سودانايل:
2025-03-24@14:50:16 GMT

القتل على أساس الهوية في السودان

تاريخ النشر: 20th, January 2025 GMT

د. الشفيع خضر سعيد

كل الشواهد تقول إن السودان اليوم يسير سيرا حثيثا على خطى مثلث الرعب الرواندي قبل أن تستعيد رواندا عافيتها. فالحرب الدائرة الآن فيه، تتجه لتسودها جرائم القتل على أساس الهوية الإثنية، كما شهدنا في مدينة الجنينة والعديد من مناطق ولايات دارفور وكردفان، ونشهد اليوم في مدينة ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة والمناطق التي يسكنها العمال الزراعيون في الولاية وتسمى «الكنابي».


ومع الإشارة، بدون تعليق مؤقتا، إلى أن سيطرة قوات الدعم السريع على عاصمة ولاية الجزيرة ومدن وقرى الولاية الأخرى تمت بدون مقاومة تذكر مما أثار غبارا كثيفا من الشكوك لم ينجل حتى اللحظة، فإن سكان الولاية، ولما يقرب من العام، ظلوا يذوقون الأمرين من هذه القوات تنكيلا وقتلا ونهبا واغتصابا. لذلك، كان طبيعيا أن يتنفس سكان الولاية الصعداء ويعم الفرح أهل السودان بعد أن استعاد الجيش السوداني سيطرته على مدينة ود مدني. لكن الفرحة أفسدتها الانتهاكات البشعة وذات الطابع العنصري التي حدثت في المدينة ووسط سكان «الكنابي» بعد إحكام الجيش سيطرته على المنطقة. وإذا كان السودانيون لا يتوقعون ولا ينتظرون سوى الانتهاكات الجسيمة التي تطال أمنهم وكرامتهم مع سيطرة قوات الدعم السريع على مناطقهم، فإنهم ظلوا يرومون التخلص من هذا الكابوس المرعب، وينشدون الأمن والأمان مع استعادة سيطرة القوات المسلحة السودانية على هذه المناطق، لا أن تتواصل الانتهكات على مرأى ومسمع من قيادات هذه القوات، مهما كانت التهم الموجهة إلى من تم ذبحهم ذبح الشاة أو ألقي بهم في النهر لتلتهمهم التماسيح. فأخذ القانون باليد هو جريمة أيضا، وعامل يعمق الشروخ في مجتمع يحتاج بشدة إلى الوحدة والتماسك. والانتهاكات التي تطال المدنيين وترتكب خارج قواعد الاشتباك، هي جرائم يجب ألا تمر دون عقاب. والتغاضي عنها والإفلات من العقاب سيزيد من اشتعال نيران الحرب ويخدم مصالح الجهات التي تسعى إلى دفع الحرب نحو صراعات جهوية وإثنية من شأنها تمزيق البلاد.
وإذا كان معروفا أن أحاديث قيادات الدعم السريع حول أن الجرائم المنسوبة إلى قواتهم هي من فعل مجموعات متفلتة، وأنهم شكلوا لجانا لمحاسبة هولاء المتفلتين، هي مجرد فقاعات هوائية، فإن الانتهاكات التي تمت بعد استعادة القوات المسلحة السودانية سيطرتها على مدينة ود مدني هي جرائم لا يمكن السكوت عليها، وتستوجب أن تتحمل قيادة القوات المسلحة السودانية المسؤولية القانونية والأخلاقية حيالها. صحيح أن هذه القيادة أصدرت بيانا استنكرت فيه هذه الجرائم وشكلت لجنة تحقيق حولها، ومع ذلك يظل المطلب الرئيسي هو المحاسبة العاجلة والعادلة، وبشكل شفاف ومعلن، لكل المتورطين فيها. وفي نفس الوقت نرى ضرورة الإسراع في نشر أفراد الشرطة والأجهزة المدنية لإنفاذ القانون في كافة المناطق التي يستعيد الجيش سيطرته عليها، وضمان الفصل بين العناصر العسكرية النظامية ومجموعات المستنفرين وبين التعامل المباشر مع المواطنين، وأن يكون هذا التعامل وفق ما يضمن سيادة القانون وإنفاذه بفعالية وعدالة. وعموما، نحن لن نتوقف عن القول بأن الحرب المشتعلة اليوم في السودان، هي جريمة تستوجب المساءلة والعقاب. وأن من ينفخ في كيرها ويزكي نيرانها ويوجه دفتها، هم من أعمى الحقد بصرهم وبصيرتهم بعد أن أطاحت بهم ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018 بقوة حراكها السلمي وطردتهم شر طردة تصحبهم اللعنات، فتمكنت منهم الرغبة في الانتقام من الشعب والوطن، فصموا آذانهم عن صوت العقل، وظلوا مستمسكين بمطامعهم الأنانية ومسترخصين حياة المواطن، وصمموا أن يعودوا إلى كراسي الحكم ولو على حساب دم الشعب المسفوح وفوق جماجم الوطن. هي حرب لن ينتصر فيها طرف، وإن هُزم الطرف الآخر، ولكن قطعا الخاسر فيها والضحية هو الشعب السوداني وبلاده.

إن تحقيق السلام المستدام وإعادة رتق النسيج الاجتماعي وإصلاح الشروخ التي خلفتها صراعات الموارد والسلطة، يتطلب صياغة وإنجاز مشروع وطني يحارب التهميش ويحقق التنمية المتوازنة ويعيد بناء مؤسسات الدولة السودانية

صحيح أن استعادة الجيش السوداني سيطرته على مدينة ود مدني تمثل تحولا نوعيا من الزاوية الاستراتيجية العسكرية. لكن التحولات العسكرية، مهما كانت حاسمة، لن تكون وحدها كافية لإنهاء الحرب التي أنهكت البلاد ومزقت نسيجها الاجتماعي. فهذه الحرب أعمق من مجرد صراع عسكري بين أطراف تتنازع حول السلطة، وهي تستغل أزمة وطنية تتغذى جذورها بالتهميش الناتج من التنمية غير المتوازنة والتوزيع غير العادل للموارد والسلطة. وأن وقف الحرب بشكل نهائي في السودان لا يمكن أن يتحقق بمجرد انتصارات عسكرية أو معارك على الأرض، بل يتطلب في المقام الأول مخاطبة هذه الجذور، مثلما يشترط التوقف عن استثمار الانقسامات العرقية والجهوية التي أضرت بالبلاد والكف عن تغذيتها لصالح مشاريع سياسية منتهية الصلاحية. إن تحقيق السلام المستدام وإعادة رتق النسيج الاجتماعي وإصلاح الشروخ التي خلفتها صراعات الموارد والسلطة، يتطلب صياغة وإنجاز مشروع وطني يحارب التهميش ويحقق التنمية المتوازنة ويعيد بناء مؤسسات الدولة السودانية، المدنية والعسكرية، على أسس جديدة تضمن العدالة الاجتماعية والمواطنة المتساوية والاعتراف بالتنوع الثقافي والعرقي، بما يحقق إعادة صياغة الهوية السودانية على أساس المصالح المشتركة. وهذا هو الحلم الكبير الذي حملته ثورة ديسمبر/كانون الأول المجيدة بكل ألقها وعنفوانها، حين هتف الثوار حرية سلام وعدالة، وكل البلد دارفور، وأن مستقبل السودان يتطلب تجاوز أي نظرة ضيقة أو السعي نحو المصالح الذاتية إلى الانطلاق نحو هذا المشروع الوطني الجامع. هذه الثورة العظيمة تمثل نقطة تحول فارقة في تاريخ السودان الحديث، وهي البوصلة التي ينبغي أن يهتدي بها حراكنا اليوم.
السودانيون، بكل أطيافهم ومشاربهم، يستحقون وطنًا يُحترم فيه الإنسان وتُصان فيه كرامته، وتعلو فيه قيمة المواطنة. لكن هذا لن يتحقق إلا بقيادة واعية تدرك أن المستقبل لا يمكن أن يُبنى على عداءات الماضي، بل على أساس المصالحة الوطنية ووحدة البلاد، وتؤمن بأن هذا الهدف ليس مجرد ضرورة سياسية، بل هو أيضًا واجب أخلاقي تجاه شعب ظل يعانى طويلًا.

نقلا عن االقدس العربي  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: مدینة ود مدنی على أساس

إقرأ أيضاً:

البروفيسور حسن أحمد إبراهيم (1938- 14 مارس 2025): عاصفة على تاريخ الحركة الوطنية السودانية

رحل عنا إلى دار البقاء الأسبوع الماضي مؤرخ فحل للسودان الحديث هو البروفيسور حسن أحمد إبراهيم، رئيس شعبة التاريخ في كلية الآداب بجامعة الخرطوم (1976-1978) وعميد الكلية (1984-1990)، وشغل وظائف منوعة في الجامعة العالمية الإسلامية بماليزيا وانتهى مديراً للمعهد العالي لوحدة الأمة الإسلامية (1995-2007) وعميد كلية الدراسات العليا في جامعة أفريقيا العالمية بالخرطوم لاحقاً. ومن بين كتاباته ذات الخطر مؤلفه عن الإمام عبدالرحمن المهدي (1885-1960) زعيم جماعة أنصار والده محمد أحمد المهدي (توفي عام 1885) التي سوى صفها بدأب ونباهة بعد أن شتتها الغزو الإنجليزي عام 1898 إلى الجهات الأربع بعد القضاء على دولتها. وصدر الكتاب بالإنجليزية عن دار بريل (2004) بعنوان "السيد عبدالرحمن المهدي دراسة في المهدية الجديدة في السودان" (1899-1956) بعد صدوره باللغة العربية عام 1998. وجرؤ حسن في كتابه على مراجعة ذائعة عن الإمام بين خصومه دمغته كمتعاون مع الاستعمار الإنجليزي وخائن لوطنه في صوره الذائعة المتطرفة، في حين هم من قاوموه.

مهندس الاستقلال
وجاءت هذه المراجعة على لسان إبراهيم نفسه بمثابة انعتاق شخصي له من وزر هذه الذائعة التي ترعرع في بيئاتها، ويريد بهذه البيئات الدوائر السياسية التي دعت بفرقها الكثيرة وأهوائها إلى الوحدة مع مصر بعد استقلال السودان بينما كان نهج الإمام هو استقلال السودان برعاية بريطانيا، مستبعداً مصر التي لم تكُن من أزال والده المهدي حكمها على السودان فحسب، بل سعت دولته من بعده إلى غزوها من غير طائل أيضاً. فقال إنه جاء لتأليفه عن الإمام من بيئة اتسمت "بالعصبية والتشيع لدرجة وصمت الإمام عبدالرحمن المهدي بممالأة (الإنجليز) على أقل تقدير، ووصلت المبالغة بوصفه خائناً وتابعاً ذليلاً لبريطانيا المستعمرة". فعركته ميادين دراسة التاريخ عركاً اطلع فيه على وثائق التاريخ السوداني الحديث في مظانها بدت له منها "سذاجة وبطلان وتعسف تلك التهم". وبعد التحليل اتضح لإبراهيم أن الدوائر البريطانية في السودان ومصر وبريطانيا كانت تنظر إلى الإمام بالشك، بل كادوا له وحذروا في وقت باكر من أنه هو من سيطوي صفحة الإنجليز. وفعلها لحكمته، في قول إبراهيم، بطريقته الخاصة في الدهاء والمناورة حتى عده "مهندس الاستقلال"، على غير ما يزعم من أعطى الرتبة لغيره.
وحال إبراهيم في الانعتاق من حزازته على الإمام مما قال عنها أحدهم إن الإنسان كمن يولد من جديد متى بان له عوار فكرة أنس لها طويلاً ما وثابر على التخلص بقوة منها.

مرحلة التكوين
عرض إبراهيم للعلاقة بين الإمام والإنجليز منذ نجاته صبياً شريداً بعد هزيمة المهدية من حملة إنجليزية تعقبت أسرة المهدي وقضت على اثنين من إخوانه إلى استقلال السودان عام 1956، وسمى فترته التي جمع فيها الأنصار من شتاتهم وإدارة شأنهم وإنشاء مؤسسته الاقتصادية "دائرة المهدي" بحرفية وطول بال في أوضاع سياسية وطنية واستعمارية متقلبة، "المهدية الجديدة". واستنفد مصادر هذه الفترة في دور الوثائق في كل من السودان ومصر وبريطانيا. وأعانه على الخوض الصعب في هذا التاريخ المراجع أنه كان كتب رسالته للدكتوراه عن اتفاق عام 1936 الذي عقد بين دولتي إنجلترا ومصر، الحكم الثنائي على السودان، والذي وعد السودانيين بالحكم الذاتي في 20 عاماً وبأن تكون رفاهيتهم موضع نظرهما. فأحسن إبراهيم في مراجعته لتاريخ الحركة الوطنية من فوق علمه الدقيق بذلك الاتفاق المحوري في تاريخ تلك الحركة.
يطلق ذائعة تعاون الإمام مع الإنجليز من لم يتوقف ويسأل إن كان أولئك الإنجليز أمة واحدة لا تشوبها شائبة خلاف. وخلافاً لذلك يقف قارئ إبراهيم على أن الإنجليز لم يكونوا دائماً ذلك الكيان الواحد الصمد ويخرج بأنهم بفضله أنهم كانوا في الأربعينيات وقت اشتداد الحركة الوطنية فئتين متشاكسين. فلا يعرف المرء إن كان ولاء الإمام لأي منهما هو ما جاء له بذائعة ممالأة الاستعمار. وأظهر ما كان ذلك الخلاف بين شيع الإنجليز حول الموقف من مصر الذي دار حول اتفاق رئيس وزراء مصر إسماعيل صدقي ورئيس وزراء بريطانيا إرنست بيفن (صدقي-بيفن) (1946). فكانت مصر، الشريك اللدود مع إنجلترا في حكم السودان الثنائي، حظيت في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وتحت حكم حزب العمال بمنزلة مرموقة في استراتيجية الحكومة البريطانية في الشرق الأوسط أرخت بريطانيا بها أذنها لمطلب مصر بالسيادة التاريخية على السودان كما لم تفعل من قبل.
وأزعج ذلك لا الإمام وحده، بل حكومة السودان في الخرطوم نفسها. ففي ذلك الاتفاق اعترفت بريطانيا لمصر بحقوقها التاريخية في السودان. وكان بيفن نفسه رأى أن أفضل وضع للسودان هو أن يكون في وحدة مع مصر، مما لم تتفق حكومة السودان معه فيه. وخرج هوبرت هدلستون، حاكم السودان العام، يزري بالخارجية البريطانية وينتقدها لأنها تسمع من الاتحاديين لا من حلفائها الاستقلاليين الذين سيعارضون ذلك الجنوح لمصر كما فعلوا دائماً بثمن فادح. وفي السابع من نوفمبر أعطى بيفن إسماعيل صدقي اعتراف بريطانيا بوحدة وادي النيل مع حق تقرير المصير للسودان، على ما بين الحقين من تناقض. ورأى هدلستون في موقف حكومته خذلاناً للإمام وجماعته ممن كان يسميهم "أصدقاءنا". وكان رأي حكومته في لندن أن أصدقاءه أولئك إنما يريدون التخلص من بريطانيا بمثل ما أردوا التخلص من مصر في وقتهم المناسب. وضاقت الخارجية بهدلستون وطلبت منه الاستقالة عام 1947 ليحل محله روبرت هاو وهو من موظفي وزارة الخارجية.

"مقاومة الاستباحة المصرية"
ولم يـتأخر الإمام في المقاومة ضد ما رآه استباحة مصرية للسودان من الحكومة البريطانية ممن ظن فيها الخير، فشكّل الجبهة الاستقلالية وقاطع جلسات المجلس الاستشاري لشمال السودان (1946) الذي أذنت به الحكومة لتعطي السودانيين صوتاً في إدارة شأنهم، وعقد الندوات السياسية والتظاهرات لإدانة بريطانيا على تساهلها مع مصر في شأن السودان، بل طالب بإنهاء الحكم الثنائي وترك السودانيين لتكوين حكومة ديمقراطية، والتحم الاتحاديون والاستقلاليون في تظاهراتهم مما اضطر الحكومة إلى منع النشاطات السياسية. وقللت بريطانيا من خطر مقاومة الإمام ورأت فيه رجلاً تبددت أحلامه في مملكة تمناها بالبلد على غرار الملك فيصل في الجزيرة العربية. ولما عاد صدقي في الـ26 من أكتوبر 1946 لمصر وقال مقولته المشهورة "جئتكم بالسيادة على السودان"، طلب الإمام الذهاب إلى بريطانيا ليطلع الحكومة والشعب على موقفه من استقلال السودان، وقبلت بريطانيا على مضض على أن يغشى القاهرة في طريقه إلى إنجلترا حتى لا تنزعج مصر، ورفض صدقي أن يلتقي الإمام.
وواصل الإمام معركته لاستقلال السودان وبدعم من حكومة السودان ضد اتفاق صدقي-بيفن. وفي بريطانيا عبّر الإمام عن نفسه بمصطلح متعارف عليه بين قادة حركات التحرر الوطني، فنفى أن تكون لمصر حقوق تاريخية في السودان لأن من كانت له تلك الحقوق بالفعل هي الدولة العثمانية التي حكمت مصر والسودان معاً، وأطاح بها السودانيون بثورة جبت كل زعم. كما قال إن ميثاق الأمم المتحدة أعطاهم الحق في تقرير المصير ككل مستعمرة أخرى، مذكراً بجهود السودانيين في دعم المجهود الحربي لبريطانيا في الحرب العالمية الثانية باشتراك قوة دفاع السودان في تحرير الحبشة.
ولوّح بأنه إذا لم توقف بريطانيا مصر عند حدها فقد تنفجر الأوضاع كما في فلسطين التي أثارها وعد "بلفور" من جانب واحد لليهود. وطلب من بريطانيا أن تلتزم بحق السودان في تقرير مصيره واستقلاله خلال 10 أعوام وأن ترعى ذلك الالتزام في كل عهد توقعه مع مصر وإلا تحملت عاقبة الأمور. ووجد الإمام من استمع إليه وميّز قوله بين المحافظين والصحافة.

اجتماعات نيويورك
وواصل الإمام المؤتمرات الدولية عن السودان بمندوبين يعرضون سبيله لاستقلال السودان، فعقد اجتماع للأمم المتحدة في نيويورك دعت إليه للنظر في المسألة السودانية بعدما سمعت مصر من الحكومة البريطانية قولاً عن حقها في السودان لم يطابق ما تريده تماماً. فرتب الإمام وفداً ليكون حاضراً في المؤتمر يذيع وجهة نظرهم التي جاءت ضمن مذكرة عنوانها "قضية استقلال السودان" جددوا فيها حججهم التي تطرقنا إليها أعلاه عن فساد زعم أن لمصر حقوقاً في السودان. فالحكم الثنائي نفسه عام 1898، بحسب المذكرة، أبطل زعم مصر بحق تاريخي في السودان لأنه صار بالاتفاق مستعمرة مستقلة. ولم تنتهِ اجتماعات نيويورك إلى شيء مما هو كسب سلبي لبريطانيا التي كانت مصر طالبتها بمغادرة السودان. ولقي وفد الإمام من ناصره في القضية فطمأنه على عدالة قضيته. ولكن وضح للمهدي من اجتماعات نيويورك أن سياسة المواجهة مع بريطانيا منزلق صح تجنبه، فبريطانيا مهما قال عنها هي التي تملك الأوراق في السودان، فعاد للتعاطي معها في ما بعد.
واضح من كتاب إبراهيم المُراجع عن الإمام المهدي أنه من الصعب وغير المفيد استمرار هذا الأخدود في تاريخ الحركة الوطنية بين "الوطنيين"، من مثلهم الاتحاديون ممن طلبوا الاستقلال "تحت التاج المصري" و"المتعاونون" مع الاستعمار من مثلهم الإمام ورهطه. فعلاوة على جعله هذا التاريخ قراءة مملة، فهو كما رأينا لا يرى في الإنجليز شيعاً لم يتهيب الإمام مقاومة طرف منها هو الحكومة البريطانية بجلالة قدرها حين استباحت السودان لمصر على رغم اعتراض حكومة السودان نفسها على نهج مركزها الإمبراطوري. ومن طريف ما جاء في الكتاب أن وفد الإمام من المتعاونين إلى لندن سعى إلى عرض مسألته حتى على منظمة الجامعة الأفريقية التي كانت تعبأت لتأمين حق تقرير المصير للمستعمرات الأفريقية بعد الحرب مما ربما لم يبلغه الاتحاديون. وإذا كانت الأمور بخواتيمها فالمعلوم أن استقلال السودان وقع على حافر خطة الإمام لا خطة الاتحاديين. فقرر اتفاق عام 1953 للحكم الذاتي للسودانيين متى نالوا الحكم الذاتي استفتوا أنفسهم إن كانوا مع الوحدة مع مصر أو الاستقلال. ولم يحتج السودانيون لأي من ذلك، فتعاقدوا على الاستقلال من دون حاجة إلى الاستفتاء في ما عرف بـ"إعلان الاستقلال" من داخل البرلمان الذي كانت الغلبة فيه للاتحاديين الأشاوس من دون الاستقلاليين المتعاونين.

 

ibrahima@missouri.edu  

مقالات مشابهة

  • السلطات السودانية تقرر رفع التجميد عن عمل قناة الشرق في السودان
  • المجموعة السودانية لمناصرة اللاجئين..تحية مستحقة
  • الصومال ترحب باستعادة القوات السودانية السيطرة على القصر الجمهوري
  • بيان عاجل من القوات المسلحة السودانية: مستمرون في تطهير البلاد من المليشيات
  • الجيش الأوغندي يقترب من الحدود السودانية.. هل يريد ابن موسيفيني تنفيذ تهديده.. رئيس حزب التحالف الديمقراطي يحذر
  • حمدين: لقد تغير مسار المعركة لصالح القوات المسلحة السودانية
  • البروفيسور حسن أحمد إبراهيم (1938- 14 مارس 2025): عاصفة على تاريخ الحركة الوطنية السودانية
  • الرئيس السيسي: المرأة المصرية أساس بناء حضارتنا الراسخة التي استمرت آلاف السنين
  • خبير: القوات المسلحة السودانية ستطهر ما تبقى من الخرطوم خلال أسبوع
  • رئيس تركيا لن نسمح أبداً لعصابة القتل هذه التي تزداد وقاحة يوماً بعد يوم بتحويل منطقتنا إلى بحر من الدماء