استحضار التاريخ رفدا للمستقبل في خطاب جلالة السلطان
تاريخ النشر: 19th, January 2025 GMT
تابعنا وكل عُمان خطاب جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- بمناسبة الحادي عشر من يناير؛ ذكرى تولي جلالته مقاليد الحكم، خطابا مليئا بالمضامين السامية والقيم العليا بدءا بالإنجازات الوطنية خلال الأعوام الخمسة الماضية، مرورا بالتأكيد على ضرورة شكر النعم وأهمية وحدة الشعب، متضمنا التذكير بالسيادة التاريخية لسلطنة عمان عموما ولفترة حكم الدولة البوسعيدية على وجه التحديد معززا بإعلان يوم وطني جديد هو تاريخ بداية تأسيس الدولة البوسعيدية في العشرين من نوفمبر.
وعلى أهمية كل مضامين الخطاب السلطاني بكل محتواه فإن هذه المقالة تروم الوقوف على التاريخ قيمة عليا في خطاب جلالته، حيث جاء تأكيد جلالته على النعم الكثيرة وضرورة شكرها مؤكدا على الأمن والأمان نعما واجبة للشكر لارتباطها الوثيق باستقرار وازدهار الدول، ومن هنا تحديدا يعبر إلى التاريخ «ولقد أثبتَ أبناءُ هذا الوطنِ العزيــزِ عبرَ العصورِ أنهم صفٌّ واحدٌ كالبنيانِ المرصوص يَسيرونَ على بصيرةٍ مصدرُها العقيدةُ السّمحةُ، نابذينَ كلَّ تعصّبٍ رافضينَ كلَّ استقطابٍ يُجزِّئُ الأمّةَ ويَفُتُّ في عَضُدِها مَتمسّكينَ بكلِّ ما يجمعُهُم على الحقِّ مُبادرينَ للخيرِ وثَّـابِـينَ لبناءِ وطنِهم وأمَّتِهم» هنا المبتدأ مع استدعاء التاريخ بتذكير أبناء هذا الوطن بماضيهم في الوحدة وأثرها على لمّ الشمل وتجاوز الفتن، ويكمل جلالته معززا ما سبق مؤكدا تقدير كل مرحلة من مراحل تاريخ عُمان على اختلافها لإسهام هذه المراحل دورها التكاملي البنائي في حضارة عُمان المعاصرة «أبناء عُمان الأوفياء، لقد حافظتْ بلادُنَا العزيزةُ على كَيْنُونَتِها كدولةٍ مستقلةٍ ذاتَ سِيادةٍ عبرَ العصور وقد تعاقبتْ عليها أنماطُ حُكمٍ عديدةٍ أدَّى كلٌّ منها دورَهُ الحضاريّ وأمانتَــهُ التاريخيّةَ وإننا نستذكرُ في هذا اليومِ الأغرِّ قادةَ عُمانَ الأفذاذِ على مرِّ التاريخِ قادةً حملوا رايةَ هذا الوطنِ ووحَّدوا أُمَّتَه وصانُوا أرضَه الطاهرةَ ودافعوا عن سيادتِه، ونحمِلُها من بعدهِم على الطريقِ ذاتِـه، معاهدينَ الله عزّ وجل ألا يُثنينا عن عزمِنــــا عــــزمٌ ولا تُشغِلُنا عن مصلحةِ وطنِنا مصلحةٌ تعضُدُنا في ذلك أمّةٌ مباركةٌ بفضلِ اللهِ مشرَّفَةٌ بدعاءِ نـبـيِّهِ الـكـريـم» ومن تتابع هذه المراحل إلى مرحلة دولة آل سعيد «إنّهُ لمن دواعي سُرورِنا وتكريمًا لأسلافِنا من السلاطين واستحضارًا ليومٍ مجيدٍ من تاريخِ عمانَ الحافلِ بالأيامِ المشرقةِ أن نُعْلِنَ في هذا المقام بأن يكونَ يومُ العشرينَ من نوفمبر من كلِّ عامٍ يومًا وطنيًّا لسلطنةِ عُمان وهو اليومُ الذي تشرَّفتْ فيه الأسرةُ البوسعيديّة بخدمةِ هذا الوطنِ العزيز منذُ العامِ (1744) ألفٍ وسبعمائةٍ وأربعةٍ وأربعينَ للميلاد على يدِ الإمامِ المؤسّسِ السّيِّد أحمدَ بنِ سعيدٍ البوسعيدي الذي وحَّدَ رايةَ الأمَّــةِ العُمانيــةِ وقـادَ نضالَهـا وتضحياتِهـا الجليلةِ في سبيلِ السّيادةِ الكاملةِ على أرضِ عُمان والحريّةِ والكرامةِ لأبنائِها الكرام وجاءَ من بعدِهِ سلاطينٌ عِظام حملوا رايَتَها بكلِ شجاعةٍ واِقتدار وأكملُوا مسيرَتَها الظافرة بكلِ عزمٍ وإصرار، وإن احتفاءَنا بهذا اليومِ إنما هو تخليدٌ لسِيَرِهم النبيلة ومآثرِهم الجليلة والتزامٌ أكيدٌ منّا بالمبادئ والقِيَمِ التي شَكَّلتْ نسيجَ أُمَّتِنا العُمانية نصونُ وحدَتَها وتماسكَها ونسهرُ على رعايةِ مصالحِ أبنائِها رافضينَ أيَّ مساسٍ بثوابتِها ومقدَّساتِها». لا يقف الأمر هنا بل يعود جلالته للتذكير قبل ختام خطابه السامي بربط التاريخ بالتحديات المعاصرة مذكّرا بقدرة عمان تاريخيا على تحدي العقبات وتجاوز الأزمات قيادة حكيمة وشعبا وفيا «أبناء عُمان الأوفياء: لم تكن التحدّياتُ يومًا عائقًا في طريقِ أسلافِنـا لتأسيسِ دولةٍ شهِدَ لها العالمُ بالسّيادةِ والرّيادة، ولن تكــونَ لنــا إلا دافعــًا للبناءِ على ما أسّسوا سائرينَ على هَدْيٍ من ثوابتِنا الحضاريةِ الراسخة، نتقدمُ بثقةٍ في سبيلِ الوصولِ بهذا البلدِ العظيمِ إلى مكانتِه الأسمى التي يستحق» ثم لا تقف عناية جلالته -حفظه الله- بالتاريخ مع إنهاء خطابه السامي كذلك بل تمتد إجرائيا في خطوة تعكس الحرص على إبراز العمق التاريخي والحضاري لسلطنة عُمان وربط الأجيال بماضيها العريق، لتأتي التوجيهات السامية بإطلاق أسماء قادة عُمان من الدولة البوسعيدية على مجموعة من الطرق الوطنية الرئيسية موزعة على مختلف محافظات السلطنة متخذة أسماء السلاطين: ثويني بن سعيد، تركي بن سعيد، فيصل بن تركي، تيمور بن فيصل، سعيد بن تيمور والسلطان قابوس، ولا ينبغي أن تقرأ هذه التوجيهات بأنها مجرد إنشاء طرق بل هي جسور معاصرة تفخر بماض تاريخي عظيم تأسس بالأعظم من التضحيات والأغلى من التضحيات، هذه الأسماء تسرد تاريخها لكل عماني وكل مقيم وكل زائر لبلاد تأسست ووضعت لتاريخها بصمة لا ينبغي أن تخفى.
ختاما: ما زال التاريخ مسرحا للتعلم ومنجما للخبرات، ليس استغراقا في كواليسه وقناعة بالماضي منه دون العمل، ولا في اجترار أمجاد عظيمة سلفت وعصور ذهبية مضت دون النهوض بدور حضاري معاصر استكمالا لأمجاد تاريخية سلفت، إنما تأمل تفاصيل التاريخ وسردياته ونقدها، ثم التدبر في تراتبية وحتمية نتائجه، انشغال الواعي بالتاريخ وعبره هو استقصاء المتدبر المستفكر الساعي لبناء منجز يعادل منجزات الأسلاف إن لم يتجاوزها سقفا وعزيمة، أما المُستغرق المغيّب الذي أسلمه ماضيه العظيم لدعة التفكير وتكاسل العمل فما هو إلا مثلبة التاريخ وكبوة المجد توثيقا وسردا، وهو ما أكده خطاب جلالة السلطان -حفظه الله ورعاه- مع عنايته بالتاريخ في خطابه السامي تعزيزا لوحدة المجتمع تحفيزا للعمل الوطني المخلص.
حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: هذا الوطن
إقرأ أيضاً:
الدولة اللبنانية والسّيادة: واقع وتطلّع: ورقة عمل في شراكة بين ملتقى التأثير المدني ومؤسَّسة كونراد آديناور
نشر "ملتقى التأثير المدني" ومؤسسة "كونراد آديناور - لبنان"، في إطار التعاون بينهما في مسار "لبنان وتحديات إصلاح السياسات: نحو رؤية متكاملة"، ورقة عمل بعنوان " الدولة اللبنانية والسيادة: واقع وتطلع". أعد الورقة الدكتور وجيه قانصو وصدرت باللغتين العربية والإنكليزية جاء فيها: "هذه السيادة، بالنسبة لبودان، هي جوهر خالص غير قابل للتجزئة، موجودة هناك دائماـ مثلما أن الله موجود. سلطة سامية أصيلة وأولى لا تأخذ شيئا من الغير ولا تخضع للغير بأي صلة تبعية. سلطة غير مسؤولة تجاه أي سلطة أخرى على وجه الأرض، ولا مفوضة من أي كان. سلطة لديها قوة سن القوانين للجميع، أي الأمر بما تريد أو النهي عنه دون أن يكون بالإمكان استئناف أوامرها أو حتى معارضتها. سلطة تمنع الآخرين من إقرار السلام وشن الحرب وجباية الضرائب وتأدية يمين الولاء بدون إذنها. سلطة تملك حق إكراه أي عضو من أعضاء الجسم السياسي، دون أن تكون قابلة للتعرض لأي إكراه إنساني خارجها. إنها سلطة تحتفظ لنفسها بالكلمة الأخيرة". أضاف: "لذلك، ورغم أن الدستور اللبناني مرتكز في خلفيته إلى الأصول النظرية لمفهومي الدولة والسيادة المتداولين في المجال الغربي، إلا أنه بهيكليته وصياغاته التشريعية مسكوب بذاتية لبنانية تشدد على الكيانية النهائية للبنان، وتتمسك بتركيبتها الاجتماعية، وتراعي هشاشة وحساسية مكوناتها الفرعية، وتتموضع في العالم على أساس الشرعية الدولية وموجبات الانتماء والهوية العربيين. كل هذا جعله دستوراـ يقوم على معادلة دقيقة وفي غاية الحساسية بين ذهنية شرق متروحن وذهنية غرب متعقلن، عقد اجتماعي وتضامنات عضوية، حداثة ليبرالية وأطر تقليدية صلبة، مبادئ كلية ومحددات جزئية". تابع: "ذكرت السيادة في موضعين في مقدمة الدستور، ما يجعلها تعبر عن روح الدستور ومبدأ أوليا ثابتا يشرط باقي نصوص الدستور ويفسرها . فقد نص الدستور على أن لبنان "دولة مستقلة ذات وحدة لا تتجزأ وسيادة تامة". هذا النص يستوفي كامل شروط السيادة، التي تشدد على أن الدولة كيان واحد لا يقبل التجزئة، وأن مساحة سلطته في إدارة شؤون الحياة العامة تامة وشاملة. كذلك فقد نص الدستور على أن "الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة يمارسها عبر المؤسسات الدستورية". وهو نص لا يلغي النص الأول أو يعارضه، بل يقع في طريقه، لجهة أن الدولة هي الكيان الذي يجسد إرادة الشعب ويجعله ملموساـ وظاهراـ، ما يجعل السيادتين: سيادة الدولة وسيادة الشعب واحدة. ولذلك أكد النص أن الشعب يمارس سيادته عبر الدولة حصراـ، بحيث تنتفي صلاحية أو سيادة أية مؤسسة أو كيان مدني أو أمني ينشأ خارج الدولة وبموازاتها، ويدـعي لنفسه صلاحية تمثيل أو التعبير عن الشعب أو عن جزء منه". أضاف: "مدار فعلية السيادة هو الواقع السياسي نفسه، الذي يتجلى في التضامنات والتحالفات وموازين القوى من جهة، وفي الممارسات والتأويلات والخطاب من جهة أخرى. فإذا كان الدستور حاسماـ في مبدأ السيادة، فإنه يبقى افتراضياـ لا يتحقق إلا بالممارسة والتقيد الصارم به في جميع مجالات الحياة العامة. ورغم أن الدستور مرجعية لأي شرعية أو معنى سياسي، فقد كان عرضة لسوء التفسير، وقابلاـ للتعطيل مع وجود موازين قوى تنزع إلى فرض عرف سياسي وتقديم تفسيرات مشوهة للسيادة، تكون بمثابة دستور رديف غير مدون لتوزيع لسلطة وممارستها. لنكون بالتالي أمام فجوة لا يمكن ردمها بين السيادة المفترضة دستورياـ من جهة وبين مجريات الواقع من جهة أخرى. يمكن القول أن الواقع السياسي في لبنان، منذ اتفاق الطائف، شكل انتكاسة لسيادة الدولة، التي تعرضت إلى سوء تفسير حيناـ، وتعطيل متعمد حيناـ آخر، تمثل ذلك بمستويات ثلاث: وصاية خارجية، خارجي، فائض قوة داخلي، عرف سياسي رديف للدستور ". وختم: "أخطر مقوضات السيادة هو خلق عرف سياسي رديف للدستور، يقوم على تفسيرات استنسابية ومشوهة للدستور وتتنافى مع روحه وثوابته. هذا العرف يصبح مع تكرار ممارسته بمثابة قاعدة أصلية بعدما كانت ثانوية، وثابتة بعدما كانت موقتة. ليصبح هو المرجعية في ممارسة السلطة وتوزيع الموارد بدلا من النص الدستوري نفسه. وهو ما حصل زمن الوصاية السورية، وحصل أيضاـ حين فرضت قوى الأمر الواقع فائض قوتها على ترسيخ عرف سياسي يكون بمثابة دستور رديف غير مكتوب، وغايته ترسيخ قواعد لعبة تعكس موازين القوى وسلطات الأمر الواقع ".