أشرف غريب يكتب: السؤال المباغت والإجابة اليقينية
تاريخ النشر: 19th, January 2025 GMT
سألني أحد الأصدقاء سؤالا مباغتا عن الشعر والموسيقى وأيهما له العظمة والصدارة؟ وذلك على خلفية مقال قديم وقع في يده بالصدفة يحمل توقيع الشاعر الكبير فاروق جويدة، يستذكر فيه نقاشا جمع بينه وبين موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، تمحور حول السؤال ذاته: أي الفنون أعظم.. الشعر أم الرسم أم الموسيقى؟
يومها قال جويدة لعبدالوهاب إنّ فن الموسيقى هو الأعظم، متصورا أنّ هذا القول سوف يلقى هوى في نفس موسيقار كبير بقيمة محمد عبدالوهاب، لكن موسيقار الأجيال فاجأه برأي مخالف مفاده إنّ الشعر هو الأعظم لأن في البدء كان الكلمة، وأنّ الشعر هو أبو الفنون، وهو ديوان الأمم والشعوب، لا سيما أمة العرب، وفيه الموسيقى من خلال الأوزان والتفعيلات، وبه الرسم عن طريق التصوير البليغ الذي قد يفوق أعظم الرسامين.
المدهش في الأمر أنّ أيا من الرجلين (جويدة وعبدالوهاب) لم ينحز للفن الذي أبدع فيه وأخلص له بل وأفنى فيه عمره، وإنما رجّح كفة اللون الآخر من الإبداع، مدافعا بحيادية تامة ودون تأثر عن وجهة نظره المجردة من الميل الشخصي.
وقد أحيت هذه المساجلة بين جويدة وعبدالوهاب في نفسي السؤال ذاته الذي فاجأني به الصديق العزيز، ووجدتني أنحاز لوجهة نظر فاروق جويدة التي ترى أن الموسيقى هي أعظم الفنون، ليس فقط لأنها -كما قال الشاعر الكبير- لغة عالمية تخاطب الوجدان البشري في كل زمان ومكان، بعكس الشعر الذي يحتاج إلى لغة مشتركة بين المبدع والمتلقي كي تؤتي الكلمة أثرها ويصل معناها للناس.
أو اللوحة التشكيلية التي قد تحتاج إلى مفسر لما يقصده مبدعها، لا سيما إذا كانت سريالية تجريدية عبثية أو ميتافيزيقية أو شيئا من هذا القبيل، فضلا عن طبيعة متلقيها من صفوة المثقفين والمتذوقين، وإنما أيضا لأن الموسيقى إبداع خالص، خلق من عدم.
فالشعر هو استحضار من المبدع لحصيلته اللغوية وإعادة صياغتها وفق قواعد وأسس معينة تراعي حُسن البيان وجرس الموسيقى كي تعبر في مصنف جديد عن خاطرة أو فكرة بعينها، لكنه في النهاية يستند إلى كلمة موجودة بالفعل لأن في البدء كان الكلمة، وإلى مواقف حياتية مر بها أو سمع عنها من تجارب الآخرين.
ولا شك أيضا في موهبة الرسام وقدرته الإبداعية، لكنه بالأساس يستخدم ألوانا من صنع الطبيعة يحاكي بها كذلك شيئا له مثيل في الطبيعة حتى لو كان يعبر عن مكنون بداخله، ومهما استعصت اللوحة التشكيلية على متلقيها فهي في النهاية خطوط وألوان وظلال وكتل وفراغات أعيد تشكيلها وصياغتها وفق وجهة نظر مبدعها، ثم إن الطفل الصغير يستطيع أن يرسم دون معلم، وقد يحاول نظم الشعر حتى ولو بصورة بدائية.
أما الموسيقى فالأمر يختلف تماما، نعم الكون كله بجميع كائناته قائم على الموسيقى، لكنك لا تسمع الكروان يغرد مثلا من مقام «دو ماجير» عند الغرب، أو العصفور يزقزق من مقام «الراست» عند الشرق، أو عن طفل أجاد العزف والتأليف الموسيقى بالسليقة دون معلم إلا فيما ندر بين النوابغ والفلتات.
الموسيقى -كما أراها- إبداع خالص من العدم يخص صاحبه، ولا يتشابه فيه مع غيره إلا إذا قصد التقليد، والموسيقار حين يجلس إلى آلته الموسيقية لا يستدعي من ذاكرته لا كلمة يعرفها ولا صورة رآها، ولا نغمة سمعها من الطبيعة، وإنما يترك روحه الخلاقة تقوده إلى أنغام لم يكن يعرف عنها شيئا قبل الجلوس إلى آلته.
بل إن هناك عباقرة موسيقيين يكتبون موسيقاهم على الورق مباشرة دون الحاجة إلى آلة موسيقية، وأفذاذ منهم -كبيتهوفن في سنواته الأخيرة- لا يستمعون حتى إلى ما يبدعونه، ثم أنت في النهاية أمام مصنف إبداعي لا شبيه له في الحياة قادر على توحيد الوجدان الجمعي والتأثير فيه ومخاطبة كافة أجناس البشر في كل زمان ومكان، وأنت في كل الأحوال تستطيع أن تستغني عن الشعر أو الرسم، لكنك أبدا لا يمكنك العيش بلا موسيقى حتى بمعناها البسيط، وأذكر أنني يوما سألت الموسيقار عمر خيرت: هل تصورت الحياة بلا موسيقى؟ فكان جوابه: لن تكون حياة.
وكان الفنان حسين بيكار متعدد المواهب يقول إنه يقتات من الرسم، وكلماته لا تخلو من الصنعة والتصنع، أما جلوسه إلى آلته الموسيقية (كان يجيد العزف على البوزق) فهي اللحظة الوحيدة التي يخلو فيها إلى نفسه بمنتهى الصدق من دون الحاجة إلى فنون الحرفة ومتطلباتها، فيما كان المبدع صلاح جاهين -متعدد المواهب هو الآخر- يقول إن انحيازه للرسم راجع إلى تميزه فيه، لكن ربما لو كان قد فلح في تعلم الموسيقى تعليما حقيقيا لفضّلها على كل ما حباه الله من مواهب.
المصدر: الوطن
إقرأ أيضاً:
د.حماد عبدالله يكتب: " نصف مصر " الذى لا يعرفه المصريون !!{2}
فى حديثى أمس عن حتمية الإتجاه غربًا !! أى الإتجاه إلى وادينا القديم !! نعم إسمه الحقيقى "الوادى القديم"، حيث كان هو الأهم من حيث البنيه الأساسية مثل طرق التجارة العالمية والمدن المنشأه على طوله من الجنوب وحتى شمال البلاد فى سيوة، حيث كانت البلاد المعروفه بطيبة ( الأقصر ) (ومنف) الجيزة، " وهليوبوليس "، جنوب الدلتا وشمال القاهرة، كل هذه المدن كانت تقع وسط " احراش "من فيضان النيل الذى كان يغطى كامل مسطح وادى النيل شمالًا وجنوبًا، وكانت " ترتع فيه التماسيح "، فكانت الطرق المحميه بالطبيعة هى تلك المارة بواحات مصر الغربية، لذا هو " الوادى القديم " أما " وادينا الجديد " فى الحقيقة هو وادى النيل وما نراه ونعيش فيه وعليه اليوم.
أما الإطلاق لإسم " الوادى الجديد " على " واحات مصر الغربية " فكان ( مجازًا ) للمستقبل كما ( أطلق عليه ) زعيمنا العظيم الراحل "جمال عبد الناصر" !!
ظهرت كل عناصر النجاح بعد الإهتمام بالتنمية فى الوادى، وصدَّر الوادى الجديد لمصر، وللعالم (البطيخ النمسى) والأزر المصرى الممتاز والمعروف فى العالم كله، والفول والعدس، والذرة والقمح وكما قلت أمس كانت باكورة إنشاء المصانع التى تقوم على الزراعة وتوقفت برامج التنمية والإهتمام بالوادى نظرًا لظروفنا مع الإحتلال الإسرائيلى لشبه جزيرة سيناء، " ولخدش " الكرامة الوطنيه، والإصرار المصرى على رد تلك الكرامة مهما كان الثمن، فتوقفت برامج التنمية، وبعد إنتصار أكتوبر كان الإهتمام بالوادى إهتمام يكاد يكون شبه منعدم !!حيث إتجه الإقتصاد إلى الغرب، إلى ما سمى بالإنفتاح والإستيراد فكانت عوامل الإقتصاد هو الحصول على توكيلات أجنبيه لكل المنتجات الإستهلاكية، من طعام ومواد إستفزازيه فى الغذاء، مع الإهتمام بأن يعيش المصريون حياة البذخ، الغير مسنود على موارد حقيقية حيث لا إنتاج، ولا زراعة، ولا صناعة، وأصبح القطاع العام الذى بناه "جمال عبد الناصر" طيلة سبعة عشر عامًا، مجالًا " للنهب والتربح " من ذوى السلطة والمحسوبية، وظهر إقتصاد يقوم على العمولات، وإنتهى إقتصاد القيمة المضافة، فأصبحنا نُصَدِرْ الخامات، ونستوردها مصنعه، ففقدنا أهم شيىء فى حياتنا وهى الرغبة فى العمل، وإهتم الإقتصاد بالسمسرة والعمولات، وجلب البضائع المستفزة لعامة شعب مصر، ولكن كان النصر الذى أحرزته القوات المسلحة المصرية فى أكتوبر 1973، وتلاحم الشعب مع قواته المسلحة، والإحساس بعودة الكرامة المصرية، بل الكرامة العربية هى التى تتوج الموقف المصرى فى جميع مجالات الحياة السياسية، ورغم الخطأ العظيم الذى وقع فيه الرئيس "السادات"، وهى حربة المعلنة على حقبة زعامة "جمال عبد الناصر" ( سرًا ) وفى العلانية فهو سيمشى على ( خطى جمال عبد الناصر ) هكذا قال أمام مجلس الشعب، وخرجت النكتة المصرية لكى تستكمل الجملة (بالاستيكة !! ) وكان تشجيعه للجماعات الإسلامية للوقوف ضد ماكان يطلق عليهم أصحاب "قميص عبد الناصر"، وإستفحل الأمر، فأخرج الإخوان للحياة السياسية ودعمهم بكل الوسائط فى مؤسسات الدولة وخاصة الأجهزة الأمنية إلى أن أغتالوه فى يوم عمره كله، يوم نصره، يوم عزته وعزة "مصر" كلها، يوم 6 أكتوبر 1973، أغتيل وهو يستعرض قواته المسلحة، شامخًا وسط جنوده، وإذ بأحدهم أو ببعضهم يقتلوه لكى ندخل فى نفق أخر من نظام حكم بدء مساء 23 يوليو 1952وتوالى على قيادته زعامات إعتنقت سياسات للأسف مختلفة عن بعضها البعض فكان ما وصلنا إليه !! وللحديث بقيه.........
[email protected]