(١)
عندما نُقِلت إلينا جرائم الجنجويد حيّة بكاميرات هواتفهم منذ بداية الحرب، وعندما سيطروا على معظم أجزاء البلاد وكانوا يُهسترون بالنصر ويصرخون لأنهم مجانين، لم يكن الأمر غريباً البتَّة، حتَّى بعد أن شنّوا هجومهم الانتقامي على أهالي الجزيرة التي تحررت قراهم ومدنهم لمدّة واحتفلوا بالأمان من الجنجويد، عندما أذاقوهم العذاب وحاصروهم في الجوامع وجوّعهم وأمدّوهم بالغذاء المُسمَّم، عندما رجموهم بالأسلحة الثقيلة ودكّوا بيوتهم دكّا؛ عندما أبادوا عشرات الأهل من عائلة أخي الطيب المشرّف، ورأيته واقفاً عند بابي في زنجبار بعد أسابيع أثناء مهمّة عملٍ، رأيته ولم أستطع أن أبادر بأيّ فعل، وفهمت نجلاء التوم عندما شرحت "لا معنى" أن تقول للطيّب: البركة فيكم؛ لم يكن ذلك غريباً، لقد صُنعوا ليُحاربوا هكذا، وهكذا دائماً كانت حروبهم في دارفور وجنوب كردفان: حروب ضدَّ الأهالي الفقراء العُزَّل، انتقامٌ مُستمرّ، وغرسٌ للكراهية في قلوب الرجال والأطفال الذين شهدوا والاغتصاب والخسف، والبنات الصغيرات اللائي هربن مع أمهاتهنَّ من الجنينة سيراً على الأقدام، ومن ثمَّ اقتلعوا أخوانهم الذكور أمامهم وقتلوهم! هكذا هي حربهم، لكن ما الذي فَعلته فعلاً في نفوس السودانيين الذين لم يمروا بتجربة العلقم هذه، تجرّع النار، هذه اللعبة الجهنميّة التي خاضتها شعوب السودان في كلّ مكان؛ إن تجربة الحرب ليست كتجربة الفقر والانهيار الاقتصادي، إنها تنغرس في اللحم الحي للذاكرة، وتُحوّل الناس إلى متمرّدين!
(٢)
غَصَبت نفسي على مشاهدة جميع فيديوهات التصفيات والذبح التي تعثرت بها منتشرةً في كلّ مكان، وكان كلّ تركزي منصبّاً على الأطفال والمراهقين الذين أغرقوا الفيديوهات بملامحهم البريئة: طِفلٌ وُضع الحبلُ في فمه، طُفلٌ مُخاطبٌ بلغة البهائم، طُفلٌ ألقيَ بِه في النهر ولم يبخلوا عليه بالرصاص أثناء سقوطه ودويُّ صَرخته الذي لن يزول.
أعدَمَ الجنديُّ الشجاع رجلاً أعزلَ حُشرَ في زاوية، كان جميع الحضور من المواطنين المدنين قد أدانوه بشكلٍ أو بآخر، كلّهم كانوا يحملون كاميراتهم يُصوّرون القتل غير الرحيم الذي مُني به الرجل الجالس في الزاوية. بعد أن فرّغ فيه غَضَبَهُ رصاصاً، استدار وسط تكبير وصراخ الحشود الهستيري ومطالبته بالمزيد من الرصاص، عاد عندما قالوا: لم يَمت، عاد البطل الشجاع بكامل هندامه العسكريّ وأطلق زخةً أخرى من الرصاص على الرجل الميّت في الزاوية. لم ينتهِ الفيديو بعد، حامت الكاميرا على سعادة الحضور وقفزاتهم، وفي جزءٍ من الثانية الأخيرة قفزَ طفلٌ أمام الكاميرا فارداً ذراعيه وانتهى التسجيل، كنتُ أوشك أن أُسقط الهاتف من شدّة الرعب وتصلّب القلب من قفزة الطفل أمام الكاميرا.
ليس عاديّاً أن يُذبح الناس وتُبقرُ بطونهم وتُبعثرُ أمعائهم في الشوارع، صادمٌ أن يفرح الناس بهكذا موت.
(٣)
ما أقوله الآن يتعلّق بالمُستقبل، مستقبلنا كبشر أولاً، وكسودانيين ثانياً. يجب حماية جميع المناطق التي احتلّها الجنجويد بعدَ تحريرها على يد الجيش، يجب أن تكون هنالك قوّة مُستقلّة تُراقب وتحمي المدنيين. ففي جنوب الحزام لم يتوقّف قصف المواطنين منذ اليوم الأول للحرب. كتبت وقتها مقالاً نشرته صحيفة سودانايل بعنوان: (جنوب الحزام: السما اللحمر)*، أشرتُ فيه إلى "اللامبالاة العنصرية" التي يتعامل بها سلاح الطيران مع المواطنين هناك، وتحديداً في حادثة قصف سوق قورو، والذي قُصف أمس الخميس بذات اللامبالاة، إذ كلّ من لقي حتفه لم يكن من المقاتلين. سَمعتُ ذات الصوت الذي يُسيطر الآن، لكنه وقتها كان تبريريّاً: "المواطنون في جنوب الحزام يتعاملون مع الدعم السريع ويتبادلون معه المنافع في تلك الأسواق!” لنفترض صحّة ذلك، هل عقوبة هذه الجريمة هي الموت قصفاً؟ أم هو تدنّي قيمة إنسان تلك المناطق؟، بل انمحاءٌ تامّ للقيمة الإنسانية.
الآن انتهى وقت التبرير، وصدر الصوت المخفيّ منذ زمنٍ بعيد، صوت قادم من الماضي السحيق، إذ لا يزال يظنّ أن هنالك "عبيد". صدر هذا الصوت مثقّفاً بالـ"فُل سووت"، وظهر واضحاً متعدّداً متوحّداً في الهدف: إزالة الكنابي وأهلها، قل إبادتهم.
(٤)
لن يصدّق العالم إن قُلنا أن هؤلاء المُستهدفين أصلاً أتوا للعاصمة والمدن الكبيرة -في أغلب الأحيان- فراراً من حربٍ أخرى. وكلّما نزحوا قابلتهم الوحشيّة والتنمّر والتكبّر العرقيّ الهائل. هذه الحالات من الظلم المُستمر والفقدان التام للأمل في العدالة والإنسانيّة، أية عدالة بحق الشيطان، إن كانت في هذه الدنيا أم كانت في أيّ دنيةٍ أخرى، امنحوهم حقّ الحياة الذي امتلكوه بولادتهم على هذا الكوكب.
طالت المذابح أشدّ المجتمعات مسالمةً في الخرطوم: الجنوب سودانيين الذين ظلّوا مَغزُولِين في نسيج المجتمع حتّى بعد استقلال دولتهم، أغلبهم عاد هَرَباً من حروبٍ قديمة واستقرّوا، من أصدقائنا فهمنا أنهم كانوا يؤمنون أنهم غير مستهدفين، لأنهم -ببساطة- ليسوا طرفاً في الحرب، إنهم -بالواقعية السياسيّة- أجانب ورعايا دولة أخرى، إلا أن الاستهانة الوقحة بأرواحهم وأشخاصهم وكرامتهم كان مدخلاً لفتح جروحٍ قديمة؛ هذا الصوت المخفيّ الذي ظَهَرَ إلى العلن، العنصريّة اللائراديّة التي تُعاني منها شرائح كبيرة وواسعة من السودانيين في الشمال النيلي والخرطوم ومراكز القوى السياسيّة والإعلاميّة والعسكريّة.
(٤)
إن أشدَّ ما هَزَمنَا في هذه الحرب أنها استطاعت انتزاع الإنسانيّة والتعاطف من قلوب الناس، نَزَعت عنهم الرحمة، وعرّضت الأطفال لما لا يمكن وصفَ ما سيُحدثه في حياتهم مستقبلاً. لن نعرف أبداً ما الذي أحدثته الحركة البسيطة للمرأة وهي تُنزل طفلها من قماشةٍ رُبطَ بها في ظهرها، أنزلته بعد أيامٍ من السير في الحر للوصول لمعسكرات اللاجئين في تشاد، هناك، أنزَلَته جثةً هامدة. لن نفهم المُستقبل أبداً إن لم نتأمّل في الجنون المُزركش الذي أنتجته الحرب. لن نَعرف أبداً إلى أيّ مستقبلٍ سيقفزُ الطفل الخاتم لمشهد الإعدام المُتشفِّي، لن نفهم النظرة المندهشة الخاوية للعم الجنوبي الذي يسير ويسير ومن خلفه الإهانات والضرب والقتل، يسير جنباً لجنبِ الخطر القادم الأكيد، يسير في دموعنا يذكّرنا بمدى وهميّة الحدود في الصراع.
(٥)
ما الذي فعلته الحربّ فيَّ؟ لستُ أدري، لكنني أعرفُ أنها أصبحت جزءً منّا، كالرئة والبطن والقلب والذاكرة والأحلام. الجميع يخوضون الحرب مع الجنود، هذه سابقة لم تحدث في تاريخ البشرية، أصبحت الحربُ حربان: واحدة في الواقع والأخرى في الأعصاب المشدودة والغضب المسيطر على الأفراد المعزولين داخل هواتفهم، يُساهمون بالكتابة -ويا لهولِ السلاح- بتصوير الضحايا وقهر اللغة وتحجيمها وتقليصها إلى حروفٍ لا معنى لها، كلمات تتكوّن من حرفين أو ثلاثة.
(٦)
فهمنا من تجربتنا أن الحروب تكشف المجتمعات، إنها المرآة الوحيدة التي تشدّ انتباه البشر، وهي الطريقة الوحيدة لتعليمهم، لكن عليهم في البداية أن ينظروا حقّاً في مرآة الحرب الفاتنة، وأن ينتبهوا لما خلف صورهم المعكوسة من جثثٍ صغيرة الأطراف، ونساء قَتلهنّ الاغتصاب ويواصلنَ السير في حياتهنّ المنبوذة إلى الأبد بذاكرة غارقةٍ في روائح جنود الجنجويد. هذا هو وجه دولتنا الغريب، لم تكن وجوه السودانيين غريبةً أبداً، ولم تكن تصرّفات الجنجويد غريبة: الغرباء هم الذين يكبّرون ويذكرون اسم الله بينما يذبحون مخلوقاته العزيزة، ويقتلون أطفاله أحبابه الأبديون.
الأطفال، يا خسارات الحرب الدائمة.
١٧ يناير ٢٠٢٥م.
إشارات:
*مقال (جنوب الحزام: السما اللحمر)، على الرابط:
https://sudanile.com/جنوب-الحزام-السَمَا-اللَّحَمَر-بقلم/ See less
mamoun.elfatib1982@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: جنوب الحزام ة التی التی ت
إقرأ أيضاً:
مصر في مرآة أفغانستان.. الأفغاني فيلسوفا
بعد مرور ما يربو على الثلاثة أعوام من آخر إصداراتنا في مشروع نشر اﻵثار الكاملة للسيد جمال الدين الأفغاني(1)، ها نحنُ نوفَّق بحول الله وحده؛ لاستئناف النشر بكتابٍ فذ هو: "تتمة البيان في تاريخ الأفغان". وعلى هذا، يصيرُ هذا النص المركَّب المتين هو ثالث ما تُصدره تنوير للنشر والإعلام في هذا المشروع المحوري(2)، رغم أن المجلَّد الذي نتناوله اليوم كان أسبق زمنيّا في الصدور من سابقيه؛ إذ صدرت جريدة "العروة الوثقى" في پاريس على مدى عام 1884م، وصدرت "الخاطرات" للمرة الأولى في بيروت عام 1931م؛ أي بعد وفاة السيد بخمسة وثلاثين عاما تقريبا، بينما صدر كتابنا هذا في الإسكندريَّة عام 1878م(3)؛ أصدرته مطبعة جريدة "مصر" -لصاحبها أديب إسحق- قبل نفي السيد من مصر بعام واحد.
ولا نُريد الإثقال على القارئ بكلام مُكرر عن مستوى النشرات السابقة وتفاصيل تلاعُبها بكلام السيد إلى درجة التزييف أحيانا، فهذا مما فصَّلنا بعضه في مقالاتنا وفي مُقدمتي الكتابين السالفين، ويسع المهتم العودة إليه في النشرَتين المذكورتين. بيد أننا لا يُمكننا عرض هذه الطبعة بغير أن نسلُكها في ذات السلك، بوصفها استمرارا لمهمة استنقاذ تُراث السيد تمهيدا لإعادة قراءته وتقييمه، بعيدا عن التلاعُب والتزوير، مما سيجعلها أول قراءة فعليَّة لنصوص الرجل -على صورتها الأصليَّة- منذ وفاته، أو منذ انعطافة القرن العشرين.
هذا الاستنقاذ نفسه يُعَدُّ كذلك استنقاذا لتُراث الرجل وأصالته وتفرُّده، من الاختلاط بآثار "تلميذه" محمد عبده، وهي الجريمة التي شاع ارتكابها بأثرٍ من الوهم الذي بثَّهُ رشيد رضا؛ إذ نقل عن "شيخه" قوله: "إن الأفكار في العروة الوثقى كلها للسيد [جمال الدين الأفغاني] ليس لي منها فكرة واحدة، والعبارة كلها لي ليس للسيد منها كلمة واحدة"، فكأن فكر المفكِّر يَنفَصلُ عن لُغته ومُعجمه، بل وكأن محمد عبده نفسه كان شيئا مذكورا قبل لقائه بالسيد؛ حتى يتنحَّى له الأخير ليفْعَلَ فعلته! هذه الخرافة الشنيعة هي التي حَدَت بـ"الأمين" على تراث محمد عبده إلى الإمعان في التلاعُب بتراث الأفغاني؛ ليتلاءم مع تلك الصورة المختلَقَة الزائفة للسيد و"تلميذه"، وسار على نهجه أصحاب النشرات التالية -لآثار السيد- في تغيير ترتيب كتاباته، ونزعها من سياقاتها، وتغيير عناوينها، والعبث بتركيبها، وحذف ما لا يُعجبهم منها، أو ما قد تقعُد أذهانهم عن استيعابه -ولا أقول تأويله- فقد كان لهم في رشيد رضا الأسوة الأسوأ، التي يُمكن أن يرنو إليها إنسان في أداء أمانة الدعوة إلى الله وأمانة الكلمة التي يُنصَر بها دينه.
وكما سبق منَّا القول؛ فقد كانت جريمة "المحققان" السابقان -بحق آثار السيد وفكره- تبعٌ لجريمة رشيد رضا وفرع منها. صحيح أنه كان يُفترَض بهما الدرس والتحقيق والتدقيق قبل قبول شهادات رضا، أو قبل الاعتماد على الصورة التي رسمها الأخير للسيد ولعلاقته بـ"تلميذه"، علاوة على التأكُّد من سلامة نسبة النصوص إلى أصحابها. وصحيح أن تقصيرهما هذا سببه الأساس هو ضعف أدواتهما، بيد أن هذا القعود والاستسهال راجعٌ -في القسم الأعظم منه- إلى ثقتهما الموروثة في رشيد رضا، وقبولهما رواياته بغير تمحيص، وذلك بوصفه "الأمين" على تُراث السيد وتلميذه: "الأستاذ الإمام"!
وقد بيَّنّا في مواطن شتَّى أن أول وأخطر مَطْعَن في روايات رضا، وفي الصورة الزائفة التي رسَّخها في أذهان الباحثين -عن الأفغاني- هي خاطرات السيد نفسها، التي قيَّدها المخزومي، ونُشرَت للمرَّة الأولى قبل وفاة رشيد رضا بأربعة أعوام. ففي هذه الخاطرات -التي تجاهلها محمد عمارة كأن لم تكُن، وعبَثَ خسروشاهي بمحتواها حذفا وإضافة، ونشرناها نشرة كاملة- يتجلَّى لنا مُعجم السيد جمال الدين الأفغاني ولغته؛ إذ كان محمد المخزومي يُقيِّد ما يقوله السيد بغير تصرُّف، ومن ثم؛ تصير هذه الخاطرات نفسها مفتاحا لتمييز أسلوب السيد اللغوي ونسقه الفكري عمَّا عداه. ولم يكتف المخزومي بذلك، ولا باستطرادات السيد في الكلام أحيانا عن استعمالاته اللغوية ومنهجه فيها، بل إنه يُخصص بعض هوامشه لتجريد نموذج السيد في الاشتقاق اللغوي؛ فكأنه يُعين الباحث الجاد على بناء نسق لغوي مُتفرِّد للأفغاني، وهو النسق المطَّرد الذي يتجلَّى بارزا في الكتاب الذي نقدمه اليوم، كما تجلَّى في صفحات "العروة الوثقى" قبله؛ كاشفا -لأول وهلَة- زُور ما نُسبَ لمحمد عبده من دورٍ في "صياغة" فكر السيد!
وقد كان القاسم الأعظم من التصحيفات الكثيرة التي واجهتنا في "تتمة البيان في تاريخ الأفغان"، ومن قبل في "العروة الوثقى"، واستغرقنا تصويبها استغراقا؛ كاشفا عن كونها أخطاء مُستملي لا يعرف الأسماء أو الأعلام الأعجمية التي تُملى عليه، ولا يعرف لغتها؛ بل يكتُبها كما وقعت في أذنه وأدركها ذهنه. وذلك بالإضافة إلى بعض التصحيف الناجم حينا عن نسخ مخطوط صعب القراءة، خصوصا نسخ الأعلام الأعجمية غير الشائعة في الدائرة العربية. ولعلَّ الاطراد المستَمِر لاستعمال أعلام فارسيَّة -لا عربية ولا حتى پشتونيَّة- في كتاب عن أفغانستان؛ يزيدنا يقينا أن السيد كان يُملي حرفا حرفا، أو يكتُب أحيانا فيُنسخ نصه حرفا حرفا؛ فإن اللغة الفارسيَّة كانت هي اللغة الأصليَّة (الأم) لمن يُملي، إذ تُهيمن على معارفه الأولية هيمنة واضحة؛ فتنضح بها عربيته الجزلة الفصيحة في كل حين. وهو ما لا يُمكن بحال نسبته إلى "التلميذ" محمد عبده، الذي لم يكن يعرف سوى العربيَّة، حتى تعلَّم بعض الفرنسيَّة آخر عمره بإلحاحٍ من نازلي فاضل.
ومن ثم، فإننا إذ نسلك هذا النص المركَّب في عين السلك الذي سلكنا فيه النصين السالفين؛ نقول: إن النصوص الكاملة للسيد -بترتيبها الأصلي- تُبين لنا إذ توضع جنبا إلى جنب؛ أن دور أي تلميذ لم يتعدَّ دور المستَمْلي أو المدقق اللغوي، وأن "قلَّة" اكتراث السيد بالكتابة لم يكن يعني تركه نسقه الفكري لغيره حتى يصوغه بألفاظ تلميذ روافده العلميَّة والعقليَّة محدودة نسبيّا. وأي باحث متوسط الموهبة في العلوم الإنسانية؛ يَعرِفُ أن اللغة والفكر صنوان لا يفترقان، بل إن اللغة هي نفسها أحد آفاق الفكر ومُحدِّداته.
* * *
إن هذا الكتاب "العجيب" الذي نضعه اليوم بين يدي القارئ ليس عن أفغانستان كما قد يبدو للوهلة الأولى بأثر من عنوانه، وموضوعه، وكم التفاصيل المبسوطة عن إقليم الأفغان ومعيشتهم؛ وإنما هو -على نقيض ظاهره تماما- الحلقة الأولى من عناية السيد "المدوَّنة" بالشأن المصري، وهو ما يبسطه لنا التصدير الماتع الذي استُهِلَّ به الكتاب، إذ يُدلل به المفكر والأكاديمي الدكتور محمد صفار على ذلك. فما الذي قد يدفع السيد -وهو السياسي المحنك البصير- إلى تأليف كتابٍ عن أفغانستان وهو مُقيم في مصر مشغول بحالها، إبَّان ما ستكشف الأيام أنه أخطر مُنعطف سياسي في تاريخها الحديث؟! وهل لهذا النمط من التأليف المركَّب -والأشبه بالمرآة- من سلف في التقاليد الفلسفيَّة الإسلاميَّة؛ يمكن من خلاله استيعاب طبيعة ما يفعله السيد؟! كل ذلك سيُجيب عنه هذا النص الفذ "الجديد"، إذ ينفتح بالتصدير الماتع الذي تَقَدَّمه. بيد أن ما يعنينا الإشارة إليه في عُجالة؛ هو أن السيد قد اتخذ من تاريخ الأفغان وجهادهم "القريب" ضد البريطانيين مرآة، أراد للمصريين أن يشهدوا فيها الحجم الحقيقي لأعدائهم البريطانيين بعيدا عن المبالغات الصارِفَة لهم عن المواجهة، وأن يُدركوا العيوب والإشكالات التي تتسلَّط على نفوسهم، وتعوق إيقافهم لزحف البريطانيين الطامعين في بلادهم. أما كيفيَّة تحقيق هذه المهمة الشريفة والمدهشة، من خلال نَصٍّ تَندُر فيه الإشارة إلى مصر؛ فهذا ما سيبوح لك به النص وتصديره الماتع.
__________
(1) آخر هذه الإصدارات: السيد جمال الدين الأفغاني، العروة الوثقى (تنوير للنشر والإعلام، 2021م).
(2) أول النصوص في رحلتنا هذه: خاطرات السيد جمال الدين الأفغاني، تقرير: محمد باشا المخزومي (تنوير للنشر والإعلام، 2020م).
(3) لمزيد من التفاصيل عن ظروف وملابسات نشر العملين؛ راجع مقدماتنا على الكتابين.
x.com/abouzekryEG
facebook.com/abouzekry