اقتصاد المعرفة واستثمار الكفاءات الوطنية
تاريخ النشر: 20th, January 2025 GMT
رامي بن سالم بن ناصر البوسعيدي
في عالم يتَّجه بشكل متسارع نحو اقتصاد المعرفة، نجد أنفسنا في سلطنة عُمان أمام فرصة استثنائية لبناء اقتصاد قائم على الكفاءات الوطنية والابتكار والبحث العلمي، وهذا التحول ليس مجرد رغبة، بل ضرورة ملحة لضمان التنمية المُستدامة ومواجهة التحديات الاقتصادية المرتبطة بانخفاض الاعتماد على النفط، وفي ظل هذه الرؤية يبرز تساؤل مهم: هل يمكن لسلطنة عُمان استثمار طاقاتها البشرية لتصبح من بين الدول الرائدة في اقتصاد المعرفة؟
يعتمد نجاح أي اقتصاد معرفي على العنصر البشري كعامل أساسي، وفي السلطنة تشير الإحصائيات إلى وجود طاقات بشرية كبيرة، لكنها تعاني من تحديات هيكلية مثل الفجوة بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل.
من جانب آخر، يُؤدي القطاع الخاص دورًا حيويًا في دعم الكفاءات الوطنية من خلال توفير فرص التدريب العملي، وتمويل برامج البحث العلمي، وتوظيف الشباب العُماني في مجالات معرفية مُتقدمة، ومع ذلك نُدرك أن مشاركة القطاع الخاص في دعم الابتكار والتدريب المهني لا تزال أقل من المأمول، ولتعزيز هذا الدور يمكن للشركات العُمانية تبني برامج تدريبية متخصصة بالتعاون مع الجامعات المحلية والدولية، إضافة إلى دعم إنشاء حاضنات الأعمال والمشاريع الناشئة في المجالات التكنولوجية.
وفي عصر الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي أصبحت التكنولوجيا عاملًا أساسيًا لتحقيق اقتصاد معرفي؛ وكون السلطنة استثمرت بشكل كبير في مشاريع البنية التحتية الرقمية مثل الحكومة الإلكترونية، والتي تهدف إلى تحسين كفاءة الخدمات وتعزيز الشفافية، إلّا أنها بحاجة إلى تسريع تبني التقنيات المتقدمة في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات والطاقة المتجددة لضمان تنافسيتها.
من كل هذا، لا ننسى الباحثين عن عمل وهم مورد غير مُستغَل بالكامل، لأنهم يمثلون فرصة ذهبية لبناء قاعدة قوية لاقتصاد المعرفة، وإذا ما استُثمِرَت طاقاتهم بشكل صحيح يمكن أن يصبحوا محركًا رئيسيًا للنمو الاقتصادي. ولتحقيق ذلك يجب التركيز على تقديم برامج تدريبية متخصصة تعزز من مهاراتهم ويمكن توفير برامج تدريب مكثفة في مجالات التكنولوجيا والابتكار، مثل البرمجة وتحليل البيانات وتصميم الحلول الذكية، ويمكن تعزيز الشراكة مع الشركات العالمية لتوفير فرص تدريبية خارج السلطنة، مما يساهم في رفع كفاءة الشباب العُماني وجعله منافسًا عالميًا.
وتُظهر الدراسات أن الاستثمار في التعليم المستمر وإعادة التأهيل يساهم بشكل مباشر في رفع الإنتاجية الاقتصادية وتحقيق التحول نحو اقتصاد المعرفة، ويعد البحث العلمي ركيزة أساسية لأي اقتصاد قائم على المعرفة، وفي السلطنة لا تزال نسبة الإنفاق على البحث العلمي أقل من 1% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة متواضعة مقارنة بالدول التي نجحت في هذا المجال.
ولتحقيق تقدم ملموس يمكن للحكومة تخصيص المزيد من الموارد المالية لدعم مراكز الأبحاث والابتكار، كما يمكن تشجيع التعاون بين الجامعات والقطاع الخاص لتطوير حلول تقنية تسهم في تعزيز القطاعات الاقتصادية المختلفة، على سبيل المثال يمكن أن تركز الأبحاث على تحسين كفاءة الطاقة المتجددة أو تطوير تقنيات مبتكرة تعزز الإنتاجية في الزراعة والصناعة.
إنَّ بناء اقتصاد قائم على المعرفة هو طريق طويل، لكنه يستحق الجهد، وبفضل موقعها الاستراتيجي ومواردها البشرية الواعدة، تمتلك سلطنة عُمان جميع المقومات لتحقيق هذا التحول، ومع ذلك يبقى الاستثمار في الكفاءات الوطنية وتطوير البنية التحتية للتعليم والابتكار هو المفتاح لضمان نجاح هذا التحول.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
الإرث الأخلاقي والقيمي.. مسؤولية وطنية واستثمار مستقبلي
يشغل الموضوع القيمي الكثير من دول العالم التي ما زالت ترى فـي الحفاظ على القيم حفاظا على هويتها الوطنية وتماسكها المجتمعي. وفـي مناسبات عديدة تحدث حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- عن أهمية الحفاظ على القيم وتربية الأجيال.. وفـي خطابه الأسبوع الماضي شدد -أيده الله- على أهمية تعزيز الإرث الأخلاقي والقيمي والسلوكي فـي المجتمع العُماني، مؤكدا ضرورة الحفاظ على الموروث الوطني واستلهام مبادئه فـي بناء المستقبل.
تحمل دعوات عاهل البلاد المفدى أبعادا عميقة تتجاوز مجرد التمسك بالعادات والتقاليد، لتصل إلى ضرورة تكييف هذا الإرث مع متغيرات العصر، وجعله ركيزة صلبة لمواجهة التحديات الأخلاقية والاجتماعية التي يفرضها الواقع الحديث بكل ما فـيه من متغيرات ومؤثرات عالمية.
وموضوع القيم الأخلاقية ليس شعارات ترفع، أو إرثا ينتقل من جيل إلى آخر، لكنه فـي الحقيقة منظومة متكاملة تظهر فـي الممارسة الحياتية اليومية بكل تجلياتها بما فـي ذلك مواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية والثقافـية. وعبر العقود الماضية والتي شهد فـيها العالم تراجعا فـي المنظومات الأخلاقية بسبب تحديات العولمة وجدت الكثير من المجتمعات أن ضياع البوصلة الأخلاقية فـي أي مجتمع يقود بالضرورة إلى الدخول فـي دوامة من الانحرافات المجتمعية، حيث تتراجع القيم ويضعف الوازع الأخلاقي، ما يهدد النسيج الاجتماعي ويؤثر في استقرار الأوطان. ولا شك أن توجيهات جلالة السلطان المعظم وحرصه الدائم على موضوع الأخلاق مبني على فهم عميق لهذا السياق وهذه النتائج ولذلك يركز، حفظه الله، على حماية الهُوية الوطنية من الانحراف، وتعزيز التماسك الاجتماعي عبر منظومة قيمية ترتكز على الأخلاق السامية.
لكن تعزيز القيم لا يقتصر على البرامج الحكومية فقط، بل هو مسؤولية مجتمعية متكاملة تبدأ من الأسرة وتمتد إلى المؤسسات التعليمية، والمراكز الثقافـية، والإعلام، وحتى وسائل التواصل الاجتماعي التي تبدو اليوم أكثر تأثيرا سواء فـي الاتجاه الإيجابي أو السلبي. وتبدأ التربية الأخلاقية من البيت، حيث يكون الوالدان القدوة الأولى لأبنائهما وهي قدوة لها تأثيرها العميق فـي تشكيل الأبناء، كما تبرز أهمية المسجد فـي بناء هذه القيم وكذلك السبلة التي يحضر فـيها الأبناء الذكور بشكل خاص منذ نعومة أظفارهم ويشاهدون تطبيقا عمليا للقيم والسلوكيات التي يفترض أن ترسخ فـي أذهانهم من خلال تكرارها ومن خلال توجيه الأبناء للقيام بها.. ومن ثم تأتي المدرسة لترسخ هذه القيم فـي نفوس الناشئة عبر مناهج تعليمية توازن بين المعرفة الأكاديمية والقيم السلوكية.
وإذا كان المجتمع الذي نعيش فـيه متأثرا بالتطورات التكنولوجية التي يعيشها العالم، فمن المهم أن نستخدم هذه التقنيات فـي تعزيز المبادئ الأخلاقية ونشر الوعي القيمي؛ فوسائل التواصل الاجتماعي، التي تعد اليوم من أقوى أدوات التأثير، يمكن أن تؤدي دورا محوريا فـي نشر ثقافة الاحترام والتعاون وتعزيز الوعي الوطني، إذا ما تم توظيفها بشكل إيجابي. وهذا يتطلب، فـي الحقيقة، ثورة كبرى فـي هذه الوسائل؛ لأن البعض يعتبرها أداة هدامة فـي بناء الوعي الأخلاقي والقيمي نظرا للخطاب الثقافـي الملتبس الذي تطرحه حول الكثير من القضايا.
لا شك أن هناك تحديات تواجه عملية الحفاظ على الإرث الأخلاقي، من أبرزها العولمة الثقافـية التي تفرض أنماطا سلوكية غريبة على المجتمع، إضافة إلى تراجع دور بعض المؤسسات التقليدية التي كانت مسؤولة عن نقل القيم من جيل إلى آخر. وهنا، يصبح من الضروري العمل على إطلاق مبادرات حكومية ومجتمعية فاعلة تعزز هذه القيم، من خلال تنظيم حملات توعوية، ودعم الأنشطة الثقافـية، وتعزيز البرامج التربوية التي تركز على البعد الأخلاقي.
إن تركيز جلالة السلطان المعظم على موضوع القيم فـي مناسبات عديدة يعكس إيمانا راسخا من جلالته أن هذه القيم هي العمود الفقري لبناء الأوطان وهي الضامن الحقيقي لاستمرار البناء الحضاري وبهذا المعنى لا بد أن نكون جميعا حراسا لهذا الإرث وتطويره وتعزيزه ليتماشى مع التقدم الذي يشهده العصر ليبقى وطننا شامخا بأخلاق أبنائه وقيمهم وهذا يعزز صموده فـي وجه قيم العولمة الغربية التي تهدف إلى ضرب الهويات الوطنية وإرساء قواعد هوية غربية لا تنتمي لنا ولا يمكن أن ننتمي لها بالمطلق.