بقلم عمر العمر
هاهي الحرب . كلما طال أمدها توغل المقاتلون في التوحش ،فتُزهق الأرواح وتغرق الجثث في الدماء . هاهو الصراع عندما يتفلّت من الأعراف والأخلاق متجردا من العقلانية مصابا بالعمى يسقط أطرافه في جب الذاتية و مصالحها الخاصة غير مكترثة بمن حولها متجاهلة ظرفيها الزماني والمكاني. كذلك الأحداث تفقد تسلسلها المنطقي .
*****
أ لهذا الدرك المجفف من الحياء والنخوة سقطنا حيث نمارس التقتيل المشرّب بالتشفي فلا نكتفي بإطلاق الرصاص بل نفرغ خزانة السلاح في الجثث ! أ لهذا الدرك الأسفل من التوحش هبطنا فلا نكتفي بالوخذ والطعن حتى الموت بل لنذبّح المجردين من السلاح ذبح الشياه!أ لهذا الدرك الغارق في ظلمة الجهل بالدين ،العرف والفحولة نرفع أصواتنا بالتكبير بينما ننكل بضحايا لانعرفهم، لمجرد تصنيفهم قسرا أعداءاً بغية إشباع نهم الثأر المؤجج فينا! لابأس فنحن لا نعيد فقط انتاج التاريخ ،بل نعيد قطع الرؤوس وبقر البطون وإطعام دواب النهر الجثثث . هذا فصل أشد قتامة من كل فصول التقتيل ،الإبادة والتطهير العرقي السوداء في تاريخنا البعيد والمعاصر.ربما هو اقتباس عشوائي لفصل الدفتردار التركي . إذ يتشابه المشهدان في التوحش فقط يتباين النص والممثلون.
*****
الجزيرة ليست أرض المحنة كما تقول قصيدة مغناة ، بل هي مزرعة السودان والحصاد ومنصة التصدير .هي بوتقة الشعب ومصهر أعراقه وثقافته .كذلك مدني ليست فقط حاضرة الجزيرة، بل هي خاصرة الوطن.فكل مايصيبهما تتداعى له كل جنبات البلد و جسم الشعب .فمن الصعب تطويق شرور انفلات هذا العنف البربري داخل هذه الرقعة الجغرافية أو على الكتلة البشرية داخلها.إنه السودان أيها القتلة الجهلة المتوحشون . الكنابي ؛معسكرات العمال الزراعيين مقر سكن ماكينات الإنتاج البشرية في أكبر مشروع سوداني . طوال سنين عددا، ظلت على عائدات جهودهم ترسم وزارة المالية موازنة الدولة . هذا الانفلات الشرس يحول الفرح إلى كرح والنصر إلى هزيمة لأنه يحرق تجربة حياتية تنبض بالبذل ،العطاء والتعايش العائلي الحميم . دائرة العنف ستنداح كما تتفجر بؤر التوتر الساكنة بعدما رفعت عنها أحداث الجزيرة غشاوة الصبر .فالعنف لا يولّد إلا العنف .من حق أجيال الكنابي الدفاع عن وجودهم وحقوقهم التاريخية.
*****
في المقابل كان الغرب العريض إحدى وجهتي الجذب للباحثين عن فرص الاستثمار من أبناء الشريط النيلي الضيق الشحيح .فأفلحت ثلة من أبنائه العصاميين في بناء قواعد تجارية هناك أمست إمبراطوريات بمعايير السوق .نحن لا نقرأ التاريخ بل نجهله كذلك .لذلك نعيد انتاج أخطائنا .الجنجويد صنم صنعناه بأيدينا. الساسة والجنرالات المشاركون في صناعته تغنوا به ثم روّجوا أفعاله ضد الشعب أمجادا حتى كادوا يعبدوه. فلمّا نازعهم السلطة كفروا به حتى عمدوا إلى تهشيمه وإن بكلفة عالية يسددها الشعب . هكذا يتساوى السفاحون القتلة في تحميل المواطنين الأبرياء فوق طاقاتهم ،بل خصما من حاضرهم ومستقبلهم .الآن خرج الجنجويد من مدني عاد الجند إلى المدينة لكنها لم تسترد السلم والأمان . تلك غاية لا أحد يدرك كيفية إنجازها وتوقيتها. فجنرالات الجيش استعانوا بميليشيات ضد ميليشيا.ذلك يفتح الافق حتما أمام إعادة إنتاج الأزمة في نسخة مغايرة.لا فرق ما إذا كانت معارك الميليشيا المستولدة تدار بنبرة قبلية أو لسان أيديولوجي.لكنها واقعة لا محالة.
*****
القناعة بألا سبيل لتحقيق إنجاز على درب التقدم الوطني عن طريق الجنجويد لن تبدلها نتائج المعارك في الجزيرة وغيرها.فطبيعة تنظيمات الميليشيا لا تتغير وفق سحناتها و ألسنتها.كلها موبؤة بفيروس العنف واللهف للدم و إقصاء الآخر. لافرق بين الخمير الحمر،طالبان، حزب الله ،الحرس الثوري ، الحوسيون ، بلاك ووتر ، فاغنر . حتى اذا استهدفت هدم دولة .فهي عصابات قوامها قتلة محترفون مقابل المال في مهنة من لا مهنة له. فالرهان على تدوير طاحونة الدم اقرب للعقل منه إلى تجفيف بؤر التوتر على خارطة الوطن .على النقيض ، ما يحدث حاليا يؤجج نار الكراهية و يغذي ساقية الفرز العنصري البغيض.تماما كما قال الكاتب الأميركي (في الحرب نستخدم أفضل ما لدينا لنمارس أكثر الأفعال بشاعة).
*****
الكلام عن محاكمة مرتكبي الجرائم بمافي ذلك القتل خارج القانون يثير السخرية والرثاء والحزن .فكل ما يحدث على أرضا لوطن يحدث خارج القانون، فالبلد كله خارج الدستور بما في ذلك السلطة القابضة على ما تبقى من هيكل الدولة وأدار الشعب!. ما يحدث على ارض الجزيرة يحدث خارج الإسلام الحنيف (من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض كأنما قتل الناس جميعا )من غير الممكن رسم مسار التحولات الناجمة داخل الفوضى لأن سلوكيات الناس وردود أفعالهم أزمان الحرب لا تخضع لمعادلات فيزياء اجتماعية.لذلك يخوض في الوهم كل من يتصور بلوغ الانتصار الحاسم .هم ونحن كما قال الفقيه الحنفي الفارسي جلال الدين الرومي(يدقون طبول الحرب وندق طبول الحب)
نقلا عن العربي الجديد
aloomar@gmail.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
غزة بين أنياب الجغرافيا والمصالح: حربُ الإبادة لُعبة “نتنياهو” و”ترامب” في معركة الشرق الأوسط الجديد
يمانيون../
لم تكن فلسطين يومًا سوى قلب جريح في خارطة الصراع الكبرى، إلا أن ما يشهده قطاع غزة اليوم من حرب إبادة جماعيةٍ يخرج عن حدود المألوف، في ظل تداخل معقد بين الهروب السياسي الداخلي لقادة الكيان، والترتيبات الأمريكية، مع تقاطع أجندات إقليمية ودولية لا مكان فيها للدم الفلسطيني؛ سوى أنه وقود لمعادلات النفوذ.
حرب الإبادة الجماعية هذه ليست مُجَـرّد عدوان عسكري، بل هي مشهد معقد تتحكم به خيوط السياسة العمياء التي نسجتها “تل أبيب وواشنطن” وعواصم إقليمية أُخرى، والتي تتجاهل التدبير والعدل الإلهي الذي يتفوق على كُـلّ مخطّط وظلم، فغزة ورغم احتضارها تحت وطأة القصف والحصار؛ تذكر العالم أجمع بأن العدالة لن تسقط أبدًا.
نتنياهو بين الملاحقة والدم: الهروب الكبير عبر غزة
في الداخل الإسرائيلي، يقف مجرم الحرب “نتنياهو” في زاوية حرجة، يطارده شبح المحاكمات بتهم الفساد والاختلاس وخيانة الثقة، فيما تتفاقم حدة الانقسام السياسي بين أقطاب اليمين الصهيوني المتطرف والعلمانيين.
حيث يرى كثير من المراقبين أن الحرب على غزة باتت أدَاة ناجعة بيد “نتنياهو” وبدعمٍ من “ترامب” للهروب من ورطته الداخلية، وتوحيد الرأي العام الإسرائيلي خلفه، مستغلًا مشاعر الخوف والتطرف، ويفتح عبر الدم الفلسطيني نافذة نجاة من أسوار السجن المحتملة.
لقد دأب “نتنياهو” تاريخيًّا على تصدير أزماته إلى الخارج، مستثمرًا في الحروب على غزة كرافعةٍ سياسية، لكنها هذه المرة تأتي في ظل صراع داخلي أكثر شراسة بين أحزاب اليمين ذاته، بين من يدفع نحو تصعيد مستدام ومن يرى في المفاوضات والتهدئة ورقة لتحقيق مكاسب انتخابية.
الظل الأمريكي: واشنطن تعيد رسم الخرائط بالنار
الولايات المتحدة الأمريكية ليست بعيدة عن هذا المشهد الدموي؛ فإدارة “ترامب” تجد نفسها أمام مفترق طرق بين الحفاظ على تفوق “إسرائيل” الإقليمي، وبين استرضاء حلفاءها في العالم العربي والإسلامي ضمن سياق إعادة ترتيب التحالفات بعد تراجع الدور الأمريكي في بعض مناطق العالم.
الحرب على غزة تمنح “واشنطن” فرصة لإعادة توجيه دفة المنطقة، من خلال تصعيد يبرّر المزيد من التدخل العسكري، ويُعيد تثبيت “إسرائيل” كعنصر حاسم في معادلات الشرق الأوسط، ويرجح كفة الدور الأمريكي وضرورته في خفض هذا التصعيد وتوجّـهات السياسة الأمريكية في إعادة ترتيب الأوليات في المنطقة.
كما أن مِلف التطبيع الإسرائيلي مع بعض الأنظمة العربية، والذي تعثر في الشهور الماضية، يجد في هذه الحرب أرضية جديدة لإعادة إحياء مشروعات “السلام” الأمريكي المزعوم، ولو على حساب تدمير غزة بالكامل، ولو على حساب الدم الفلسطيني المسفوك في شوارعها.
ولأن هذا الدم ليس مُجَـرّد ضحية لصراعٍ محلي، بل هو جزء من لعبةٍ جيوسياسية أكبر، فهناك دول وقوى تراقب عن كثب مسار الحرب، وتحاول دفع المشهد بكل الطرق والوسائل لتحقيق مكاسب ميدانية لصالح فصائل الجهاد والمقاومة والشعب الفلسطيني ككل، بالمقابل، تجد دول أُخرى في هذه الحرب مناسبة لتعزيز أوراق التفاوض والتحالف مع “واشنطن وتل أبيب”، بينما تبقى بعض العواصم العربية في موقع المتفرج أَو بالأصح المتواطئ من تحت الطاولة.
الرواية الصهيونية.. صناعة العدوّ واستثمار الدم:
في جوهر هذه الحرب، يتكرس مفهوم صناعة العدوّ، حَيثُ تُختزل غزة في خطاب المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية ككيان مهدّد للوجود الصهيوني، رغم فارق القوة الهائل، وتسويق هذا العدوّ يخدم مصالح منظومة الحكم في الكيان الصهيوني داخليًّا وخارجيًّا، مع تحول سكان القطاع إلى ورقة مساومةٍ دمويةٍ في يد اللاعبين الدوليين والإقليميين.
اللافت أن حجم التدمير والقتل الممنهج يعكس استراتيجية واضحة لإخراج غزة من المشهد السياسي والجغرافي، وتحويلها إلى نموذجٍ مدمّـر لكل من يفكر في تحدي التفوق العسكري الإسرائيلي، أَو يخرج عن بيت الطاعة الأمريكية.
ما يحدث في غزة، هو انعكاس لمعادلاتٍ معقدة يتحكم بها ساسة يبحثون عن المصالح والمطامح على حساب الأبرياء، فغزة اليوم تُحرق تحت أقدام حسابات “تل أبيب وواشنطن” والعواصم الإقليمية والمنظمات الأممية المتواطئة، في معادلةٍ لم تعد ترى في الفلسطيني سوى ضحيةٍ دائمة.
غير أن التاريخ لطالما أثبت أن الدم لا يكتب إلا رواية الثبات والصمود، وغزة وأهلها ومقاومتها، رغم الكارثة، تبقى شوكةً في حلق هذه التحالفات، وجرحًا مفتوحًا يعري صفقات السلاح والدم في سوق السياسة العالمية، ويفضح صفقات التطبيع والعار في سوق النخاسة والخيانة العربية والإقليمية.
المسيرة | عبد القوي السباعي