لقنتنا غزة الكثير من الدروس، على مدار أكثر من أربعمائة وسبعين يوما كانت مدرسة مفتوحة لمن يطلب، علمتنا أولاً كيف نضع نقطة في آخر سطر كل يوم يمضي، علمتنا كيف نسرف في البذخ واجترار الألم والوجع الرقيق حرصاً على جعل النموذج كاشفا ومرئيا أمام كل من يرى ويسمع، علمتنا فنّ وقْف الجدل البيزنطي والتفرغ للتصدي لجيش القتل والإبادة.
من السطر الأول وحتى الأخير، استماتت غزة في تعليمنا، علمتنا فنّ حب البقاء، رغم أن كل ما يوسوس في أذنها ليل نهار يقول بملء الفم أن لا شيء يستحق البقاء، وأن كلفة البقاء تعني الخوف من الحياة وعليها.
علمتنا غزة إعادة صناعة المصطلحات، صناعة معنى الصمود وممارسته واقعياً، لقد أعطته المرادف العملي الذي يفصله عن العراك المعروف بين النظرية والواقع، أبعدت معنى الكلمة عن الشعار وفرزته عن استخدامه الممجوج في الخطابات وحاجاتها الفارغة، ليعبر عن الآمال العريضة لمن يكتوون بنيران الموت والنزوح والجوع والقهر والوداع، علمتنا المعنى الشامل للأنفاق التي تنتهي بالنور.
علمتنا غزة، أن نحمد الله على مصائبنا قبل النوم وبعده، أن نحمده على موتنا ونشكره على كل لقمة مغمسة بالدم، علمتنا أن نحلم وكيف نحلم وبماذا نحلم، علمتنا أن المِحَن قد تتمخض عن الأفضل، لأن الله يختار لنا دائما ما هو أفضل.
علمتنا غزة معنى التجارب العميقة التي تترك آثارها على جلودنا، علمتنا صناعة الأمل واحتمال العتمة وشقها، أن نغني للألم وأن نضحك على انفسنا بشيء من الرجاء وقليل من الأوهام الهاربة، علمتنا بتفاصيل صغيرة صناعة أعجوبة اسمها الفرح مهما كان زائلاً وفانياً وصغيراً وحتى تافهاً.
علمتنا غزة بمساحتها الصغيرة وأمانيها العريضة أن الإخفاق والفشل ممنوعان علينا،
علّمت غزة العالم كيف يتضامن، علمته الإرادة والشجاعة والبأس، بل انتزعته بضعفها انتزاعاً، حاججت غزة العالم بأصل الرواية، علمتهم الأخلاق والقيَم والمُثُل السامية، قالت إن مكانة القوانين في قدرتها على صناعة العدل والتغيير في الممارسة والأفعال والنأي بها عن التحنيط والتعليب، وأثبتت أن فشل المنظومات الدولية لحقوق الإنسان حين لا يكون لها آذان تسمع الصراخ، ولا تمد يدها لإنقاذ مستغيث.
علمتنا غزة بمساحتها الصغيرة وأمانيها العريضة أن الإخفاق والفشل ممنوعان علينا، وأن على قدر الأماني والتوقعات تُبنى الأماني والتطلعات، مهما كانت يدها قصيرة، بتمكنها من صناعة أبطال الرواية الدرامية وامتنعت عن تصوير البطولة الحصرية بشكل غير اعتيادي أو مألوف لقصة غير اعتيادية، ولا عابرة، من أجل تمكين الأبطال التناغم مع إيقاع حياتها ويومياتها العاصفة، فحصلنا على مشهدية أكثر حياة من جميع المدن، وكانت على قدرها وأكثر.
غزة قالت ما تريد بمرونة، قالت الكلمات التي يجب أن تقولها بوضوح أكبر وسماعها أكثر، والتجمت عن قول جميع ما يجب أن يُقال ونحتاج إلى سماعه أكثر، لم تعلن انتصاراً أو هزيمة، لكنها انتصرت بكل قوتها على الأقنعة السطحية عن حياة زائفة تحت الاحتلال، ووضعت المقاييس المفتاحية للأداء وفرزت الوهمي عن الحقيقي، وكانت عدسة كاشفة عن كل عيوب العالم ولا مبالاته ورفعت الغطاء عن جميع السلوكيات الوضيعة.
نحتاج إلى المزيد من دروسك وخبرتك يا غزة، قولي ما يجب أن يُقال بمبادئك المنهجية، فلا يزال بجعبتك الكثير منها: عن الطريق إلى التحلي بالصبر والإيمان ومقاومة اليأس والإحباط من مبتدأ الجملة حتى خبرها، ولم تديني بما فعلت لأحد، تكلمي عن اختيارك الغوص عميقا دون حساب أو خط رجعة.
الأيام الفلسطينية
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه غزة الصمود الاحتلال غزة الاحتلال المقاومة الصمود مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة عالم الفن سياسة سياسة رياضة سياسة مقالات سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة علمتنا غزة
إقرأ أيضاً:
«حماس»: جاهزون سياسيا وميدانيا لتنفيذ المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار
فى ظل الحديث عن مراحل اتفاق غزة التالية، قالت حركة حماس الفلسطينية إنها جاهزة سياسياً وميدانياً لتنفيذ بنود المرحلتين الثانية والثالثة من اتفاق وقف إطلاق النار، مضيفة فى بيان لها، أمس، أن السبت المقبل سيتم إطلاق أعداد من الأسرى المحكوم عليهم بمدد سجن كبيرة، لافتة إلى أن طلب مضاعفة أعداد المحتجزين الذين سيتم إطلاق سراحهم تمت الاستجابة له من قِبل الوسطاء لإثبات جديتنا فى تنفيذ بنود الاتفاق كافة.
وفى المقابل، قالت هيئة البث الإسرائيلية إن محادثات المرحلة الثانية مع حماس تبدأ مع وصول المبعوث الأمريكى ستيفن ويتكوف إلى إسرائيل، فيما أعرب يائير لابيد، زعيم المعارضة الإسرائيلية، أمس، عن تخوفه من فشل الحكومة فى المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار بقطاع غزة، بسبب تهديدات وزير المالية الإسرائيلى بتسلئيل سموتريتش بالاستقالة.
وأضاف «لابيد» أن حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو مسئولة عن أكبر كارثة فى تاريخ إسرائيل بعد تسببها فى أضرار للأمن والاقتصاد والسياسة ولن نكف عن محاولة إسقاطها، مؤكداً أن على الائتلاف الحكومى أن يفهم أن الحرب أداة لمسار سياسى وليست هدفاً، مضيفاً: «يجب ألا نترك محتجزينا فى غزة، ويجب المضى قدماً فى المرحلة الثانية من الاتفاق».
من جهة أخرى، أفادت وسائل إعلام إسرائيلية، نقلاً عن مسئولين أمنيين، بأن الجيش يستعد لعدد من السيناريوهات، وصدَّق على خطط دفاعية وهجومية فى غزة، فيما قالت عائلات المحتجزين فى قطاع غزة إن حياة العشرات من أبنائهم ستتعرض للخطر حال عدم تنفيذ المرحلة الثانية من صفقة التبادل، تزامناً مع تقديم النيابة العسكرية الإسرائيلية لوائح اتهام ضد 5 جنود احتياط بسبب انتهاكاتهم الخطيرة فى معتقل «سديه تيمان»، ونقلت وسائل إعلام إسرائيلية عن النيابة العامة فى تل أبيب أن المتهمين الخمسة مارسوا انتهاكات بحق معتقل فلسطينى فى معتقل سديه.