د. إسماعيل بن صالح الأغبري

 

المجد يدرك بالقنا الحساس // في كف مقدام شديد الباس

يرمي به نحر العدو فلا ترى // إلا الكمي يخر بين الناس

وحيث إنَّ عُمان قديمةٌ نشأةً، كبيرةٌ تاريخًا، عريقةٌ حضارةً، عَرَفت أنظمة حكم وتتابع دول؛ لاستقرار مُجتمعاتها ما أهلها لأن تكون دولة مترامية الأطراف، سيدة البحار والمحيطات، قادرة بسبب إرادة الشعب ووحدته ولحمته وروح انتمائه وقيادتها السياسية، على أن تدفع عنها كل باغٍ، وتذود عن حريتها، وتحمي جوهر سيادتها ودرة استقلالها.

اليعاربة ورتق ما انفتق، وجمع ما تفرق، وتقريب ما تباعد على يد المظفر الإمام ناصر بن مرشد اليعربي ومن بعده من آل بيته لم يهنأ له عيش، ولم يستقر له قرار وهو يرى أنواعاً من الليل الحالك يخيم على عُمان مهوى الأفئدة ومرتع الصبا ومحل النشأة الأولى.

إنَّ أسوأ أنواع الليل الحالك والظلام الدامس ما يكون من فرقة بين أبناء البلد الواحد؛ خصام وشقاق، وتدابر وتناحر بين الشعب ثم زعامات مُتعددة، ورئاسات ورؤوس كثيرة، كل منها يسابق غيره على السيادة، وحيث إنَّ الأرض لا تصلح سكناً ولها أكثر من قيادة كان لزامًا أن تكون القيادة بالعدل واحدة فاختار العُمانيون مخلصًا لهم من ليل الاحتراب الداخلي وهو الإمام ناصر بن مرشد اليعربي.

أدبر ليل الافتراق الداخلي والتحزب المقيت القبلي وولى تنازع السلطة وتعدد رؤوس إدارة الدولة إلا أنه بقي ليل حالك آخر، وهو المستعمر البرتغالي، فقد خيَّم على عُمان ما يقرب من مئة وخمسين عاماً، مستثمرا فرقة العُمانيين وتخالفهم فلما توحدوا توجس منهم خيفة، فكان ما منه المستعمر قد توجس؛ إذ شرع اليعربي وآل بيته من بعده في تخليص عُمان من تلك القوة الباغية عليهم. وحرب التحرير حق مكفول بالشريعة الإسلامية وبالمواثيق والقوانين الدولية، فتحقق للعُمانيين مطلب الحرية ورفع يد الأجنبي عن ديارهم، إلّا أنه بعد ذلك الوجه المُشرق من الانتصار على العدوين اللدودين العدو الداخلي؛ وهو الفرقة والانقسام، والعدو الخارجي؛ وهو الاستعمار، عاد العُمانيون القهقري، كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا، فأورثتهم تلك الفُرقة وتعدد الزعامات فيهم، أن جاءهم دخيل عليهم آخر، وطأ ديارهم وأرضهم مُستعمِرًا لهم والطامة الكبرى أنه تطاول عليهم واستباح حماهم بسبب طلب سيف بن سلطان الثاني لهم، حتى صار هو نفسه لا موضع قدم له في البلاد. وفي ذلك درس آخر وهو أن اللحمة الوطنية خير حامٍ للبلاد والعباد، وأن الشقاق بين أفراد الرعية شر عليهم أجمعين، وأن التآلف بين أفراد الشعب عاصم من قاصمة التشظي. ودرس آخر أيضًا وهو أن استدعاء القوى الأجنبية أو الاستنجاد بالأغراب وتهييجهم على البلاد وتزيين الطمع بها، كالذي يتراءى له السراب ماءً؛ فالأجنبي لا يؤوي معارضًا ولا يُتيح له وسائله الإعلامية، إلّا ليجعل منه شوكة يطعن بها خاصرة دولته، ثم يلقيه غدا كما يلقي الإنسان ورق المحارم إن انتهى من استعمالها أو العبث بها.

في ظل هذه الأوضاع وعودة التشرذم بين أبناء البلد الواحد وتعدد الزعامات السياسية، وبناء على أنه لا تحكم دولة إلّا برأس واحدة فقط، وحيث إن المستعمر بسط نفوذه على عُمان كان لزامًا على العُمانيين اختيار قيادة جامعة، وتخير فارس له مؤهلات إدارية وعسكرية، عرفه العُمانيون تاجرًا، له الأمانة سمة، والوفاء صفة كما عرفوه سياسيا ذا رأي وحنكة وتجربة وخبرة من خلال منصب (الوالي) على صحار، ومن كان واليًا في صحار أو نزوى آنذاك كان كأنه رئيس وزراء لمكانة المدينتين التاريخية والسياسية.

إنه التاجر ثم الوالي أحمد بن سعيد البوسعيدي مؤسس الدولة البوسعيدية جامع ما تفرق وراتق ما انفتق، مسقط رأسه أدم، ومركزه الإداري والسياسي قبل انتخابه إمام صحار.

اللحمة الوطنية ذخيرته في مواجهة عدو البلاد الخارجي آنذاك، وعدته في سبيل تحريرها، وبركانه الذي سيُعلن ثورته عليه، وزلزاله الذي سيطال الغريب الذي اجتاح البلاد بسبب سوء تدبير سيف بن سلطان الثاني.

أدرك الإمام أحمد بن سعيد أنه يستحيل التغلب على الأجنبي والصف الداخلي مبعثرًا، وكل يدعي الزعامة والرئاسة، فالدول إن أُديرت برأسين انقسم الشعب إلى فريقين.

نجح الإمام في مسعاه الداخلي، فأنهى حالة التشظي، وما خاب ظن من رشحه إمامًا على عُمان، فكان انتخابه في العشرين من نوفمبر عام 1744م، ولعله الوحيد من ولاة أمر عُمان من بويع البيعتين، فالثانية تأكيد للأولى أو أنها دليل على التسليم له والرضا به.

توجه الإمام إلى تحرير عُمان، فإن أمكن ذلك بالطرق السلمية فذلك هو المبتغى لما فيه من حقن لدماء الطرفين- وهذا الطريق قلما ينجح- لأن الغازي جاء ليستقر لا ليخرج، وعلى هذا شرع الإمام في وضع خطط التحرير، وأشهر كافة السبل المتاحة لدفع الغازي ومقاومته وهو حق تكفله شريعة الإسلام وكذلك كفلته فيما بعد مواثيق الأمم المتحدة.

لجأ إلى الحيل- وقد ورد أن الحرب خدعة- فأنشأ ميناء بركاء فأقبلت إليه السفن والبضائع والمراكب، فتسبب هذا الميناء في هجران تلك السفن موانئ مطرح ومسقط التي كانت بيد المحتل ما أضعف موارده المالية، ثم عمد إلى خدعة أخرى تمثلت في موافقته على دفع مبالغ سنوية للمحتل، إلّا أنه أخذ يُماطل في الدفع والتأخير من أجل إفقار المحتل وهو منه فعل جائز مشروع.

ثم كانت منه الوقعة الكبرى بالمحتل؛ إذ تمكن أولّا من عزل قيادات المحتل عن محيطها، ثم تمكن بعدها من الإيقاع بتلك القيادات حتى صار الجنود المحتلون بلا رأس مدبر، ولا قيادة يلجأون إليها فكان الانسحاب والفرار من عُمان والتحرير على يد الإمام البوسعيدي إمام عُمان أحمد بن سعيد.

حافظ الإمام على الهوية السياسية والأمنية لعُمان؛ لكنه أيضا لم يغفل عمّا يسمى بالأمن القومي للبلاد؛ لذلك أرسل ولده هلال في حملة بحرية لتخليص البصرة من حصار من كان مستعمرًا لعُمان.

إن ذلك لا يمثل عدوانا منه بعد تحرير عُمان، وإنما ذلك تأمين لتدفق ما تحتاجه عُمان من الواردات أو مما لها من الصادرات، فالأمن القومي لأي بلاد يقتضي منها التدخل ضد من يريد خنقها خارج حدودها، ولذلك نرى الدول تعبر المحيطات والقارات أو دولًا إقليمية تتدخل خارج جغرافيتها لحماية مصالحها الوطنية.

الهوية العُمانية في الميدان السياسي تتجلى في أن الإمام حرر بلاده من الفرس إلا أنه بعد التحرير وضمانه الأمن القومي لعُمان لم يدخل في تحالف مع العثمانيين أنداد الصفويين (الفرس) فهو حرر البلاد وكفى.

إن سياسة المحاور الكيدية ليست من سمات الهوية العُمانية في الميدان السياسي، وإنما هويتها تتمثل في إقامة أحسن العلاقات مع كافة الدول الإقليمية ما دامت رفعت يدها عُمان وجغرافيتها.

إنَّ مناسبة العشرين من نوفمبر عام 1744، والتي سوف تتكرر كل عام وقد مضى على حكم الدولة البوسعيدية 280 عامًا، تعني أنها أقدم أسرة حاكمة في الإقليم، كما تعني أقدمية عُمان في النشأة، وأسبقيتها في الوجود؛ فهي عرفت أنظمة حكم، وتعاقبت عليها إدارات سياسية، ولعل هذا يُفسِّر لنا جزءًا من المنهج السياسي الذي عليه ولاة الأمر بعُمان.

  

              

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

حماس: نجحنا في إبرام "صفقة وطنية"

قالت حركة حماس في بيان، اليوم الجمعة، إنه تم حل العقبات التي ظهرت في بنود اتفاق وقف إطلاق النار في غزة.

وأضافت: "بفضل المساعي الكريمة من الوسطاء، تم صباح اليوم حل العقبات التي نشأت بسبب عدم التزام إسرائيل ببنود اتفاق وقف إطلاق النار"، مشيرة إلى أنها سعت إلى صفقة تبادل وطنية، تشمل كافة فصائل وأبناء الشعب الفلسطيني.

مسؤول فلسطيني: حماس وافقت على "صفقة إذعان" في غزة - موقع 24وصف عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، أحمد مجدلاني، صفقة وقف إطلاق النار في قطاع غزة بأنها "صفقة إذعان" فُرضت على حركة حماس، نتيجة اختلال موازين القوى.

وأكدت الحركة أن قوائم الأسرى المفرج عنهم في المرحلة الأولى من صفقة التبادل، سيتم نشرها عبر مكتب الأسرى، وفقاً للمراحل والإجراءات المتفق عليها.

ويأتي ذلك، بعدما أعلن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، الجمعة، أن الحكومة الأمنية الإسرائيلية المصغرة وافقت على الاتفاق أخيراً.

ومن المتوقع أن تعقد الحكومة الإسرائيلية اجتماعاً للمصادقة النهائية على الاتفاق، ومن المقرر أن تنظر المحكمة العليا في التماسات ضد بعض عناصر الاتفاق، لكن دون أن تتدخل على نطاق واسع في تنفيذ الاتفاق.

مقالات مشابهة

  • أحمد بن سعيد يتوج هاتون بلقب «هيرو دبي ديزرت للجولف»
  • محافظ جنوب سيناء والمدير التنفيذي لبيت الزكاة والصدقات يسلمان جهازي تابلت لطالبتين مكفوفتين
  • بيت الزكاة يحقق حلم طالبتين مكفوفتين بطور سيناء بـ جهازي تابلت ناطق
  • البحرية السلطانية العُمانية تستقبل دفعة من الجنود المستجدين
  • "الصحة" تُثمِّن إسهامات "العُمانية لنقل الكهرباء" في التبرع بالدم
  • سلطان الوهيبي و"العُمانية للنطاق العريض" يحصدان جائزتين مرموقتين
  • أغلى إنسان.. أحمد سعيد عبد الغني يحيي الذكرى السادسة لوفاة والده
  • خطوات الزهد لتطهير القلب والوصول لرضا الله.. جمعة يوضح
  • حماس: نجحنا في إبرام "صفقة وطنية"