محمد مجدي يكتب: زيارة لرجال «المهام المستحيلة»
تاريخ النشر: 18th, January 2025 GMT
«تضحية.. فداء.. مجد»، ليست شعارات لرجال قوات الصاعقة المصرية، ولكنها عقيدة محفورة في قلوبهم، لمستها بنفسي أكثر من مرة خلال زياراتي المتكررة إلى شبه جزيرة سيناء خلال سنوات الحرب على الإرهاب؛ فتجد «فدائيين الصاعقة» متأهبون، جاهزون للتضحية بأنفسهم، ولا أنسى ما شاهدته بعيني خلال «العملية الشاملة سيناء 2018»، وما تلاها من أحداث، أو ما يرويه أبطال الصاعقة عن زملائهم، ممن افتدوا جنودهم ورجالهم بأرواحهم.
وكانت وظيفتي كمحرر عسكري لجريدة «الوطن» أن أنقل ما يدور بصدق للمصريين، وهو ما لمس قلوبهم ووجدناهم، سواء من خلال ما كتبناه عن أبطال قواتنا المسلحة الباسلة، أو من خلال الأعمال الدرامية التي أنتجتها الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، بالتعاون مع إدارة الشئون المعنوية للقوات المسلحة، مثل مسلسل «الاختيار».
توجيهات رئاسيةلكن الأمر كان مختلفًا تلك المرة؛ فالرئيس عبدالفتاح السيسي، رئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلحة، أراد أن ينقل نبض رجال «المهمة المستحيلة» للشعب مباشرة؛ فوجه القيادة العامة للقوات المسلحة بتنظيم زيارات ميدانية للوحدات العسكرية، ومن بينها زيارة للمحررين العسكريين المعتمدين والمؤثرين وطلبة الجامعات إلى قيادة قوات الصاعقة، والتي نظمتها إدارة الشئون المعنوية، وشرفت بالمشاركة فيها.
فبخلاف حفاوة الاستقبال المعتادة للواء أركان حرب محمد أبو الفتوح، قائد قوات الصاعقة، ورجاله؛ إلا أنها المرة الأولى التي يُشاهد فيها العشرات من طلاب الجامعات عن قرب، أبطال القوات الخاصة في جيشنا الأبي، وحرصت على الحديث مع الطلاب قبل بداية الزيارة، وذات الطلاب بعدها لألمس تأثير تلك الزيارات عليهم.
خير أجناد الأرضمحمد عبدالمنعم، الطالب في كلية الحقوق بجامعة بنها، كان متفائل بالزيارة قبل بدايتها، مؤكدًا أنه يحب روح المغامرة، ولكنه لم يخف خوفه من المستجدات الإقليمية والدولية، وبعد الزيارة قال إن الخوف لم يعد له مكان في القلب؛ فقد لمس على أرض الواقع لماذا قال الرسول الكريم إن «جند مصر هم خير أجناد الأرض».
هتافات الطلابقد تتسأل قارئنا العزيز عن سر حديث طالب ما يزال في السنة الثالثة من دراسته الجامعية عن الاطمئنان «بعدما شاهده».. وهنا يأتي دوري؛ فقادة الصاعقة؛ قالوا للطلاب إنه لا فارق بين رجال القوات الخاصة وبعضهم البعض؛ فالجميع «فدائي»، يحاربون إلى جوار بعضهم البعض، ويفدون أنفسهم بأرواحهم، وهو ما لمسوه بأنفسهم خلال مشاهدة تدريبات القوات، والذين نفذوا بيانًا عمليًا يماثل العمليات التي نفذوها على أرض الواقع؛ حيث ظهروا من «اللامكان» لينقضوا على أعداء الوطن، وهنا تعالت صيحات وهتافات الطلاب دعمًا لأبطال قواتنا المسلحة الباسلة.
وخلال تنقل الطلاب، شاهدوا بأنفسهم التجهيزات الحديثة، التي يمتلكها رجال الوحدات الخاصة المصرية، وهو ما قالت عنه لجين عبدالرحيم، الطالبة في كلية الإعلام بجامعة النهضة، إنها لم تكن تتصور أن قوات الصاعقة بتلك القوة والحداثة، مضيفة: «كنت مفكراها (بروباغندا)، لكنني فخورة بما شاهدته».
وخلال تجولنا في مجمع ميادين التدريب القتالي لرجال الصاعقة، استوقف يوسف أحمد، الطالب في كلية الحاسب الآلي بجامعة النهضة، وجود عدد من المقاتلين غير المصريين، ليستفسر من رئيس أركان قوات الصاعقة، الذي كان يسير إلى جوار الطلبة للإجابة عن أية استفسارات لهم، ليوضح أنهم عدد من العسكريين الوافدين من دول عربية وإفريقية وآسيوية قدموا إلى مصر للاستفادة من خبرة مصر القتالية، ونجاحتها في دحر الإرهاب، ما رسم البسمة على وجه طالب الصف الأول الجامعي.
أما أبرز ما استوقف كريم حلمي، الطالب في كلية التجارة بجامعة بنها؛ فكان إجابة من قائد قوات الصاعقة نفسه عن تساؤل من الطلاب؛ فحين قال له أحد الطلبة: «حضراتكم بتعملوا كل ده عشان مصر.. ايه المطلوب منا»؛ فما كانت الإجابة إلا ضرورة الاجتهاد في الدراسة والعمل بإخلاص في مجالهم عقب التخرج، والتمسك بـ«الاصطفاف الوطني»، ليكونوا داعمين عن قناعة ووعي لمسيرة الأمن والأمان والاستقرار والتنمية.
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: إدارة الشئون المعنوية توجيهات رئاسية القوات الخاصة المصرية قوات الصاعقة قوات المظلات معركة الوعي محمد مجدي القوات المسلحة المصرية الجبهة الداخلية الاصطفاف الوطني قوات الدفاع الشعبي قوات الصاعقة فی کلیة
إقرأ أيضاً:
إبادة دارفور التي لم تنته مطلقا
ها هو فصل جديد من الأهوال تتكشف صفحاته في منطقة دارفور بالسودان، منطقتي.
ففي الثالث عشر من أبريل، استولت قوات الدعم السريع ـ وهي جماعة مسلحة مدعوة من دولة عربية ـ على مخيم زمزم وهو أكبر ملاذ للنازحين في السودان. وبوصفي نازحة وناجية من الإبادة الجماعية، فقد تشبثت بهاتفي أشاهد الفظائع عبر مقاطع فيديو مشوهة، محاولة أن أساعد من بعيد في إجلاء الناجين وتدبير الطعام لهم والماء والدواء، وتعقب الموتى منهم أو الأحياء.
على مدى سنتين، ظلت قوات الدعم السريع في حرب مع القوات المسلحة السودانية، أي الجيش السوداني الرسمي المدعوم من المملكة العربية السعودية وتركيا ومصر وإيران وروسيا.
عادت العاصمة السودانية الخرطوم ـ بعد خضوعها طوال شهور للنهب والعنف الجنسي في ظل احتلال من قوات الدعم السريع ـ إلى سيطرة القوات المسلحة السودانية، لكن في موطني، أي شمالي دارفور، توشك الفاشر على الوقوع في أيدي الميلشيات شبه العسكرية.
وفي حين تواصل الجماعتان القتال، والفوز بالأرض وخسارتها، يبدو أن الثابت الوحيد هو أن المدنيين السودانيين يتحملون عناء الانتهاكات.
والناس من أبناء دارفور يتذكرون جيدًا هجمات مطلع القرن الحالي المعترف في عام 2003 بكونها إبادة جماعية والتي تحقق فيها المحكمة الجنائية الدولية. ولقد حذر خبير منع الإبادة الجماعية الأممي والولايات المتحدة من أن الإبادة الجماعية جارية تارة أخرى.
وفي رأيي أن إبادة دارفور الجماعية لم تنته قط. ولو أن التطهير العرقي الذي جرى في الجنينة سنة 2023 وحصار الفاشر وإحراق عشرات القرى خلال الأشهر القليلة المنصرمة ليس بالدليل الكافي على ذلك، فمن المؤكد أن أهوال مخيم زمزم دليل كافٍ. لقد باتت حياتنا نحن السودانيين ووجودنا نفسه مهددين.
فقد أدى أسبوع من القصف وإطلاق النيران في زمزم إلى مصرع أكثر من أربعمائة شخص، من الأطفال وعمال الإغاثة، وقادة المجتمع، ومن أقاربي. فاضطر مئات آلاف المقيمين في المخيم إلى الهرب بأنفسهم. وترددت أخبار تفيد أن أطفالًا صغارًا ماتوا من الظمأ وهم يحاولون الفرار. تهدمت العيادات، وترددت أخبار عن وفاة متطوعين في المطابخ الجماعية، وأطباء، وتفيد بأن الجرحى ينزفون دون أن يمد أحد لهم يد العون. وتظهر في الصور المتداولة عبر مواقع التواصل الاجتماعي ما يبدو أنه عمليات إعدام لمدنيين. ومن عداد المفقودين في مخيم زمزم ثمان وخمسون امرأة وفتاة من أقاربي وعائلتي الكبيرة يقول شهود عيان إن قوات الدعم السريع اختطفتهن. كما اختفى بعض من لم يتمكنوا من الهرب، ومن هؤلاء اثنان من أعمامي.
في زمزم عملت، ودرّست، وبكيت، وفرحت. فعلى مدى سنين، كان المخيم مأوى وأملا للناجين من إبادة دارفور الجماعية. وقد نشأ المخيم من عدم، حتى أصبح مجتمعًا مزدهرًا أعادت فيه العائلات النازحة تأسيس حياتها وعملت من أجل أن توفر لأبنائها مستقبلا أفضل. وشأن كثير من الشباب، تقدمت لمد يد العون، بالتدريس في مخيم زمزم في عامي 2013 و2017. أقمنا المخيم والاقتصاد وسددنا الفجوات الناجمة عن إجلاء جماعات المساعدة الدولية من المنطقة بعد عقود من الحرمان والتشريد والعزلة الاقتصادية والسياسية.
والآن أبيد كل ذلك. وتشير صور الأقمار الصناعية إلى أن زمزم يحترق، في صدى مؤلم للماضي حينما حركت صور مماثلة العالم إلى العمل في دارفور. في غضون أيام من فبراير، أوقفت منظمتا أطباء بلا حدود وبرنامج الغذاء العالمي عملياتهما في المخيم بسبب الخطر.
وفي ظل إعاقة قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية وصول المساعدات في جميع أنحاء دارفور وعرقلتهم أو نهبهم لها، ضربت مجاعة من صنع الإنسان مخيم زمزم بشدة. وكانت منظمة أطباء بلا حدود في العام الماضي قد حذرت من وفاة طفل كل ساعتين بسبب سوء التغذية هناك. وذكرت منظمة «أنقذوا الأطفال» في ديسمبر أن العائلات تتغذى على علف الحيوانات للبقاء على قيد الحياة.
ومع ذلك، وعلى الرغم من انتشار العنف في الأشهر الأخيرة، استمر الناس في اللجوء إلى زمزم، لكونه أكثر أمنا من أي مكان آخر.
وقد أفادت المنظمة الدولية للهجرة أن ما يصل إلى أربعمائة ألف شخص اضطروا إلى الفرار من زمزم في ثنايا هجوم قوات الدعم السريع. وقد تم تسكينهم في أرض قاحلة تقع شمالي الفاشر وليس في متناولهم فيها غير قدر محدود للغاية من الطعام والماء. وانهار الناجون المنهكون المتجهون سائرين على الأقدام إلى «طويلة»، وهي بلدة على بعد نحو ستة وثلاثين ميلًا غرب زمزم. وفي مكان قريب، تعرض أبو شوك، وهو مخيم آخر للنازحين، لهجمات متكررة من قوات الدعم السريع. وتعرض العشرات للقتل. فهذا ليس محض تهجير، ولكن إبادة.
وتعد أفعال قوات الدعم السريع جزءًا من حملة إرهاب أشمل. فالجماعة متهمة باستخدام القتل خارج نطاق القضاء والعنف الجنسي والتجويع المتعمد بوصفها أسلحةً حربيةً ضد المدنيين. ولقد مارست قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية الوحشية بلا هوادة ضد المدنيين في صراعهما على السلطة. وقد ترقى فظائعهما إلى مستوى جرائم الحرب، وفقًا لما قالته بعثة تقصي حقائق تابعة للأمم المتحدة. ومع ذلك، فإن الجهود الإنسانية وجهود السلام والدبلوماسية الدولية التي تركز على إنهاء الصراع لم تقم فقط بإقصاء المدنيين، وإنما ركزت أيضا وباستمرار على الأطراف المتحاربة. وقد عجز الجنرالات الذين تركزت عليهم تلك الجهود المرة تلو الأخرى عن إنهاء الحرب. فلا بد من محاسبتهم قبل أن تحل علينا مذبحة أخرى.
قبل سنوات، عندما كنت في الرابعة والعشرين من عمري، قدت مسيرة سلام عبر السودان لترويج مسؤولية جماعية عن السلام. كانت آمال الناس بسيطة ولكنها عميقة: فقد كانوا يريدون الطعام على موائدهم، والمدارس، والصحة الجيدة، والفرصة لرؤية أطفالهم يكبرون. واليوم، تبدو تلك الأحلام أبعد منالا من أي وقت مضى.
وأكبر أمل للسودان الآن إنما يكمن في الأفراد المهتمين، وفي الناجين الشجعان الباقين على الأرض، وفي الجماعات السودانية من قبيل (الشبكة الإنسانية لنازحي الداخل) التي حافظت على حياة مخيمات من قبيل زمزم. وبرغم أن جمع التبرعات ضروري لإنقاذ الأرواح، فكل تمويل العالم لن يكفي لإنهاء هذه الحرب إذا استمرت دول غنية في دعم الأطراف المتحاربة.
ولا بديل عن أن يفرض قادة العالم ضغطا على القادة العسكريين وداعميهم من أجل السماح بإيصال المساعدات والموافقة على وقف فوري لإطلاق النار في المناطق الأكثر تضررًا، فدونما عمل فوري، يشمل الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، من أجل حماية المدنيين وخلق عملية مفتوحة تعطي الأولوية لإسهام المدنيين في جهود السلام وموافقتهم عليها، سوف يستمر محونا سياسيًا وعمليًا. ولو أننا حاضرون على الطاولة، فلا ينبغي أن نكون محض رموز أو أفكار ثانوية. وإنما يجب أن نقود الجهود التي ستحدد كيف نعيش بقية حياتنا.
وإلى أعمامي وأبناء عمومتي الذين ما زالوا محبوسين في زمزم، أقول: ألمكم ليس خفيًا. وشجاعتكم غير منسية. ولقد خذلكم العالم اليوم، ولكننا سنناضل لكيلا يخذلكم في الغد. وفي مواجهة عنف الإبادة الجماعية، يكون أملنا في حد ذاته فعلًا وتحديًا.