ولا يُخَصُّ من عموم هذا الحديثِ إلا الرفعُ من الركوع، فإنَّ الذكر المطلوب فيه إنما هو قولُ: سمع الله لمن حمده، ويُسمِّيه الفقهاءُ بـ"التسميع".

قال الإمام النووي في "شرحه على صحيح مسلم" (4/ 98، ط. دار إحياء التراث العربي) تعليقًا على حديث الباب: [فيه إثباتُ التكبير في كلِّ خفض ورفع إلَّا في رفعه من الركوع، فإنه يقول: سمع الله لمن حمده، وهذا مجمعٌ عليه اليوم] اهـ.

مذاهب الفقهاءُ في حكم قول المصلي "سمع الله لمن حمده" عند الرفع من الركوع
قد اختلف الفقهاءُ في حكم قول المصلي: سمع الله لمن حمده، حال رفعِهِ من الركوعِ، فذهب الحنفية والمالكية إلى أنَّه سنةٌ في حق الإمام والمنفرد دون المأموم، فإنه لا يسن في حقه قول: "سمع الله لمن حمده"، وإنما المسنون في حقه هو قول: "ربنا لك الحمد".

قال العلامة الزيلعي الحنفي في "تبيين الحقائق" (1/ 115، ط. المطبعة الكبرى الأميرية): [(واكتفى الإمام بالتسميع والمؤتم والمنفرد بالتحميد) وقال أبو يوسف ومحمد: يجمع الإمام بين الذكرين لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام كان يجمع بينهما؛ ولأنه حرَّض غيره فلا ينسى نفسه، وقال الشافعي رحمه الله: يأتي الإمام والمأموم بالذكرين؛ لأن المؤتم يتابع الإمام فيما يفعل، ولنا ما روى أبو هريرة وأنس بن مالك أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد» رواه البخاري ومسلم، قسم بينهما والقسمة تنافي الشركة] اهـ.

وقال الشيخ الدَّردِير المالكي في "الشرح الصغير" (1/ 319، ط. دار المعارف) عطفًا على سنن الصلاة: [(و) سادسها: كل لفظ (سَمِعَ الله لمَنْ حَمِدَه لإمامٍ وفَذٍّ حال رفْعِهِ): من الركوع، لا مأموم فلا تُسَنُّ في حقه] اهـ.

وذهب الشافعية إلى أنَّه سنةٌ في حق المصلي إمامًا كان أو منفردًا أو مأمومًا، فيقول كلُّ مصلٍّ عند الرفع من الركوع سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد.

قال الإمام الرافعي في "فتح العزيز" (3/ 399، ط. دار الفكر): [ويقول عند رفعه: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد، ويستوي (ح) فيها الإمام والمأموم والمنفرد)] اهـ.

وذهب الحنابلة إلى القول بالوجوب في المشهور، وذلك في حق الإمام والمنفرد دون المأموم، فيقول الإمام والمنفرد" "سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد"، ويقول المأموم: "ربنا ولك الحمد".

قال الشيخ البُهُوتي في "شرح منتهى الإرادات" (1/ 218، ط. عالم الكتب) عطفًا على واجبات الصلاة: [(و) الثاني (تسميعٌ) أي: قول "سمع الله لمن حمده" (لإمامٍ ومنفردٍ) دون مأموم.. (و) الثالث (تحميد) أي: قول "ربنا ولك الحمد" لإمام ومأموم ومنفرد] اهـ. ويُنظر في شهرة هذه الرواية: "المغني" للإمام ابن قدامة (1/ 362، ط. مكتبة القاهرة).

حكم سجود السهو عند استبدالِ المصلي بقول: "سمع الله لمن حمده" قولَه: "الله أكبر" عند الرفع من الركوع
أمَّا ترتب سجود السهو عند استبدالِ المصلي بقول: "سمع الله لمن حمده" قولَه: "الله أكبر" حال الرفع من الركوع ساهيًا -وهو محلُّ السؤال- فلا يلزم به السجودُ عند جمهور الفقهاء، من الحنفية والمالكية والشافعية.

فالمقرَّر في فقه الحنفية: أن السبب المُوجِب لسجود السهو هو تركُ الواجب لا غير. يُنظر: "مراقي الفلاح" للشيخ حسن الشُّرُنْبُلالي (ص: 178، ط. المكتبة العصرية). فإذا كان التسميعُ عندهم سنة، فلا يجب بتركِهِ شيء.

جاء في "حاشية العلامة الشِّلْبي على تبيين الحقائق" (1/ 194، ط. الأميرية) نقلًا عن "قُنية الفتاوى" للإمام الزَّاهِدي بعبارة كاشفة عن المراد: [قال في "القُنية" نقلًا عن "أجناس الناطِفِي": ولا يَتَعَلَّق السهو بترك الافتتاح والتعوذ والتسمية وتكبيرات الصلاة وقوله: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد، وكل ذكر ليس بمقصود، وهو ما يُجعل علامة لغيره، فتركه لا يلزم السهو، وما هو مقصود وهو أن لا يجعل علامة لغيره، يلزمه السهو] اهـ. ويُنظر أيضًا: "الأجناس في فروع الفقه الحنفي" للعلامة أبي العباس النَّاطِفِي الحنفي (1/ 107، ط. دار المأثور).

ومذهبُ المالكية أنه لا يُسْجَد لنقص شيءٍ من الصلاة إلا إذا كان سنة مؤكدة أو خفيفة مُتَعَدِّدة. يُنظر: "الفواكه الدواني" للإمام النفراوي (1/ 221، ط. دار الفكر).

ولمَّا كان إبدالُ التكبير بالتسميعِ حال الرَّفعِ من الركوع يُعَدُّ نقصًا عن المطلوب وزيادةً عليه معًا: فقد وَقَعَ خلافٌ في المذهب على قولَيْن، الأقوى منهما: هو عدمُ السجود؛ لأنَّ المصلي لم ينقص سنة مؤكَّدة، والزيادة التي زادها قوليَّة، وهي لا تُوجِب سجودًا.

إلَّا أن محلَّ هذا الخلاف: حيث فات التداركُ وتَلَبَّس المصلي بالسجودِ، فإن لم يَفُتْ وأتى بالذكر المطلوب وهو التسميع في محلِّه، أي: حال رفعِهِ من الركوع، فلا يلزمُه السجود قطعًا.

قال الشيخ الدردير في "الشرح الكبير" (1/ 280، ط. دار الفكر): [(وَفِي) سجوده في (إبْدالِها) أي: التكبيرة (بسَمِعَ الله لمَنْ حَمِدَه) سهوًا حال هُوِيِّه للركوع (أو عَكْسِه) بأن كَبَّر حال رفعه منه؛ لأنه نَقَصَ وزادَ، وعدمِ سجوده؛ لأنه لم ينقص سنة مؤكدة ولم يزد ما توجب زيادته السجود (تأويلان) محلُّهما إذا أبدل في أحد المحَلَّين كما أفاده بـ"أو"، وأما إن أبدل فيهما معًا، فإنه يسجد قطعًا كما في "المدونة"، ومحلُّهما أيضًا إذا فات التدارك، بأن تَلَبَّسَ بالركن الذي يليه، فإن لم يَفُتْ أتى بالذكر المشروع] اهـ.

قال العلامة الدسوقي مُحَشِّيًا عليه: [الأقوى منهما عدمُ السجود كما قال شيخنا] اهـ. والمرادُ بقول المُحَشِّي: "شيخُنا" هو الشيخ العلامة عليٌّ العدوي.

والمذهبُ عند الشافعية أن ضابط سجود السهو إمَّا بترك مأمورٍ به من أبعاضِ الصلاة ولو احتمالًا بأن شَكَّ هل تركه أم لا، أو بفعل منهيٍّ عنه فيها إن أبطل عمده الصلاة ولم يبطلها سهوه كركعة زائدة أو ركوع أو سجود أو قليل أكل أو كلام، ولو احتمالًا بأن شَكَّ هل فعل ذلك المنهي أم لا، فيَعُمُّ ما هو من جنس أفعال الصلاة أو لا، وسواء أكانت الصلاة فرضًا أو نفلًا.

وإذا تبيَّن أن التسميع عندهم من سنن الهيئات، والمُراد به هنا: ما عدا الأبعاض من السُّنن التي لا تُجْبَر بالسجود، كما في "الإقناع" للخطيب الشربيني، (1/ 142)، فلا يُجْبَر تركها، فضلًا عن مجرد الخطأ فيها بالسجود، وسواء أفعل ذلك عمدًا أم سهوًا.

قال الإمام الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (1/ 429، ط. دار الكتب العلمية) عقب فراغه من الكلام على سنن الأبعاض التي تُجْبَر بالسجود: [(ولا تُجْبَرُ سائِرُ السُّنن) أي: باقيها كأذكار الركوع والسجود وقنوت النازلة إذا تُرِكت بالسجود؛ لعدم وروده فيها، لأنَّ سجود السهو زيادةٌ في الصلاة فلا يجوز إلا بتوقيف] اهـ.

وحاصلُ مذهب الحنابلة أنه لا يُسْجَد في العَمْدِ، بل في السَّهْوِ بوجُود أسبابِهِ، وهي الزيادة والنقص والشك سواء في فرض أو نفل. يُنظر: "زاد المُستَقْنِع" للشيخ أبي النجا الحَجَّاوِي (ص: 48، ط. دار الوطن للنشر).

فإذا كان التسميعُ حال الرفع من الركوع واجبًا عندهم -كما سبق- ويُبْطِل تعمُّدُ تركِه الصلاةَ، فإنَّ السجود لتركِه سهوًا يكون واجبًا.

قال الشيخ البُهُوتي في "شرح منتهى الإرادات" (1/ 233): [(وسجودُ السَّهْوِ: لِما) أي: لفِعْل شيءٍ، أو تركِهِ (يَبْطُل عمدُه) أي: تَعَمُّدُه الصلاةَ، واجبٌ كسلام عن نقص، وزيادة ركعة، أو ركوع، أو سجود ونحوه، وترك تسبيح ونحوه] اهـ.

المختار للفتوى في هذه المسألة
المختار للفتوى: ما ذهب إليه جمهور الفقهاء، وذلك تيسيرًا على المكلفين ورفعًا للحرج عنهم، قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78].

وقال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]. فلا يلزم السَّائلَ سجودُ السهو بتركِ التسميع؛ لأنه سنة لا يتعلَّق بها السَّهو عند الحنفية والشافعية.

الخلاصة
بناء على ذلك وفي واقعة السؤال: فإنَّ صلاة السَّائل الذي استبدل ناسيًا قول: "الله أكبر" بـ"سمع الله لمن حمده" صحيحة ولا يلزمه إعادتها، كما لا يلزمه سجودُ السهو، فالذكر هنا سنة لا يتعلَّق بها سجود السَّهو، خاصَّة وأنَّه قد تدارك النقص وأتى بالمطلوب وهو التسميع في محلِّه.

مقالات مشابهة

  • البيت الأبيض: المسيرات التي شوهدت بسماء نيوجيرسي كانت تطير بشكل قانوني
  • «البيت الأبيض»: المسيرات التي شوهدت في سماء نيوجيرسي كانت تطير بشكل قانوني
  • دعاء دخول الحمام كامل بالسنة.. الإفتاء توضح
  • حكم قول الله أكبر عند الرفع من الركوع
  • هل الالتفات يمينا ويسارا في الصلاة يبطلها؟.. الإفتاء تصحح اعتقادا خاطئا
  • البيت الأبيض يكشف ماهية الأجسام الغامضة التي ظهرت في سماء الولايات المتحدة
  • دار الإفتاء المصرية تطلق مركز الإمام الليث بن سعد لفتاوى التعايش
  • بهدف إحياء تراثه.. دار الإفتاء تطلق مركز الإمام الليث بن سعد لفتاوى التعايش
  • حكم التصحيح لـ الإمام من شخص خارج الصلاة
  • المؤتمر الدولي للإفتاء.. وكيل الأزهر: الإمام الأكبر يتمنى الخروج بتوصيات جادَّة تحمي المجتمع