لجريدة عمان:
2025-04-17@16:26:22 GMT

العرب وثقافة التنوير

تاريخ النشر: 18th, January 2025 GMT

مصطلح التنوير في الحياة العربية لم يكن معروفا حتى نهايات القرن التاسع عشر، فالحراك الثقافي والسياسي والاجتماعي الذي اصطلح الأوروبيون على تسميته بالتنوير أو الاستنارة لم يكن شائعا في حياتنا الثقافية العربية حتى نهايات القرن التاسع عشر، وربما كان مستهجنا أو شيئا خارجا عن المألوف، لذا كانت الحياة الثقافية العربية تتسم بالجمود والاستغراق في الواقع، بكل ما يتعلق بمفردات الحياة سواء في جوانبها السياسية أو الاجتماعية، ولم يعرف العرب التنوير كنتاج للحراك السياسي والاجتماعي والفكري، وربما حدث على استحياء نتيجة للاحتكاك مع مجتمعات أوروبية سبقتنا، حدث كل هذا خلال القرن التاسع عشر نتيجة لاصطدام العرب بالثقافة الأوروبية مع مقدم الحملة الفرنسية على مصر ١٧٩٨، حينما فوجئ المصريون باجتياح نابليون لبلادهم مستخدما أسلحة ومدافع حديثة لم يكن لهم معرفة بها، وخصوصا حينما استقدمت الحملة معها مئات العلماء في شتى مجالات العلوم والمعارف، وأسسوا ما عرف بالمجمع العلمي المصري على نفس نمط المجمع العلمي الفرنسي، وكان اجتياح نابليون للمدن والقرى المصرية بمثابة اجتياح للحضارة المصرية، ولم تنتهج الحملة وهي تجتاح مصر سلوكا دينيا، فلم تستقدم معها علماء دين بل استقدمت علماء في شتى المعارف العلمية والفنية، ولم يكن من بينهم رجال دين، وهو ما طبع الحملة بطابع علماني وفكري، بعكس ما حدث في الجزائر حينما استقدم الفرنسيون علماء دين وقساوسة راحوا يعملون على نشر المسيحية.

إذا كان الجزائريون قد نجحوا في عدم الاستسلام لرجال الدين، والتمسك بعقيدتهم الإسلامية، إلا أن الوطن الجزائري برمته وقع فريسة للاحتلال، لكن لم ينجح الفرنسيون في نشر عقيدتهم الدينية، بل نجحوا في احتلال الجزائر، بينما في مصر سعى الفرنسيون جاهدين إلى عدم ترك انطباع عند المصريين بأنهم يستهدفون الإسلام، بل راح بونابرت ورجاله يعبرون في مناسبات عديدة على احترامهم للإسلام وتقديرهم لرجال الأزهر ومحاولة التقرب منهم، ورغم ذلك فقد قاد علماء الأزهر حركة المقاومة من منطلق ديني وليس سياسي، لذا كثرت الثورات التي اتسمت بطابع شعبي، وخصوصا بعد أن انهزمت قوات المماليك وهربوا من المواجهة ولجأوا إلى الصعيد، وبعضهم فر إلى بلاد الشام، ووجد المصريون أنفسهم وجها لوجه أمام قوات نابليون دون إمكانات عسكرية، وهو ما دفعهم إلى استخدام إمكاناتهم التقليدية كالعصي والحجارة، وإقامة المتاريس على مداخل الشوارع ومداهمة الفرنسيين في الحارات وعلى أسطح البيوت.

لم تستمر الحملة أكثر من ثلاث سنوات ( ١٧٩٨-١٨٠١)، لكنها حققت نتائج إيجابية ربما لم يتنبه لها الفرنسيون أو حتى المصريون، فقد تفتحت أعين المصريين على مفهوم الوطن، بعد أن شعروا بأن المماليك قد هربوا خوفا من مواجهة الفرنسيين، وظهر مصطلح (أبناء البلد) في مواجهة (الغرباء) كما لفتت الحملة نظر المصريين إلى النهضة الحديثة التي وصل إليها الفرنسيون، وراح علماء الأزهر يحاولون التعرف على القواعد التي أدت إلى وصول الفرنسيين إلى هذا المستوى من المعارف العلمية والعسكرية، وهي قواعد راح يتطلع إليها المصريون في محاولة لمعرفة الثورة الفرنسية وفلاسفتها وقضايا أخرى من قبيل الحرية والدستور وإعمال العقل وقواعد بناء الأمم، وأدرك المستنيرون من علماء الأزهر الفجوة الكبيرة بين الثقافتين المصرية والفرنسية، وهو ما حرك فيهم الرغبة في التعرف على فلسفة الدول في إقامة الحضارات، وخصوصا فيما يتعلق بقضية العقل والحرية والحياة النيابية، جميعها بمثابة قوام الحضارة الفرنسية، كان بعض الأزهريين كالشيخ حسن العطار على دراية بالثورة الفرنسية وأدبياتها وفلاسفتها، وشاعت الرغبة في التعرف على أدبيات الثورة ومنجزاتها، وهو ما أحدث حراكا فكريا لم يتنبه الفرنسيون إلى مخاطره.

لم يدرك الفرنسيون أن التاريخ له دهاء يفوق دهاء الفرنسيين! فقد خرجت الحملة من مصر غير مأسوف عليها، لكنها تركت خبرة كبيرة فيما يتعلق ببناء الدول وحقوق المواطنين وفلسفة القانون وثقافة المقاومة، والتأسيس لفكرة الوطن والمواطنة، بعد أن كان المصريون يعتبرون أنفسهم مجرد رعايا للسلطان العثماني، لذا كان خروج الحملة الفرنسية من مصر ١٨٠١، دافعا للمصريين لكي يختاروا حاكمهم بأنفسهم بدلا من فرض حكامهم بفرمان من السلطان العثماني، وقد بدا ذلك واضحا في إجماع المصريين على اختيار محمد علي حاكما عليهم ١٨٠٥، وكان الرجل ملما بالتجربة الفرنسية مدركا أهمية العلم في حياة الشعوب، لذا أسس لمشروع تنموي كبير في الزراعة والصناعة والتجارة والجيش والتعليم، وقد استعان بالخبرة الفرنسية، ووجه بأن تكون أول بعثاته التعليمية إلى فرنسا، ووقع اختياره على أحد الشباب من خريجي الأزهر (رفاعة الطهطاوي) لكي يكون موجها ومرشدا لهذه البعثة، التي لم يُكتب لأي واحد منها النبوغ، لكن رفاعة الطهطاوي قد راح يدرس التجربة الفرنسية من كل جوانبها، وخصوصا فيما يتعلق بالحرية وتعليم المرأة والقواعد القانونية التي اعتمد عليها الفرنسيون في تشييد دولتهم، لذا كانت كل كتاباته بمثابة نافذة للوعي والتنوير، وقد أشاع بكتاباته في هذه المجالات روحا متقدة تركت أثرا عظيما على الحياة المصرية وربما على العربية أيضا.

توقف كثير من الكتاب والمفكرين العرب عند تجربة الحملة الفرنسية باعتبارها بداية لحركة تنويرية ليس في مصر فقط وإنما امتد أثرها إلى معظم الأقطار العربية، حينما وفد إلى مصر كثير من المفكرين العرب الذين حملوا مشعل التنوير الذي كان جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده نتاجا طبيعيا له، وقد لعب كل منهما دورا كبيرا في إدخال كثير من المفاهيم الجديدة في الواقع السياسي العربي، رغم ما بينهما من اختلاف حول الوسيلة التي يتحقق بها التنوير، وهل هي الثورة الشاملة التي تستند إلى الدين كما كان يراها الأفغاني؟ أم تنهج سلوكا سلميا تدريجيا كما كان يرى محمد عبده، وكلاهما كان يسترشد بما سبق وقال به الطهطاوي الذي كان يُعلي من حرية الفكر وفق الرؤية الليبرالية، كما تعرف عليها من الفرنسيين، وكلاهما يعوّل كثيرا على أهمية الإصلاح السياسي، من خلال نشر الفكر الديمقراطي وتطبيق النظم النيابية، لكن كليهما كان يقول بأهمية العلم كوسيلة لتحقيق النهضة، ليس في مصر فقط وإنما في كل الأقطار العربية، وهكذا انتشرت هذه الأفكار في بعض الأقطار العربية حينما ظهر شبل شميل في الشام، وراح يؤلف الكتب ويكتب في الصحافة، من قبيل مجلة المقتطف في الأول من مايو ١٨٧٦، وقد أحدثت ردود أفعال كبيرة في مختلف الأقطار العربية.

تباينت وسائل تحقيق النهضة العربية ما بين القائلين بضرورة الاعتماد على الدين، وما بين القائلين بضرورة الاعتماد على الفكر الليبرالي وخصوصا في شقه السياسي، لكن كليهما راح يُعلي من قيمة العقل، وضرورة الاعتماد عليه في كل ما يتعلق بالقضايا الاجتماعية والسياسية وتحرير الفكر من القيود وتجاوز فكر العامة الذين يرفضون حقائق العلم، ويعبر الأفغاني عن هذا قائلا: (العقل لا يوافق الجماهير، ولا يفهم حقائق العلم إلا نخبة من المتنورين والجماهير بطبيعتها تحب التحليق في الآفاق المظلمة التي لا قبل للعلماء برؤيتها وارتيادها)، ورغم كل هذه الاختلافات الفكرية لكن الاستعمار الغربي للعالم العربي كان بمثابة الشرارة التي انتقلت منها حركة التنوير، التي قادها نخبة من المفكرين العرب من خلال مشاركتهم في الحياة العامة والكتابة في الصحافة، وجميعهم لم يجدوا في الدين عائقا لتحقيق النهضة ونشر ثقافة التنوير، باستثناء بعض المسيحيين في الشام من قبيل أديب إسحاق وشبل شميل، حيث لم تحظ كتاباتهم بقبول من معظم المثقفين العرب، وهكذا شاعت كتابات الطهطاوي ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني وخيري الدين التونسي وعبد الله النديم وقاسم أمين. كانت أفكار رفاعة الطهطاوي بمثابة الشرارة التي امتدت إلى نهاية القرن التاسع عشر، بعد أن وجدت صداها في كتابات الكثيرين من المفكرين الشوام الذين وفدوا على مصر بعد تعرضهم لمذابح ١٨٦٠م، كان من بينهم يعقوب صروف وفارس نمر، حينما أنشآ مجلة المقتطف ١٨٧٦-١٩٥٢، وقد عُنيت بنشر المعارف العلمية، كما ظهر فرح أنطون الذي انبهر بفكر ابن رشد، وتبعه شبل شميل الذي استغرق في دراسة نظرية التطور لدارون، كما ظهر يعقوب صنوع الذي يعد أول من رفع شعار القومية العربية، وجميعهم قالوا بضرورة إعمال العقل وعدم التفرقة بين المواطنين على أساس الدين، كما أعلوا من قيم العقل، يستوي في ذلك ما قال به الطهطاوي في (روضة المدارس) أو مجلة (الجنان) التي أصدرها بطرس البستاني في بيروت ١٨٧٠، أو (النحلة) التي أصدرها لويس صابونجي، وجميعها كان لها تأثير عظيم على العقل العربي، لذا تقدم التيار العقلاني لكي يكون قائدا نحو التنوير، ويعد رفاعة رافع الطهطاوي الأب المؤسس لكل هذه التيارات حتى نهاية القرن التاسع عشر، وربما إلى منتصف القرن العشرين.

نحن في حاجة إلى أن نعتصم بالعلم، ونُعلي من قيم العقل، وأن يكون هو الحكم على كل ما يطرأ على حياتنا من قضايا فكرية واجتماعية أو حتى سياسية، لكي يكون العقل مرشدنا إلى المصلحة، مصلحة الأوطان ومصلحة المجتمع.

د. محمد صابر عرب أكاديمي وكاتب مصري

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: القرن التاسع عشر الأقطار العربیة ما یتعلق بعد أن وهو ما لم یکن

إقرأ أيضاً:

العقل كشبكة العنكبوت.. الإنسان وخيوط الارتباط الخفية

بقلم- موسى العنزي

 

في ركنٍ قصيّ من الطبيعة، في تلك الزوايا التي تمرّ بها أعيننا ولا تراها، تنسج العناكب شبكاتها بهدوءٍ ودقة، في مشهد لا يخلو من الشاعريةٍ لو تأملناه. وقد يكون في هذا الخلق الصغير ما يكشف سرًّا كبيرًا عن أنفسنا، نحن بني البشر، وعن طبيعة عقولنا التي نظنها حكرًا على جماجمنا، بينما هي، في حقيقة الأمر، تمتدّ وتتوزع، تتناثر وتتشبّك.

كشف باحثون من معهد ماساتشوستس للتقنية (MIT) أن عقل العنكبوت لا يُختزل في جسده، بل يمتد خارجًا، ليعيش داخل شبكته المصنوعة من الحرير والتوتر والاهتزاز. فإن مُسّت تلك الشبكة بسوء، اضطرب العنكبوت وارتبك، كما يضطرب الإنسان عند إصابته بجلطة؛ كأنما فُقد جزء من وعيه، لا لأن ضررًا أصاب دماغه، بل لأن موضعًا من ذاته قد تمزّق خارج جسده.

تلك الرؤية تقودنا إلى تأمل حالنا نحن. ألسنا نحن أيضًا كائنات منفتحة على العالم؟ ألسنا نعيش بما نلمسه ويَلمسنا؟ إن أفكارنا لا تتوقف عند حدود بشرتنا، بل تفيض إلى من حولنا، إلى اللغة التي نسمعها وننطقها، إلى الذكريات التي ورثناها، إلى إيماءات الأيدي، ونظرات العيون، وإحساس اللحظة العابرة التي لا تُقال. نحن لسنا جُزُرًا منعزلة، بل شبكات من خيوط لا تُرى، نعيش من خلالها وبها.

ومن هنا، يبدو لي أن النموذج القديم للعلاج النفسي- شخصان في غرفة بيضاء، يحاولان تفكيك النفس بالكلمات- يبدو قاصرًا أمام هذه الحقيقة. فكيف نُصلح جرحًا في الروح إن كانت الروح ذاتها مشتتة في غابة من العلاقات والروابط؟ كيف نردّ نهرًا إلى مجراه بشفاء قطرة مطر؟

العقل- إذًا- ليس آلة تعمل بمعزل، بل شبكة حيّة كشبكة الفطريات تحت التربة؛ لا صوتًا منفردًا بل جوقةً تعزف معًا، لا جدارًا صامتًا بل أرضًا خصبة ترتجف تحت وقع الخطى، تتفاعل مع ما حولها، وتتشكل منه.

لهذا، إن أردنا الفهم والشفاء، فلننظر لا إلى داخل النفس وحدها، بل إلى ما يحيطها: إلى حكايات الأسلاف، إلى حزن الطيور التي هاجرت ولن تعود، إلى الاسم الذي لم يُنطق فغاب، وإلى اليد التي امتدّت يومًا ثم انسحبت.

لعلّ الشفاء ليس في إصلاح ما انكسر، بل في إعادة نسج ما تمزّق. في الإنصات لا للكلمات وحدها، بل لكل ما يرتجف عند حافة الإدراك. لكل من مرّوا فينا وتركوا فينا أثرًا. لكل الأرواح التي تسكننا، ولكل العوالم التي تتذكّرها نيابةً عنّا.

مقالات مشابهة

  • صرخة التأسيس في زمن التكديس
  • العقل كشبكة العنكبوت.. الإنسان وخيوط الارتباط الخفية
  • كتاب: اغتصاب العقل البشري
  • فريق اليمن يحقق لقب بطل العرب ويحصد 8 جوائز في البطولة العربية الـ 16 للروبوت
  • الدولة والسلفيات الدينية والمذهبية
  • نهاية عليزا ماغن.. نائبة رئيس الموساد التي صنعت مجدها بالتجسس على العرب
  • نهاية عليزا ماجن.. نائبة الموساد التي صنعت مجدها بالتجسس على العرب
  • نيويورك تايمز: خبايا الحملة التي يشنها ترامب ضد الجامعات الأميركية
  • «مياه وثقافة الفيوم» تنظمان ندوة توعوية لطلاب مدرسة الأمل للصم والبكم.. صور
  • غزة.. ولحظة احتضار العقل الأخلاقي للغرب