خط السكة حديد العسكري بين وادي حلفا وكرمة في سنوات المهدية (1884 – 1898م) (2 -3)
تاريخ النشر: 19th, January 2025 GMT
خط السكة حديد العسكري بين وادي حلفا وكرمة في سنوات المهدية (1884 – 1898م) (2 -3)
The Wadi Halfa – Kerma Military Railway, 1884 – 1898 (2 -3)
Richard Hill ريتشارد هيل
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذا هو الجزء الثاني من ترجمة لصفحات قليلة عن تاريخ إنشاء خط السكة حديد العسكري بين وادي حلفا وكرمة في عهد المهدية (1884 – 1898م)، وردت في الفصل الثاني من كتاب المؤرخ البريطاني ريتشارد هيل "المواصلات في السودان Sudan Transport، الصادر عام 1965م (صفحات 18 – 48).
لقراءة سيرة المؤلف وترجمة الفصل الأول من هذا الكتاب، انظر الرابط https://shorturl.at/3lb2o
المترجم
*********** ************* ***********
كان القرار المتعلق بإقامة نقطة على خط السكة الحديدية تبدأ منها الطرق ووسائل النقل الأخرى (railhead) عبر الصحراء النوبية نوعاً من المغامرة. فلم يكن ممكناً إجراء أي عمل مسحي للمنطقة، إذ أن "أبو حمد"، وهي الوجهة المباشرة للخط، كانت تحت سيطرة الدولة المهدية. ولا أحد يعلم شيئاً عن توفر الماء في الطريق، أوعن كميته أو نوعيته، وهل سيكفي لمقابلة احتياجات العاملين في إقامة ذلك الخط وتشغيل القاطرات. ولم يقرر كتشنر التوجه مباشرة نحو "أبو حمد" إلا بعد أن تأكد من عدم وجود أي بديل لذلك الخط. فبدأ باختبار طريق يبدأ من "كورسكو" إلى أبو حمد عبر "آبار ميرات Murrat wells "، وهو طريق أطول، وتتوفر فيه القليل من المياه، ولكنها من نوعية رديئة. وقام مهندسان ضابطان بريطانيان في أواخر عام 1895م بقيادة 200 من السجناء من صعيد مصر ببناء مخزن للسكة حديد في كورسكو، وإقامة سد embarkment (وهي جدران سميكة من التراب يتم بناؤها لحمل طريق أو مسار سكة حديدية فوق منطقة من الأرض المنخفضة، أو لمنع مياه النهر من إغراق المنطقة. المترجم) في الصحراء. غير أن السردار قرر بعد مرور عدد من الأسابيع إقامة الخط الحديد عبر الصحراء مباشرةً إلى "أبو حمد"، وإيقاف العمل في كورسكو.
لقد كانت مسألة اختيار القوة الدافعة (motive power) في تشغيل القاطرات (مثل الماء أو البخار أو غيرهما. المترجم) من الأمور التي شغلت بال كتشنر طويلاً. وكانت الحكومة المصرية قد استقدمت بروفيسور جورج فوربس Forbes في عامي 1897 و1898م للقيام بمسح شلالات النيل بغرض معرفة عما إذا كان بمقدورها توليد طاقة كهرومائية. وكان بروفيسور فوربس قد أقترح لكتشنر أن تتم كهربة الخط الذي يمتد على الصحراء بين وادي حلفا وأبو حمد، والذي لا يحتوي على مياه تقريباً، بالطاقة المولدة من نهر النيل. ولأسباب تقنية معقدة لا نود الخوض فيها هنا، لم يَتَبَنَّ كتشنر مقترح بروفيسور فوربس. كان الأمر ببساطة يتعلق بالتكلفة الرأسمالية النسبية للكهرباء مقابل البخار، إلى جانب الافتقار إلى معلومات عن الطاقة الكهرومائية الثابتة من جزء من النهر لم يتم بعد مسحه تماماً وبشكل صحيح.
وصَرَمَ المهندسون العسكريون الشهور الأولى من عام 1897م في توسيع التقاطع (junction)في وادي حلفا، وإقامة الخمسة وعشرين كيلومتر الأولى في الصحراء. ولا يمكن البدء جدياً في تشييد الخط حتى يكتمل خط سكة حديد كرمة. وعُيِّنَ البمباشي (الكندي) إيدوارد جيروارد Girouard مديراً للسكة حديد مع اثنين من البريطانيين هما البمباشي جي. بي. ماكولي Macauley (مساعداً للمدير) والبمباشي أي. سي. ميدونترMidwinter (مهندساً). وكلاهما سيغدو لاحقاً مديراً للسكة حديد، واحدا تلو الآخر.
وكان تشييد الخط الحديدي يتم تحت حماية عسكرية من الجيش المصري، والجنود العبابدة غير النظاميين، وكان العمل في تشييده يسير بأقصى سرعة ممكنة، وبأكبر قدر من الاقتصاد. وكان امداد الفرق العاملة في الخط الحديدي بالماء عملاً معقداً. وكان العبابدة الذين تمت استشارتهم في أمر المياه قد أكدوا للمهندسين أنه لا توجد أي مصادر للمياه على ذلك الطريق الصحراوي.
وأشارت الخطوط الكنتورية في موقعين يقعان على بعد 124 و203 كم، على التوالي، من وادي حلفا، إلى احتمال وجود مياه أسفلهما. وبالفعل حفر المهندسون ووجدوا ماءً في الموقعين (وقدا صارا لاحقاً المحطة رقم 4 والمحطة رقم 6، على التوالي). وفي 23 يوليو تم الوصول إلى قمة الخط، على بعد 166 كم من وادي حلفا وعلى ارتفاع حوالي 600 متر فوق مستوى سطح البحر، وهنا تم تحديد موقع المحطة رقم 5. ولمحاذاة اللفة الأخيرة في أبو حمد، أشار اثنان من المرشدين العبابدة إلى الطريق الذي أكد على صحة أدلة أجهزة قياس الزوايا الخاصة بالمهندسين بناءً على ما كان معروفًا عن خطي العرض والطول للمكان. وفي أوائل نوفمبر1897م، بلغ العمل نقطة على خط السكة الحديدية تبدأ منها الطرق ووسائل النقل الأخرى إلى وادي النيل ودخلت القرية.
وشملت الدورة التالية مد تشييد الخط الحديدي إلى مصب نهر عطبرة. وخلال شهر يناير 1898م نُقِلَ خط السكة الحديدية إلى الأمام على طول النيل إلى "أبو ديس". ودفعت الصخور على ضفة النهر المهندسين إلى مغادرة النهر وقاموا بجولة دائرية في الداخل، وعادوا إلى النيل عند العبيدية. وهنا أقيمت ورشة محركات صغيرة أخرى، وأُنْشِئَتْ مسارات جانبية وحوض بناء مؤقت على ضفة النهر. لقد كانت تلك من الأوقات العصيبة حقاً على موظفي إدارة المرور بالسكة حديد، حيث كان هناك تدفق مستمر للقطارات التي تحمل القوات والامدادات وكل لوازم الجيش إلى ساحات القتال في الجنوب بينما كانت أعمال البناء تتواصل. ونال القائمون على ما تم من إنجازات شهادات تقدير، وكان منهم الملازم البريطاني بيلاكني Blakeney، مدير المرور، والمصري محمد أفندي فاضل، مشرف المرور، الذي سوف يغدو لاحقاً قائداً لكتيبة السكة حديد المصرية. وتواصلت عمليات إنشاء خط السكة حديد جنوباً عبر بربر حتى وصلت للمحطة الأخيرة (مؤقتاً) عند مصب نهر أتبرا في يوم 3 يوليو 1898م.
ونُقِلَ البمباشي إيدوارد جيروارد لمصر لقيادة سكك حديد الدولة المصرية وذلك في يونيو من عام 1898م، وخلفه في منصبه بالسودان البمباشي ماكولي. وكانت العناصر العسكرية في مشروع إنشاء السكة حديد بالسودان تتكون من 34 مهندساً بريطانيا، وضباط صف، وسائقي قطارات، وبرادين، وسباكين، وعمال يقومون بوضع الخط الحديدي أو إصلاحه. وشملت العناصر العسكرية أيضاً كتيبة السكة حديد المصرية، كان منهم 33 ضباط أركان، وضباط إعاشة (يقومون على لوازم الجيش ومهماته)، و2,882 من ضباط الصف والجنود، كان منهم 210 رجلاً سبق لهم العمل في مد خط السكة حديد لكرمة، ولهم خبرة واسعة فيما يقومون به من أعمال. ونُظِمَتْ كتيبة السكة حديد على شكل سرايا للقاعدة (base)، والمرور، ووضع القضبان، والقاطرات والعربات، والبناء. وكان هناك أيضا عنصر غير بارز في العاملين في كتيبة السكة حديد، ألا وهي فئة المدنيين، وبلغ عددهم 444 فرداً، وكان من بينهم 59 فرداً يعملون في السكة حديد بكرمة.
وفي صيف 1898م اُعْتُبِرَ المعسكر المحصن في مصب نهر أتبرا لعدة أشهر هو المحطة النهائية للسكة حديد، وهو أيضاً نقطة إعادة الشحن (transhipment point) للبواخر التي كانت تنقل الإمدادات للجيش الإنجليزي- المصري المتجه نحو أم درمان. وكان ذلك المعسكر المحصن هو معسكر قاعدة الجيش بالنسبة لعائلات آلاف الجنود السودانيين في الكتائب المصرية، وما زال "معسكر أتْبَرَا" هو الاسم الذي يُطلق على جزء من المناطق السكنية لمدينة السكة حديد (على الأقل حتى منتصف ستينيات القرن الماضي، حين نُشِرَ هذا الكتاب. المترجم).
وفي أكتوبر من عام 1898م، وبعد معركة أم درمان (كرري) التي جعلت من الممكن مد خط السكة حديد جنوباً، أُقِيمَ جسر مؤقت من أكوام خشبية رُدِمَتْ على نهر أتبرا في وقت جفافه، ووُضِعَتْ كل مستلزمات إقامة الخط الحديدي والقاطرات وغيرها على الضفة الجنوبية للنهر. غير أن فيضان 1899م أزال ذلك الجسر المؤقت، مما استلزم بناء جسر دائم يكون جاهزاً للاستخدام في فصل الصيف. وكان الوقت ضيقاً. ووُضِعَتْ الأسطوانات الفولاذية التي تشكل الأرصفة أو دعامات الجسر بواسطة شركة Successori Impresa Industriale Italiana الإيطالية في الإسكندرية، وجُلِبَتْ أعمدة العوارض من شركة أمريكية اسمها Pencoyd Ironworks of Philadelphia (وقد بدأت هذه الشركة تعمل منذ عام 1852م وحتى الآن. المترجم). وبفضل الجهد الكبير الذي بُذِلَ، أصبح الجسر جاهزاً للاستخدام في الوقت المحدد.
ولتشغيل هذا الخط الجديد اُبْتِيعَتْ في عامي1897 و1898م 8 قاطرات من نوع Hunslet 2-6-2. وكان 4 منهما قاطرات بخار التكثيف condensing locomotives، إلا أن 3 فقط منها سُلمت فعلا للسودان. وكانت بكل قاطرة من تلك القطارات خزانات جانبية على شكل مكعب تقع على جانبي الغلاية، وتحمل الواحدة منها 5 أطنان من الفحم. وكان مع كل قاطرة عربة تموين قاطرات locomotive tender تحمل 3,000 جالوناً من الماء، ولا تحمل الفحم. وأُضِيفَتْ لتلك القاطرات غير المعتادة في عام 1897م خزانات جانبية من صنع شركة Dubs & Co. (وهي شركة اسكتلندية في غلاسكو. المترجم)، وكانت قد صُنِعَتْ في الأصل لسكك حديد حكومة ناتال Natal ، ولكنها حُوِلَتْ للسودان. وأضيفت أيضاً في عامي 1897 و1898م 8 عربات تموين قاطرات من نوع 4 -8 - 0 وكانت من صنع شركة اسكتلندية في غلاسكو تُسَمَّى Neilson Reid.
واكتمل في شهر مارس من عام 1899م تشييد 40 ميلاً من السدود embankment، ووصلت للسودان كذلك في تلك الأيام القضبان وعربات النوم. وبلغ خط السكة حديد مدينة شندي في يونيو؛ وصارت شندي هي مستودع القاطرات وبها رئاسة القسم الجنوبي لخط السكة حديد. واكتمل في أغسطس بناء الجسر على نهر أتبرا واُفْتُتِحَ لمرور القطارات. وكان تشييده قد تم في وقت قصير نسبياً، وظل قائماً في حالته الأولى إلى عام 1911م، حين تمت تقويته ليتحمل مرور عدد أكبر من القطارات. وتقدم بناء الخط الحديدي حتى بلغ الحلفايا في 31 ديسمبر من عام 1899م. وفي بداية يناير 1900م وصلت للخرطوم أو باخرة وأول قطار قادماً من مصر.
***** ***** *****
اسطول المهدية THE MAHDIST FLEET
كانت لثورة محمد أحمد المهدي عام 1881م ضد الحكومة المصرية في السودان تأثيرات قوية على الأسطول النهري المصري الذي حاول جاهداً، ودون نجاح كبير، الحفاظ على الاتصالات مفتوحة بين المواقع العسكرية المختلفة التي عزلتها تلك الثورة. وبحلول منتصف عام 1884م كانت الخرطوم محاصرةً بشكل كامل، وأُغْلِقَ النيلان أمام الشحن المصري في كل المناطق حتى دنقلا. واستولى أنصار المهدي على باخرتين هما "المسلمية" و"الفاشر" في بربر، والباخرة "محمد علي" في أعالي النيل، بينما تحطمت الباخرة "عباس" بشكل لا يمكن إصلاحه على صخرة ليست بعيدة عن محطة السكة الحديدية الحالية في "الكاب" الواقعة في خط سكة حديد كريمة، وقتل المناصير ركابها أو أسروهم. وكانت مدفعية قوات المهدية تتكون من مدافع كروب (Krupp field) والمدافع الجبلية (mountain guns) التي استولوا عليها من المصريين، وأغرقوا بها الباخرة "المنصورة" في منطقة المغاوير بالقرب من شندي قبل وصول الحملة الإنجليزية – المصرية إلى المتمة.
وفي الوقت نفسه، كان الجنرال الحازم غوردون، قد سلّح أسطوله الصغير في الخرطوم بالمدافع ودرّعه بألواح فولاذية وعوارض خشبية. وكانت السفن البخارية تُصَانُ من ميناء السفن الذي أنشأه غوردون بنفسه في عامي 1874 و1875م. وتحت نيران المدفعية، قام مدير حوض السفن المصري الماهر، واسمه حسن بيه زهران، بتجميع وإطلاق سفينتين أثناء حصار الخرطوم: الأولى اسمها "حسينية"، وهي سفينة بخارية صغيرة، لا يزيد حجمها عن حجم زورق، و "زبير"، وهي سفينة أكبر. ودخلت "حسينية"، في العمل مع بطاريات الشاطئ ولكنها أصيبت بقذائف أنصار المهدي وغرقت عند تقاطع النيلين. وكان غوردون قد أمر باستخدام حطام الباخرة رقم 9 من أجل الحصول على المواد اللازمة لإصلاح السفينة الأخرى.
في الأيام الأخيرة من الحصار، أرسل غوردون خمس سفن (هي البوردين Burdayn والمنصورة وتل الحوين والصافية والتوفيقية)، تحت قيادة محمد نوشي (Nushi) باشا، لمقابلة قوة بريطانية كانت تعبر بيوضة في محاولة لإنقاذ غوردون. وكان نوشي باشا يتوقع أن تبلغ النيل بالقرب من المتمة. وعندما وصلت القوة البريطانية إلى المتمة، صعد السير سي. ويلسون، قائد الحملة، إلى "البوردين" وقام بجولة استطلاعية باتجاه المدينة المنكوبة. وعندما وصل إلى توتي، على مرمى البصر من ساحة الحاكم العام، شاهد أن الخرطوم قد سقطت، فعاد أدراجه إلى المتمة. وفي طريق العودة سارت السفينة بسرعة كبيرة حول شلال السبلوقة، وتعطلت. وثم طفت مرة أخرى على السطح وقام أنصار المهدي لاحقاً بإعادة استخدامها.
وعندما عاد رجال الحملة البريطانية عبر بيوضة إلى دنقلا، رافقهم طاقم وقوات أسطول نوشي باشا، ولكن ليس قبل أن يغرقوا سفنهم ويعطلونها بفتح صمامات الإيقاف وإزالة الأقراص الدائرية اللامركزية (the eccentrics) من الآلات. وكانت قيادة نوشي باشا تتألف من قوات سودانية ومصرية؛ وكانت للرجل مواقف قيادية رائعة، حيث خاض قتالاً عنيفا تواصل لمدة أربعة في ظل حرمان وخطر كبير، وهي قصة رواها بكل تواضع وتبسيط في مذكراته.
وبسقوط / فتح الخرطوم في يوم 26 يناير 1885م، دانت لدولة المهدية السيطرة الكاملة على النيل من بربر وحتى الرجاف. وأفضى سقوط سنار في صيف العام التالي إلى تحرير قوات المهدي للنيل الأزرق حتى الروصيرص. وانسحبت القوات الإنجليزية المصرية إلى وادي حلفا وسواكن. وفي الإقليم الاستوائي في الطرف الآخر من السودان، كانت هناك باخرتان لمحمد أمين باشا هما "الخديوي" و"نيانزاNyanza "، ظلتا تعملان على نيل البرت Albert Nile ( وهو نهر يقع في شمال غرب أوغندا ويصبح بعد دخوله لجنوب السودان "بحر الجبل". المترجم) " لمدة أربع سنوات أخرى في مقاومة هجمات قوات المهدية تحت قيادة الأميرين عمر صالح ومحمد أبو قرجة اللذين تم إمداد قواتهما وتعزيزها من أم درمان بواسطة السفن التي تم الاستيلاء عليها من الأسطول المصري السابق.
وفي عهد الخليفة عبد الله حُوفِظَ على حوض بناء البواخر في الخرطوم في حالة عمل لا بأس بها إلى حد ما، وأُقِيمَ مستودع مؤقت للبواخر على الشاطئ في أم درمان، عاصمة الدولة المهدية. وهنا كان يقع بيت المال (وهو يمثل خزانة الدولة والترسانة والمخازن في مكان واحد). وتقع على "بيت المال" أيضاً مسؤولية إدارة كل البواخر وغالب القوارب الشراعية والمعديات. وبلغ عدد بقية المركبات الشراعية في سجلات الدولة المهدية بُعَيْدَ معركة كرري 519 مركبا. وكانت هناك أيضاً سجلات للمخصصات والخصومات.
وكانت هناك مجموعة صغيرة من العمال المهرة (الصنايعية/ الأسطوات) والملاحين من المصريين والنوبة يعملون في صيانة البواخر والقوارب تحت ظروف قاسية لا يمكن تخيلها. وكان من بين هؤلاء على سبيل المثال الأسطى عبد الله محمد والقبطان أحمد محمد الطويل. ولما لم تكن بحوزتهم أي قطع غيار جديدة (فقد كانت البلاد في حالة حرب)، فقد كانوا يقومون باستخدام ما يمكن استخلاصه من البواخر القديمة مثل "الحسينية" و"شبين". وبهذه الطريقة تمكنوا من تكوين نواة من البواخر الصالحة للعمل لمدة بلغت نحو 14 عاماً حتى نهاية عهد المهدية. لقد كان ذلك إنجازاُ مميزاً وإبداعاً ميكانيكيا رائعاً.
لقد كان الاسطول النهري المصري الذي غدا في أيدي أنصار المهدي في عام 1885م يتكون من 8 بواخر هي: " البوردين" و"الفاشر" و"الإسماعلية" و"محمد علي" و"الصافية" و"تل الحوين" و"التوفيقية" و"الزبير". وغير المهدويون اسم الباخرة "الزبير" إلى "الطاهرة"، وفي أواخر ذلك العام نقلوها إلى دنقلا للعمل في إدارة الدولة.
وفي يوم 11 يونيو من عام 1888م أُرْسِلَ الأمير عمر صالح بباخرة من أم درمان إلى أعالي النيل لانتزاع المديرية الاستوائية من الحاميات المصرية. وكان الأمير يقود جيشه على ظهر الباخرتين "البوردين" و "محمد علي". ثم انضمت له بعد وقت قصير الباخرة "الإسماعلية". ثم عُيِّنَ أمين بيت المال قائداً لتلك الحملة. وأغضب ذلك الأمير صالح وأشتكى للخليفة عبد الله (للمزيد يمكن النظر في مقال بعنوان: "الاستوائية بين نهاية المهدية وبداية الاحتلال الانجليزي للسودان". المترجم) (1)
وأرسل الخليفة حملة أخرى إلى أعالي النيل كان قائدها هو الأمير عربي دفع الله. تحركت الحملة على ظهر باخرتين من أم درمان في يوم 12 أغسطس 1893م (ربما كانتا "الإسماعيلية" و"الفاشر"). وأُرْسِلَتْ حملة أخيرة للجنوب في صيف 1895م كانت بالبواخر "الإسماعيلية" و"الفاشر" و"محمد علي". غير أن أعشاب النيل الكثيفة أعاقت مسيرة تلك البواخر. وكانت الباخرة "الفاشر" (التي ظلت تُسْتَخْدَمُ لأربعين عاماً على الأقل) تسير في رحلة العودة لأم درمان وهي محملة بالعاج عندما غرقت بما كانت تحمله من بضاعة في سدود النيل، وذلك في أغسطس من عام 1896م.
لقد أعطانا المدون السوداني القبطي يوسف ميخائيل فكرة موسعة عن بواخر المهدية، وعن رحلاتها وهي تحمل الجنود والمؤن، وأحيانا المساجين إلى فشودة. ففي إحدى رواياته، ذكر أنه بينما كانت باخرة "البوردين" في طريقها في أوائل صيف 1885م مع تعزيزات للجيش المهدوي الذي يحاصر سنار، انفصلت إحدى زوارقها المليئة بالأنصار، وأبحرت في النهر عائدة إلى أم درمان. وعندما رأى بعض سكان المدينة من غرب البلاد القارب العائم صاحوا: "وحاة الله والرسول، الكبك سافر خلى الوابور!" (2).
وكانت من أكبر عمليات نقل الأنصار بالمراكب هي عملية نقل رجال "التعايشة" وأسرهم من كردفان في آخر جزء من رحلتهم من الدويم إلى أم درمان في عام 1888م؛ وعملية نقل أكبر لجيش الأنصار بقيادة الأمير محمود ود أحمد عبر ذات الطريق النهري وهو في طريقه إلى أم درمان عام 1897م.
وذكر سلاطين باشا بعد هروبه من أم درمان في عام 1895م بأن دولة المهدية ما زالت تمتلك 7 بواخر في حالة لا بأس بها، على الرغم من أن آلاتها صارت قديمة، وأنها تسير في الغالب بنصف سرعتها المعتادة. وانتشرت صناعة المراكب، خاصة في "الجزيرة أبا". وكانت تلك البواخر التي أشار لها سلاطين هي: "الفاشر"، وقد أُرْسِلَتْ قبل فترة قصيرة للرجاف، و"الإسماعيلية" و"المسلمية"، و"الصافية"، و"الطاهرة"، و"التوفيقية" (في جنوب البلاد)، و"محمد علي" التي كانت تعمل في دنقلا. وفي ذلك الوقت كانت باخرة "البوردين" راسية للصيانة في أمدرمان.
وبدأ هجوم الجيش الإنجليزي – المصري ضد الدولة المهدية في مارس 1896م. وكانت أولى الخسائر في البواخر هي فقدان الباخرة "الزبير"، حين استولى عليها جيش كتشنر في منطقة دنقلا، والباخرة "الطاهرة" التي أغرقتها مدفعية الجيش الإنجليزي – المصري في منطقة "حفير". وكانت قوات المهدية بقيادة الأمير عربي دفع الله في حالة تراجع أمام الجيش البلجيكي الذي خرب الباخرة "محمد علي" بالقرب من بور. ولقيت الباخرة "الإسماعلية" نهاية بالغة العنف، فقد كانت تجر قبل ساعات قليلة من معركة كرري (في يوم 2 سبتمبر 1898م) لغماً صُنِعَ في حوض بناء السفن من غلاية محرك ثابت، وأنفجر اللغم قبل المدة المقررة، وتحطمت الباخرة التي كانت تحمله. وقبل أسبوع من ذلك الحادث كانت الباخرة "الصافية" تقصف الحملة الفرنسية في فشودة بقيادة ج .ب. مارشان Marchand، غير أنها صُدَّتْ. وعندما سيطر الجيش الإنجليزي – المصري على مدينة أم درمان لم يكن بها سوى الباخرة "بوردين" والباخرة "تل الحوين". ولم يقع أي اشتباك بين سفن الجيشين، ففي عام 1898م كان تفوق سفن البحرية في الجيش المصري ساحقاً.
وفي يوم 7 سبتمبر وصلت لأمدرمان الباخرة "التوفيقية"، ولم يكن من فيها يعلمون بأن المدينة قد سقطت. وأبلغ هؤلاء السردار بأن قوة "أجنبية" في فشودة كانت قد أطلقت نيرانها على باخرتهم. وبناءً على تلك المعلومات أمر السردار بتكوين قوة صغيرة مع أُسْطُول صَغِير مكون من باخرة للبريد اسمها دال (Dal)، وزوارق حربية (هي السلطان والفاتح والناصر)، وأضيف لها زورق آخر اسمه "أبو طليح" (والتي كان البريطانيون يكتبونها Abu Klea). تحرك ذلك الأسطول الصغير عبر النيل الأبيض في طريقه إلى فشودة. ووجد ذلك الأسطول في الضفة الشرقية للرنك "الصافية"، آخر بواخر المهدية، وهي في انتظار وصول التعزيزات لها قبل أن تتجه لمهاجمة الفرنسيين. وفتح بحارة "الصافية" النار على بواخر كتشنر. وكانت تلك محاولة رمزية لرجال شجعان لم يكن معهم سوى ذخيرة منتهية الصلاحية. ولم يكن لهم بالطبع أن ينتصروا على قوة تتفوق عليهم في العدد والتسليح. وأطلق الزورق الحربي "السلطان" قذيفة على "الصافية" فجرت غلايتها. وبذا استولت القوة البريطانية عليها.
********************
إحالات مرجعية
1/ تجد المقال في هذا الرابط : https://shorturl.at/Thheo
2/ لعل "الكبك" هو تسمية محلية للباخرة المذكورة، وأنها قد وردت في رسالة من أحد الأمراء للأمير يعقوب، بحسب ما علمته من خبيرين بتاريخ المهدية.
alibadreldin@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: السکة الحدیدیة الدولة المهدیة بین وادی حلفا خط السکة حدید الخط الحدیدی قوات المهدی من أم درمان محمد علی أبو حمد لقد کان فی حالة لم یکن فی یوم غیر أن ما کان من عام فی عام
إقرأ أيضاً:
خبراء إسرائيليون: استمرار مركبات حماس في غزة دليل على الفشل العسكري
#سواليف
وجه محللون وخبراء إسرائيليون انتقادات حادة للأداء العسكري لجيش الاحتلال والحكومي فيما يتعلق بالحرب على #قطاع_غزة.
ووصف المحلل العسكري نوعم أمير استمرار وجود مركبات عسكرية تابعة لحماس في القطاع بعد أكثر من عام بالفشل العسكري الإسرائيلي.
فيما أشار المحلل عميحاي ستاين من قناة i24 إلى أن الصور الواردة من غزة تؤكد فشل إسرائيل في خلق بديل حكومي لـ #حماس.
مقالات ذات صلة ارتفاع عدد شهداء غزة جراء القصف الإسرائيلي إلى 10 2025/01/19من جانبه، أكد الباحث مايكل ميلشتاين أن الحديث عن “اليوم التالي” غير مجدٍ، لأن حماس ما زالت تسيطر على الوضع بشكل واضح.