موقع 24:
2025-03-03@18:25:01 GMT

عبد الرحمن عباس لـ24: الكتابة الجيّدة تُولِّد الدهشة

تاريخ النشر: 20th, January 2025 GMT

عبد الرحمن عباس لـ24: الكتابة الجيّدة تُولِّد الدهشة

أكد الكاتب السوداني عبد الرحمن عباس أنَ فوزه بجائزة سرد الذهب فرع القصة القصيرة، يمثل تكريماً رفيعاً، واعترافاً مؤسّسيّاَ فارِقاً، موضحاً أن الفوز هذا له مكانةً خاصّة بنفسه، فهو يُحِبُّ كلّ ما يتعلّق بالحكايات، وكتب المجموعة القصصية الفائزة "الحكاء الأخير في هذا الزمان" للطفل القابع في داخله، والذي يحب الحكايات ويقتات على الخيال.

وكان لـ24 الحوار التالي مع عباس: 

ماذا يمثل لك الفوز بجائزة سرد الذهب، المقدمة من مركز أبو ظبي للغة العربيّة، فرع القصّة القصيرة للأعمال السرديّة المنشورة؟

يسعدني فوز كتابي (الحَكَّاء الأخير في هذا الزمان) بجائزة سرد الذهب- فئة الأعمال القصصيّة المنشورة، الجائزة الكبيرة -رغم حداثتها- في مجال القصّة القصيرة والسرديات، وأعتبِرُ فوزي بها تكريماً رفيعاً، وأجد فيه اعترافاً مؤسّسيّاً فارِقاً، الأمر الذي يجعل لهذا الفوز مكانةً خاصّة عندي هو أنّني أُحِبُّ كلّ ما يتعلّق بالحكايات، وأحبّ لفظ (حكاية)، كتبتُ مجموعتي القصصيّة هذه احتفاءً بالحكايات ورغبةً مني في تخليد السير المحليّة الشعبيّة، تحمّستُ كثيراً عندما قرأتُ عن جائزة سرد الذهب وما تحمله من أهداف، والتي تتقاطع مع شغفي الخاصّ بدمج السرديات الشعبيّة والحكايات مع القصّة القصيرة كفنّ أدبيّ حديث، يشرّفني أن أكون من الفائزين بجائزة سرد الذهب التي تهدف إلى دعم الفن الشعبي في رواية القصص العربية، بجميع أنحاء العالم العربي، والتي تُقدّر التقاليد العريقة في سرد القصص باللغة العربية، بما في ذلك الانتشار الدائم للحكايات الشعبية والأساطير، التي تعد جزءاً لا يتجزأ من التراث والثقافة والفكر العربي، والتي تسعى  إلى التعريف بهذا التقليد ودعم دراسته والتعبير عنه في الثقافة المعاصرة.
الجدير بالذكر أنّني كتبتُ هذه المجموعة القصصيّة لنفسي في المقام الأوّل، كتبتُها للطفل في داخلي، الذي يحبّ الحكايات ويقتات على الخيال، ويسعدني أن أرى حكاياتها تعبر الحدود وتُقرأ.

نود أن تقدم لنا نبذة عن مجموعتك القصصية (الحكاء الأخير في هذا الزمان) كم قصة اشتملت، وكم استغرقت وقتا في كتابتها؟

تتكوّن المجموعة من 15 قصّة قصيرة، تحتفي بالحكايات، وتعالج قضايا إنسانيّة شتى من خلال الاشتغال على الحكاية، لطالما كانت الحكايّة جزءاً أصيلاً من الفنّ العربيّ، وتناول الحياة من منظور الحكاية وإعادة تشكيلها يجعل القارئ يرغب في القراءة ويعبئ شغفه تجاهها، تتناول المجموعة القصصية ثنائيات الحياة والموت، الحزن والفرح، الجمال والقبح، والقصص الحكائيّة المختلفة لهذه المجموعة القصصيّة تتناول مواضيعاً مختلفة تجمع ما بين الغرائبي والواقعيّ، وتستغل القلق الوجودي أحياناً لسرد حكاية، كما تحكي عن غربة الروح، والموت، والغياب بكلّ معانيه، تستغل المجموعة السرديّات والأساطير الشعبيّة والأحاجي المحليّة وتشتغل عليها، وتمثّل بعض القصص نموذجاً للمعالجة السردية عن طريق الواقعيّة السحرية أو استحضار الغرائبيّ بحسب ما تستلزمه الضرورة الفنيّة،  كما تستند على الموروث الحكائي الشعبيّ أحياناً، وتحاول النبش في بعض الأساطير المحليّة والشعبيّة، ويرتكز السرد في مرّات على الأسطورة مثل تسخير ميثولوجيا التحوّل في القصّ، فضلاً عن اتباع الأَسطرة (صياغة أسطورة من حدث اعتيادي) في بعض من القصص، تُعرِّج أيضاً على الكتابة عن الكتابة، إذ كان أبطال بعض القصص كُتَّاباً، وكانت تلك القصص تحتفي بالكتابة كفعل إنسانيّ لا يتجزأ، ولا ينفصل عن الإنسان، وقد كتبتُ معظم قصصها أثناء عزلة كوفيد- 19، وقد استغرقت كتابتها حوالي سنة.

من أين تستلهم شخصيات قصصك وأبطالها؟

تتنوّع المصادر التي تغذي خيالي وتساهم في تطوير قدراتي الكتابيّة، القراءة الواسعة والمتنوّعة في الأدب الكلاسيكي والحديث، تساعدني على فهم الأنماط والأساليب المختلفة، كما أنّني استلهم الكثير من الطبيعة والتأمل في الجماليات الصغيرة في الحياة اليومية، بالإضافة إلى ذلك، الحوار مع الأصدقاء والمهتمين بالأدب.
وبالنسبة لي فإنّ الكتابة الجيّدة، هي التي تُولِّد الدهشة في نفس القارئ، بغضّ النظر عن شكلها أو الأدوات المستخدمة فيها.
أبطالي هم هواجسي، هم أنا في أُناس كثيرين، وهم الناس الذين ألتقي بهم، تتشابه التجارب الإنسانيّة حدّ التطابق، ويمكن إسقاط القصّة الواحدة على آلاف التجارب الإنسانيّة.

ما سر توجهك لكتابة القصة القصيرة تحديداً وهل تفكر في دخول مجال الكتابة الروائية؟

إنّنا فعلاً في زمن الرواية بعد أن كان للشعر القدح المُعلّى، إذ يشهد فنّ الرواية ازدهاراً ورواجاً كبيراً في عالمنا العربي والعالم ككُلّ، تتجه الأنظار إلى الرواية في هذه الفترة الزمنية، معظم الجوائز تحتفي بالرواية، والسواد الأعظم من القُرَّاء يميل إليها، الواقع يقول إنّ الرواية هي حاضر الأدب، إذاً نحن فعلاً في زمن الرواية، فلماذا تقتصر كتاباتي على القصّة القصيرة فقط؟ سألتُ نفسي أكثر من مرّة، وسألني كثيرٌ من المعارف والأصدقاء، الذين كانوا يؤكّدون أنّ لدي (النَفَس الروائي) وأنّني أمتلك ما يلزم من الأدوات، ولكن لا أعرف سبباً واضحاً لولائي الخالص لفنّ القصّة القصيرة واقتصاري عليها، لكنّني أُعزِّي ذلك إلى الدوافع التي تجعلني أمارس الكتابة، إذ إنّني أكتبُ بروح طفل في العاشرة، وهذا الطفل -ولسببٍ ما- قرّر أنّ القصّة القصيرة هي ساحة لعبه ومضماره، الكتابة لعبة، طرفاها الكاتب والقارئ، ولُعبتي المُفضّلة هي أن أقتنص حدثاً عابراً، قبل أن أسرد بكثافة أحداثاً أصغر، من المعلوم أنّ للقصّة القصيرة قواعدها وأشكالها، وأنّها فنٌّ مستقلّ، له صعوبته الخاصّة، وأجدني استمتع أيما متعة وأنا أضع البداية والنهاية والعُقدة، أعثر على نفسي في ساحة اللعب الضيقة هذه، قبل أعوام قليلة لم أكن أعرف ماذا تعني القصّة القصيرة، قبل أعوام قليلة فقط ما كنتُ أدري كيف يكتب المرء قصّة، لكنّني أعرف جيّداً أنّني كتبتُ قصتي الأولى إثر افتتاني بقصّة قصيرة قرأتُها.
وما بين ضياعٍ وضياع، عثرتُ على القطعة الناقصة. لا أزالُ أذكُرُ كيف رمَتْ بي قصَّة (الضائعان) للقاصَّة إسراء رفعت؛ إلى دنيا القصص والسرد، وكيف كان غسّان كنفاني الإجابةَ لتساؤلٍ بريءٍ لازَمني منذ أول قصة قرأتها: ما معنى الدهشة؟ ما أزالُ أذكر اللحظات التي أعقَبتْ انتهائي من كتابة أول قصَّة لي؛ حينَ حملتُها بين يديّ مثل عصفورٍ ولِيد، وأنا أتأمَّلُها بحُنُو، كانت نحيلةً خاليةً من الريش، عمياء وكسيحة. كانت مُشوّهة، لكنها كانت تشبهني كثيراً، تُشبهني حدّ التطابق، أتذكَّر بوضوح أنَّني أخذتها كما هي وعرضتها على أحدهم، بعد تفكير طويل وتردُّد، كانت الفكرة في حدِّ ذاتها غريبةً عليَّ؛ فكرة أن يقرأ أحدهم شيئاً كتبتُه، واليوم، وبعد أن كتبتُ الكثير من القصص، أشعر بالغرابة ذاتها، لكنّها ممتزجةٌ بأحاسيس متداخلة من التوجُّس والفخر، لا أعرف على وجه الدِّقة ما أشعر به، لكنّني متأكدٌ أنّني سعيدٌ بأنَّ أحداً رأى أنّ ما أكتبه يستحقُّ أن يكون ورقاً على رفوف المكتبات، وأن يُقرَأ، متأكدٌ أنّني أشعر بالراحة، وبأنَّ حلماً ضئيلاً من أحلامي غادر عالمي الصغير وراح يجوب العالم!

ما مشروعك الأدبي القادم؟

مشروعي القصصيّ القادم مجموعةٌ قصصيّة عن الأمراض النفسيّة باختلافاتها، وهي محاولةٌ مني لقول شيء ما، للتعريف بها، وبأسبابها، للتعبير عن ما يعانيه المرضى النفسيين، يعاني كلّ المرضى النفسيين من كل فئة بدرجة متقاربة، وتكمن أعظم معاناتهم في محيطهم وتأثيره عليهم، الكثير من مرضى الاضطرابات النفسية الذين صادفوني عانوا من عدم تفهُّم الأسرة لحالتهم، وصعوبة تقبّل مجتمعاتهم لطبيعة أمراضهم، إذ يعاني المريض النفسي أكثر ما يعاني من صعوبة تقبُّل الناس لعلّته، لذلك يطرح المشروع أسئلة على شاكلة: ما هو الاضطراب النفسي؟ كيف ينظر المجتمع للمريض النفسي وكيف يتعامل معه؟ كيف تتعاطى الأسرة مع الفرد المعتلّ نفسياً؟ وما أثر ذلك عليه؟ وتُسَخِّر المجموعة فن القصّة القصيرة لوضع تعريف للعلّة النفسيّة وإضافة معارف ربما تكون غائبة لدى عامة الناس عن عالم الاضطرابات النفسية، وتغيير مفاهيم مغلوطة وتفسيرات شعبيّة من خلال السرد وبسلاسة ومن غير مُباشرة، المفاهيم مثل أنّ جميع أشكال المرض النفسيّ ضربٌ من الجنون، وامتناع الأسر عرض المريض على الطبيب النفسي خجلاً منها وخوفاً من الوصمة المجتمعية، وإرجاع الكثير من الأعراض النفسية لوساوس الشيطان، وغيرها، وتحاول وصف تفاعلات المضطربين نفسيا مع أسرهم ومجتمعاتهم ومدى تقبّلها ونظرتها للمريض النفسي كفرد منها، ومدى استيعابها لطبيعة الاضطراب النفسية وفهمها لأسبابها وكيفية التعاطي معها.

ما أهم الكتب التي تركت أثراً لا ينسى في ذاكرة عبد الرحمن ولماذا؟

"حكايات بعد النوم"- أحمد الديب، يحدثُ وأنْ يأسركَ كتابٌ وجدتَه أمامك صدفة، أو فيلمٌ مغمورٌ لا يوصي به أحد، هذا بالضبط ما حصل معي، حين وجدتُ نفسي قبل فترة، أمام جمالٍ لا يُقاوم في مخيلة أحمد الديب الخصبة، منذ أول نصٍّ شعرتُ كما لو أنَّ العالم قد تغيَّر، قادتني النصوص إلى مشاهد منسية، حكايةٌ تتلوها حكاية، وما بين واحدةٍ وأخرى لا أملك إلا أن أتعجب: يا إلهي! يا إله الجمال! نصوصٌ يمكنك أن تتذوَّق حلاوتها في لسانك، تجربةٌ من الخيال النقي، ذلكَ الذي يتلاشى مع سنوات الطفولة، إنَّ قصصاً بهذا النقاء وهذه الرحمة لا بُد وأنَّ وراءها قلبٌ مُرهف وروحٌ خفيفة كريشة، هذا العالمُ من البهاء الفائق يجبرك على أنَّ تتوقف عنده، وتتساءل: كيف لهذا الشخص أن يكون بهذه الشاعريَّة!
أحمد الديب يأخُذكَ بتَمَهُّل، يُعيدُكَ إلى سنواتٍ من العذوبة، بعيداً عن ضوضاء هذه الأيام. الأمر أشبه بتنويم، بحلمٍ مفرط البهجة! هذا العالمُ الذي تبغضه، فيه الفراشات، فيه سماءٌ زرقاء ورمادية، وأنهارٌ، بحرٌ وخبايا لا نراها، أحداثٌ صغيرة وتفاصيل دقيقة تستحق أن تُحكى، يريدُ الديب أن يخبرك، "إنها شذراتٌ من أحلام"، هكذا قال عنها محمد المنسي قنديل. ويُقدِّمه محمد المخزنجي على أنَّه عاشقٌ متسامٍ يكافئه إخلاصه برؤية الحقائق البهية الخافية عن مبتذل العيون، في 98 صفحة ربما تجد نفسك، بين القصص الأخَّاذة ولغة الديب الرصينة، السهلة.
أسرتني كذلك مجموعة قصصيّة اسمها (سرير بنت الملك) لشهلا العجيلي، لما فيها من دمجٍ للحكايات مع فنّ القصّة القصيرة في صورة سلسلة ومختلفة.

المصدر: موقع 24

كلمات دلالية: اتفاق غزة سقوط الأسد عودة ترامب إيران وإسرائيل غزة وإسرائيل الإمارات الحرب الأوكرانية مركز أبوظبي للغة العربية بجائزة سرد الذهب الکثیر من الشعبی ة القصصی ة التی ت

إقرأ أيضاً:

(نص + فيديو) المحاضرة الرمضانية الثانية للسيد القائد 1446هـ

أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ جَمِيعِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.

الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.

أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:

السَّـلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

في موضوع القصص القرآني، كُنَّا عرضنا في شهر رمضان المبارك من العام الماضي عدداً من القصص القرآني، عن بعضٍ من أنبياء الله، وتحدثنا في هذا السياق عن بعضٍ من مميزات القصص القرآني، وعن ما يتعلق بهذا الموضوع، في مقدمة ذلك: لماذا أتى في القرآن الكريم نماذج معينة من القصص والأحداث التاريخية، وما يميِّز العرض القرآني والتقديم القرآني لما قَصَّهُ من قصصٍ عن الماضي، ونبهنا أن القرآن الكريم هو كتاب هداية، هو في الأساس ليس كتاباً تاريخياً، يُقدِّم العرض والسرد التاريخي كما هي الكتب التاريخية، أو يقدِّم القصص كذلك كما هي الكتب المتخصصة في هذا المجال، ولكنه أكبر وأهم من كل ذلك.

القرآن الكريم هو كتاب هداية؛ ولـذلك فما قدَّمه من نماذج متنوعة من القصص والأحداث التاريخية، قدَّمه كأسلوب من أساليب الهداية؛ ولـذلك ضمَّنه الكثير من الدروس والعبر، وعرض فيه الكثير من الحقائق المهمة جدًّا؛ ولـذلك فهو غنيٌ بمحتواه من الدروس، ومن العبر، ومن الحقائق، ومن المفاهيم العظيمة، التي هي كلها تندرج تحت عنوان (الهداية)، فيها هدايةٌ لنا نحن في واقعنا، في ظروف حياتنا، في ديننا، في استلهام القيم العظيمة والأخلاق العظيمة، عندما نسمعها ونراها متجسدةً في الواقع، فيما عرضه الله لنا من النماذج الراقية من أوليائه من الأنبياء، والرسل، والمؤمنين... وهكذا.

فالله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" قال في القرآن الكريم: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا}[الإسراء:89]، فكان من ضمن ذلك هو: ما أتى به من القصص والأنباء في نماذج معينة، مختارة بهداية الله، بعلمه، بحكمته، يختار لنا أحسن القصص، التي تتضمن دروساً مهمة، نحن في أمسِّ الحاجة إليها، وتعرض لنا حقائق مهمة، وتعرض لنا السنن الالهية، وهذا من أهم ما في القصص القرآني.

أيضا هي- كما أشرنا في شهر رمضان المبارك من العام الماضي- هي من معالم الرسالة الإلهية؛ لأنها من أنباء الغيب، وأوحاها الله إلى رسوله "صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ"، وهو أميٌّ في مجتمعٍ أميٍّ، لم يكن يعلم شيئاً عن ذلك؛ ولهـذا قال الله "جَلَّ شَأنُهُ": {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ}[هود:49].

هي أيضاً ملهمةٌ في مقام التأسي والاهتداء، كما ذكرنا عن قصص الأنبياء والمؤمنين، وقال الله "جَلَّ شَأنُهُ": {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ}[هود:120].

الممــيزات للقصـص القـــرآني ممــيزات عظيمــــة ومهمـــة:

الله "جَلَّ شَأنُهُ" قال: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}[يوسف:3].

في مقدمة هذه المميزات: أنــه مــن الله:

الذي قصَّ علينا تلك النماذج من القصص هو الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"؛ وبالتالي فهي حقٌّ، كل ما ورد فيها من تفاصيل وحقائق، ليس فيها أي شائبة من الشوائب التي يتعرض لها الكثير من القصص التاريخية، والأحداث التاريخية، والكتب التاريخية؛ أمَّا ما قدَّمه الله لنا في القرآن الكريم فهو حقٌّ خالص، ليس فيه أي شيءٍ من الزيف، ولا من الخرافات، ولا من الأساطير، ولا من الروايات غير الصحيحة، فهو يأتي لنا بالحقِّ في ذلك، وبالحقيقة الخالصة النقية، التي لا يشوبها أي شائبة؛ ولهـذا يقول: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ}[الكهف:13].

ثم أيضاً الاختيار من الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى":

اختار لنا؛ لأن سِجِلّ التاريخ هو سجلٌ كبيرٌ جدًّا، ونحن آخر الأمم، حتى على المستوى التخصصي، لا يستطيع الإنسان أن يستوعب كل الأحداث التاريخية على كثرتها، لو أمضى كل عمره، لكن الله اختار لنا بعلمه، بحكمته، وهو العليم بما نحتاج إليه أكثر شيء، وما هو الأكثر فائدةً لنا، فقدَّم لنا نماذج متنوعة، متنوعة، وسنتحدث عن قيمة وأهمية هذا التنوع.

فالله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" باختياره لنا من سِجِلّ التاريخ الهائل نماذج معينة، تتناسب مع ظروف حياتنا، حتى لا يحتاج الإنسان أن يمضي كل عمره، ولا يصل بعد إلى استقراء الحقائق والأحداث التاريخية والقصص في التاريخ، اختار نماذج معينة، متنوعة، مهمة، مفيدة جدًّا، وإذا كان الاختيار هو من الله، فهل هناك أحد يمكن أن يكون أكثر دقةً وحكمةً في هذا الاختيار نفسه؟ معاذ الله!

كذلك العــرض القــرآني عرض راقٍ جدًّا:

على مستوى الأسلوب، والتعبير، والطريقة، وعرض فيه هداية بكل ما تعنيه الكلمة، وسليم من كل المؤثرات السلبية، يعني: حتى عندما يعرض حقائق فيها جوانب سلبية كحقائق، كوقائع حصلت، هو يُقدِّمها بشكلٍ يبعدها عن التأثير السلبي، وأنت تسمعها، أو تتلوها في القرآن الكريم، فأنت لا تتأثر سلباً؛ وإنما يقدمها بطريقة راقية جدًّا، وذكرنا أمثلة لذلك في العام الماضي، ونذكر- إن شاء الله- أمثلة لذلك في هذه المحاضرات إن شاء الله.

كذلك في غناها بالدروس والعبر:

في عرض الحقائق، في عرض المفاهيم، في تصحيح التصورات، في الجانب التربوي لها، في جوانب كثيرة ومهمة، في بيان السنن الإلهية، ولـذلك يقول الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى": {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}[يوسف:111]؛ ولـذلك فمسألة التركيز على موطن العبرة من القصة هي مسألة أساسية في العرض القرآني؛ لأنه- كما قلنا- كتاب هداية.

كما أن من المميزات لما في القرآن الكريم من القصص: أنهــا قصـصٌ واقعيــة:

ليست خيالية، بل هي أمثلة من الواقع، وهذا يمنح الإنسان ثقة تجاه تلك القصص، وتجاه ما فيها من حقائق، وما يستلهم منها من دروس وعبر... وغير ذلك؛ لأن الواقع البشري فيه الكثير من القصص- يعني كأسلوب- التي فيها إمَّا الكثير من الزيف والخرافات، ليست نقيةً في النقل، أو كأسلوب آخر بعيداً عن الواقع، هناك أيضاً الكثير من القصص الخيالية في واقع البشر التي تُنقل، لتصور شيئاً من الحياة، لكنه ليس بواقعٍ في الحياة؛ إنما هو جانبٌ خيالي، ويراد له أن يكون إما من قبيل التسلية، أو من قبيل التأثير في النفوس، أو بشكلٍ أو بآخر.

من مميزات العرض القرآني للقصص وما فيه أيضاً: أنه يقدِّم لنا جوانب نفسية، ولكن ليس من باب التخمين والتقدير؛ وإنما من باب الحقيقة:

 لأنه من الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، الذي يعلم ما في النفوس، يعلم الواقع النفسي، عندما يعرض قصصاً لأشخاص، لنماذج معينة، لأمم؛ فالله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" هو العليم بذات الصدور، العليم بخفايا النفوس، عندما يقدِّم لنا صورةً عن الدوافع، عن الواقع النفسي، وعن الحالة النفسية، يُقدِّمه وهو العليم به كحقائق، حقائق ممن يعلم ما في النفوس، حتى ما هو في خفايا الفكر والتفكير، يقدِّمه وهو العليم بذلك؛ ولـذلك فهو لا يقدِّم لنا فقط الأحداث بشكلها الخارجي، بل في عمقها، في الواقع النفسي، في الدوافع، في الحالات النفسية، وهذه دروس مهمة حتى في هذه الأمور، التي نحتاج فيها حتى هي إلى دروس وإلى عبر؛ لأنها جانبٌ أساسيٌ في واقع حياتنا.

التنوع في القصص القرآني هو كذلك مهمٌ، وغنيٌ، ومفيدٌ جدًّا:

نماذج من قصص الأنبياء، مجموعة كبيرة من أنبياء الله ورسله، وكذلك حتى هذا الجانب (في قصص الأنبياء) فيه أيضاً نماذج لظروف مختلفة، وأحوال مختلفة، ومقامات متنوعة. نماذج من قصص المؤمنين من أولياء الله، من غير الأنبياء: مثلما هي قصة أصحاب الكهف، مؤمن آل فرعون، مؤمن أهل القرية في (سورة يس)... وغير ذلك. نماذج من قصص النساء: على مستوى الجانب الإيماني، مثلما في قصة الصديقة الطاهرة (مريم ابنت عمران)، وباسمها سورة في القرآن الكريم، وتحدث القرآن عنها في مواضع متعددة، وكذلك عن غيرها. نماذج عن الأقوام والأمم: قوم نوح، عاد، ثمود، قوم فرعون... وغيرهم. نماذج عن التجار. نماذج عن المزارعين. نماذج عن العلماء. نماذج عن الملوك...

وهكذا... قصصٌ واسع.

فهي نماذج نستفيد منها في مختلف مجالات حياتنا، يعني: في الجانب العقائدي، في الجانب السياسي، في الجانب الاقتصادي، في الجانب الاجتماعي، في المجال الأخلاقي، في شؤون حياتنا نحن أيضاً، الشؤون المختلفة، ونحن آخر الأمم، بين أيدينا رصيدٌ هائلٌ من الأحداث، من التجارب في الواقع البشري، وهذا ما يساعدنا على أن نستفيد منها كتجارب واقعية، عرضت لنا نماذج متعددة ومتنوعة، تُقدِّم لنا الدروس المهمة، التي تزيدنا حكمةً، ورشداً، وبصيرةً، ووعياً، وفهماً، وتساعدنا على تَجَنُّب المزالق، المزالق في هذه الحياة، الأخطاء الكبيرة، التوجهات التي لها نتائج كارثية، العواقب الخطيرة، التي تكون نتيجةً لتوجهات معينة، أو مواقف معينة، كذلك دروساً في مجال الدعوة إلى الله، دروساً في مجال معرفة الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وهذا من أهم ما نستفيده من القصص القرآني حتى في مجال معرفة الله، وهذا مما سنلحظه- إن شاء الله- فيما نعرضه.

عرضنا في شهر رمضان المبارك من العام الماضي من قصص القرآن:

عن نبي الله آدم "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، وزوجه حواء "عَلَيْهَا السَّلّامُ". وكذلك عن قصة ابني آدم. وعن نبي الله إدريس "عَلَيْهِ السَّلَامُ". وعن نبي الله نوح "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، وكذلك عن قومه في سياق قصته. وعن نبي الله هود "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، وقومه عاد. وعن قصة نبي الله صالح "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، وقومه ثمود.

ويتضح لنا كم تضمن العرض القرآني لتلك القصص من دروسٍ مهمة، وحقائق كثيرة، وعِبر عظيمة، بالرغم من أنَّا عرضناها باختصار، وبمحدودية ما نعرفه وما نقدمه.

في هذا الشهر المبارك، نبدأ مشوارنا مع القصص القرآني مع نبي عظيمٍ، من أبرز رسل الله وأنبيائه، ورد ذكره في القرآن الكريم (تسعاً وستين مرة)، وتحدث القرآن الكريم عنه في (خمسٍ وعشرين سورة) في قصصٍ عنه، وحقائق مهمة تتعلق به، منها سورةٌ باسمه في القرآن الكريم (سورة إبراهيم).

الحديث عن نبي الله ورسوله وخليله إبراهيم "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، فيما قَصَّهُ القرآن الكريم عنه، متنوعٌ تنوعاً مفيداً، في أحوالٍ وظروفٍ متنوعة، ومقاماتٍ متعددة، وشؤونٍ مختلفة، وكلها غنيةٌ بالدروس والعِبر، ومسيرة حياته مدرسةٌ متكاملة في الهداية، في الأخلاق، في القيم، في الحكمة، في الرشد، في العلاقة مع الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"... في جوانب كثيرة، نتحدث عن الكثير منها إن شاء الله، بقدر ما يوفقنا الله له.

رسول الله ونبيه وخليله إبراهيم "عَلَيْهِ السَّلَامُ" منحه الله الوسام الرفيع، والحديث عنه في القرآن الكريم يبيِّن لنا عظيم مقامه، ورفيع منزلته، ودرجته العالية، الله قال عنه: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}[النساء:125]، هذا وسام رفيع جدًّا، من أعلى وأعظم الأوسمة، التي تبيِّن منزلته الرفيعة عند الله "جَلَّ شَأنُهُ".

مقامه أيضاً بين الأنبياء والرسل، هو من أرفعهم مقاماً، ومن أفضلهم، ومن أعلاهم منزلة، فمنزلته بينهم هم كأنبياء ورسل منزلة عالية جدًّا؛ لأن مقامات وفضل الأنبياء يتفاوت في مستوى منزلتهم، وكمالهم، وأدوارهم، كما قال الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" في القرآن الكريم: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}[البقرة : 253]، وكما قال "جَلَّ شَأنُهُ": {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ}[الإسراء:55]، فمقامه بين الأنبياء والرسل مقامٌ عظيم، قدوةٌ لغيره من الرسل والأنبياء ممن أتى بعده؛ ولهـذا تُقَدّم الكثير من الدروس والعبر من حياته، من سيرته، لهم في مقام القدوة، واستلهام الدروس والعبر.

قبل أن ندخل في تفاصيل القصص القرآني عنه، نعرض عرضاً موجزاً عن مقامه العظيم، وعناوين عن شخصيته وكماله الإنساني والإيماني:

نبي الله إبراهيم "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، كما قال الله عنه: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا}[البقرة: 124]، هو شخصيةٌ عالمية، تلتقي على تعظيمه وتقديره الكثير من الأمم، والطوائف، والملل، والأديان، بل وتدَّعيه رمزاً لها، كُلٌّ منهم يدَّعي أنه رمزٌ له، وتدَّعِي الاقتداء به، إلى درجة أن مشركي العرب، الذين كانوا على الوثنية في الجاهلية، كانوا يدَّعون أنهم يقتدون به، ويعتبرونه الرمز العظيم لهم، مع ما هم عليه من انحراف كبير، وكفر بالرسالة والرسل والأنبياء، وهم في حال الشرك والوثنية، كذلك هو حال اليهود، يدَّعونه رمزاً لهم، وينسبونه منهم، في انتمائه العقائدي والديني، وكذلك هو الحال بالنسبة للنصارى، وبالنسبة لغيرهم، هناك كذلك أقوام، وأمم، وطوائف، وملل، لها نفس الدعوى.

ولهـذا رد الله عليهم في القرآن الكريم، في قوله "جَلَّ شَأنُهُ": {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[آل عمران:67]، ليرد عليهم في تلك الادَّعاءات، ويقول: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ}[آل عمران:68]، بين كل للذين يدَّعون أنه رمزٌ لهم، وأنهم يقتدون به، وأنهم منتمون عقائديًا ودينياً إليه، أولى الناس به من؟ {لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}[آل عمران:68]، يعني: هم الذين- فعلاً- يمثلون امتداداً لنهجه: رسول الله محمد "صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ"، والذين آمنوا معه، هم الذين يمثلون امتداداً لنهج نبي الله إبراهيم وملته ودينه، وهم أولى الناس بهذا الانتماء.

فيما يتعلق بنماذج من العناوين القرآنية عن شخصيته: وهو- كما قلنا- من منحه الله الوسام الرفيع، العظيم، العجيب، الذي يندهش الإنسان أمامه، عندما قال: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}[النساء:125]، فيما يفيده هذا من علاقته العظيمة بالله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، ومنزلته الرفيعة جدًّا، (معنى: خليلاً، يعني: حبيباً وولياً)، الله اتَّخذه حبيباً له وولياً، وهو في مقام المحبة لله، والمحبة من الله له في مستوى عالٍ جدًّا، مُقَرَّبٌ جدًّا من الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، يحبه الله محبةً عظيمة، ويحظى بمنزلةٍ رفيعة، وهذا بنفسه وسامٌ عظيم، يبيِّن ما هو عليه من الكمال الإيماني والطهارة، وسنتحدث عن هذه النقطة- إن شاء الله- في سياق القَصص، عندما ندخل في التفاصيل؛ ولـذلك هو حظي برعايةٍ عجيبةٍ من الله، وهذا من الدروس المهمة في قصص نبي الله ابراهيم "عَلَيْهِ السَّلَامُ": ما حظي به من رعايةٍ عجيبةٍ من الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وما منحه الله، هذا درسٌ مهمٌ جدًّا في رعاية الله لأوليائه، وما يمنحهم، ما يمنحهم ويَمُنُّ به عليهم في إطار رعايته لهم، فله مكانته الراقية، ومنزلته الرفيعة في علاقته بالله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى".

يقول الله "جَلَّ شَأنُهُ" في القرآن الكريم: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا}[النحل:120]، هذا التعبير العجيب: {كَانَ أُمَّةً}، يُقدِّم لنا صورةً عن كمال إبراهيم، عن منزلته الرفيعة، عن دوره العظيم:

كَانَ أُمَّةً فيما حازه من كمالٍ إنسانيٍ وإيمانيٍ ومواصفاتٍ راقية، وفيما حمله من قيم، وجسَّده من مبادئ، يعدل أُمَّةً بكلها، يساوي أُمَّةً بكلها، فاجتمع فيه ما لو تفرَّق في أُمَّة، من مواصفات الكمال الإيماني والأخلاقي والإنساني، لكانت أُمة نموذجية، لكانت أُمَّةً صالحة، هذا تعبير عظيم جدًّا، هذا يُقرِّب لنا وإلى أذهاننا مستوى عظمة شخصيته، ومستوى كماله. وكَانَ أُمَّةً في أهليته العالية، في مقام الاهتداء والقدوة؛ فكان رمزاً للأنبياء، وإماماً للناس، ومعلماً عالمياً للمجتمع البشري. وكَانَ أُمَّةً في دوره العظيم، الذي قام به في إرساء دعائم الحق والخير والهدى، وفي تصديه للطغيان والضلال، وما بذله من جهدٍ في ذلك، بالرغم من أنه بدأ بمفرده، لكنَّ حجم هذا الدور الذي نهض به، بما تنهض به أُمَّة، إلى هذا المستوى، شخص له هذا الدور، له هذا التأثير، يعادل مجهود أُمَّة، ودور أُمَّة، ونهضة أُمَّة، وحركة أُمَّة، هذا يفيد مستوى الدور العظيم الذي قام به، وما بذله من جهد، وما حققه من تأثير ونتائج.

ولهـذا عندما قال الله عنه هذا التعبير، فهو تعبير جامع، جمع كل هذه الدلائل والمفاهيم.

{كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ}[النحل:120]، هنا يعرض لنا القرآن الكريم مواصفات راقية جدًّا، تبيِّن لنا كيف كان في مستوى إيمانه، كيف كانت علاقته بالله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وهذا من أهم ما أهَّله لهذا الدور، وارتقى به إلى هذه المنزلة، وهذا المقام العظيم.

{قَانِتًا لِلَّهِ}، هذه مواصفات مهمة، مجموعة من المواصفات تندرج تحت عنوان (قَانِتاً لِلَّهِ)، كان خاضعا لله، مطيعاً له؛ ولـذلك ففي قوله "جَلَّ شَأنُهُ": {قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا} كم يجتمع لنا؟ يجتمع لنا أنه كان نموذجاً عظيماً:

في المحبة لله تعالى، والإخلاص له، والاستقامة على نهجه. وفي الخضوع التام لله. وفي الخشوع لله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى". وفي الثبات على نهج الله.

كل هذه العناوين تجتمع تحت قوله تعالى: {قَانِتًا لِلَّهِ حَنِفًا}، وسنتحدث أيضاً في سياق التفاصيل، في القَصص عن نبي الله إبراهيم، عن كيف تجسَّدت هذه العناوين في واقعه، في حركته، في أعماله، في مواقفه، بشكلٍ عظيمٍ ومميَّز.

عَـــرَض القُـــرْآنَ الكريـــم عنـــه أيضــاً أنه:

كان رمزاً عظيماً في التسليم لله تعالى والإسلام له: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[البقرة:131]، في التفاصيل في القصص عنه سيأتي نماذج في واقعه العملي، عن هذا الإسلام والتسليم لله "جَلَّ شَأنُهُ" قدَّمه على أنه نموذج راقٍ في المصداقية، {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا}[مريم: 41]، (صِدِّيقًا): مصدقاً بكلمات الله تعالى، وكانت مصداقيته في أقواله، في انتمائه، في أعماله، تامة وراقية جدًّا. نموذج في اليقين، وسيأتي الحديث عن ذلك. في الشكر: {شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ}[النحل:121]، يُقدِّر نعم الله عليه، ويُعظِّم نعم الله عليه، ويشكر الله على نعمه في أقواله، في أفعاله، وفي أعماله، بقلبه وسلوكه، وسيأتي أيضاً تفاصيل عن هذا الموضوع، وهذا العنوان. في الرشد، والعلم، والحجة، والحكمة، والبصيرة كذلك: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ}[الأنبياء:51]، كان راشداً، حكيماً، على بصيرة، على معرفة، على علم، {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ}[ص:45]، فهو من المتمسكين، والمقدمين، والمسهمين، في إقامة الحق، وفي مسيرة النبوة والرسالة أعطى دفعاً كبيراً للحق والهدى، استمر لأجيالٍ طويلة، {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ}[الأنعام:83]، وستأتي التفاصيل أيضاً عن ذلك. في الحلم: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}[التوبة:114]، وفي آيةٍ أخرى: {لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ}[هود:75]، فهو من ذوي الحلم، ونموذج في الحلم، وستأتي التفاصيل، وتعريف هذا العنوان ودلالاته. في الكرم، في حسن الضيافة: كذلك في القصص تأتي التفاصيل. رمزٌ في البراءة، والموقف الحاسم من أعداء الله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا}[الممتحنة:4].

العناوين كثيرة، والتفاصيل كثيرة، وكثيراً من العناوين نأتي اليها مع المفاهيم، مع الحقائق، مع الدروس، مع العبر، في سياق القَصَص الذي قَصَّهُ الله عنه، وقدَّم في ذلك القصص- كما قلنا- نماذج من ظروف متنوعة، وشؤون مختلفة، وأحوال متعددة.

نَسْألُ اللَّهَ "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء، وَأَنْ يَتَقَبَّلَ مِنَّا وَمِنْكُمُ الصِّيَامَ، وَالقِيامَ، وَصَالِحَ الأَعْمَال، وَأَنْ يَجْعَلَنَا فِي هَذَا الشَّهْر الكَرِيم مِنْ عُتقَائِهِ وَنُقذَائِهِ مِنَ النَّار.

وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

مقالات مشابهة

  •  في الصحّة النفسيّة
  • جامعة قناة السويس تنظم لقاء تعريفيا عن خدمات "الإرشاد النفسي" بكلية الزراعة
  • (نص + فيديو) المحاضرة الرمضانية الثانية للسيد القائد 1446هـ
  • مقتطفات من المحاضرة الرمضانية (2) .. للسيد القائد
  • ليلى عبدالله: هذه القصص تحدّتني وبعثرت ثوابتي الشخصية حول احتمالات عديدة ذات صلة بالملوك وعوالمهم
  • الإرشاد النفسي بجامعة القناة يعقد لقاءً تعريفياً بكلية التمريض لتعزيز الدعم النفسي لطلابها
  • محافظ القاهرة يكلف برفع الإشغالات من محيط المساجد التي يقام بها صلاة التراويح
  • ما حكم موائد الرحمن التي يقيمها الفنانون والمشاهير؟.. مفتي الجمهورية يجيب
  • الدعيع: دفاع الهلال كارثي والضغط النفسي سبب الهزيمة.. فيديو
  • حكم موائد الرحمن التي يقيمها الفنانون والمشاهير.. مفتي الجمهورية يرد