عبد المنعم عجب الفَيا
مقدمة:
في كتابه (لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الألمانية الكلاسيكية) يقدم انجلز قراءة لفلسفة هيجل تبدو مغايرة للفهم السايد والمختزل لهيجل في الادبيات الماركسية. ومع ان العنوان الذي اختاره انجلز لهذا للكتاب يوحي بأنه رد على مادية فيورباخ ، الا ان الكتاب يمكن أن يعد دفاعا عن فلسفة هيجل وشرحا عميقا لها أكثر من كونه ردا على فيورباخ.
وفيما يلي نورد اهم النقاط المفصلية في دفاع انجلز عن فلسفة هيجل والتي تكشف عن مكانتها السامية والمهيمنة في الفلسفة بعامة والنظرية الماركسية بخاصة.
**
" إن الواقع، تبعا لهيجل، ليس صفة ملازمة لنظام اجتماعي وسياسي معين في جميع الأحوال وفي كل الأزمان.. فان كل شيء كان واقعا فيما مضى، يصبح في مجرى التطور غير واقع، ويفقد ضرورته وحقه في الوجود، وصفته المعقولة. ومحل الواقع المتحضر يحل واقع جديد صالح للحياة، يحل محله سلميا، اذا كان القديم عاقلا وتقبل مصيره دون مقاومة، وبالعنف اذا عارض القديم هذه الضرورة. وهكذا فان موضوعة هيجل (كل ما هو واقع معقول، وكل ما هو معقول واقع) تتحول بفضل الديالكتيك الهيجلي، إلى نقضيها: كل ما هو واقع في مجال التاريخ الإنساني يغدو مع مرور الزمن منافيا للعقل، فهو إذن في طبيعته بالذات غير معقول، مطبوع مسبقا بخاتمة اللاعقلية. وكل ما هو معقول في اذهان الناس، محكوم عليه بأن يغدو واقعا مهما كان مناقضا للواقع المتصور القايم.
فالموضوعة التي تقول بأن كل ما هو واقع. معقول، تتحول وفقا لجميع قواعد طريقة التفكير الهيغلية، الي موضوعة أخرى، هي ان كل ما هو قايم مصيره الزوال.
أن الاهمية الحقيقية، والطابع الثوري للفلسفة الهيجلية، والتي ينبغي أن نقصر بحثنا عليها بوصفها المرحلة الختامية لكامل الحركة الفلسفية منذ كانط، فيقومان بالضبط، في ان فلسفة هيجل وضعت حدا نهائيا لكل تصور عن الطابع النهائي لنتايج فكر الإنسان وفعله. فالحقيقة التي كان ينبغي أن تعرفها الفلسفة، لم تبد لهيجل في شكل مجموعة من العقايد الجامدة الجاهزة، التي ليس للمر بعد اكتشافها الا ان يحفظها عن ظهر قلب.
لقد انحصرت الحقيقة مذ ذاك في مجرى المعرفة نفسه، في التطور التاريخي الطويل للعلم الذي يصعد من درجات دنيا إلى درجات أعلى، فأعلى، في سلم المعرفة، ولكن دون أن يبلغ ابدا نقطة لا يستطيع أن يستمر سيره منها بعد إيجاد ما يسمى الحقيقة المطلقة. ولم يعد له بتاتا ان يبقى حيث هو، مكتوف الأيدي، يتأمل بإعجاب الحقيقة المطلقة التي حصل عليها.
هكذا يجري، سوا في ميدان المعرفة الفلسفية ام في ميدان اي معرفة كان، وفي ميدان النشاط العلمي كذلك. ان التاريخ شانه، شان المعرفة، لن يكتمل نهائيا في وضع مثالي كامل للانسانية. فالمجتمع الكامل والدولة الكاملة، إنما هما شيان لا يمكن لهما وجود الا في المخيلة. بل الأمر علي النقيض من ذلك، فجميع النظم الاجتماعية التي تتعاقب في التاريخ ليست سوى مراحل مؤقتة لتطور المجتمع الإنساني، الذي لا نهاية له، من درجة دنيا إلى درجة عليا. فكل درجة ضرورية، يبررها بالتالي العصر والظروف التي ترجع إليها بنشاتها. ولكنها تغدو زايلة وغير مبررة ازا ظروف جديدة أرقى، تتطور شيا فشيا في احشايها بالذات. فهي مضطرة إلى أن تخلي المكان لدرجة أعلى، تنحط وتزول بدورها هي الأخرى. فكما ان البرجوازية تحطم عمليا، بواسطة الصناعة الكبيرة والمزاحمة والسوق العالمية، كل المؤسسات القديمة المثبتة التي قدستها العصور، كذلك تحطم هذه الفلسفة الديالكتيكية جميع التصورات عن الحقيقة المطلقة النهائية، وعن أوضاع الإنسانية المطلقة المناسبة لها. فليس هناك، بالنسبة الفلسفة الديالكتيكية، شي نهايي، مطلق، مقدس. إنها ترى حتمية الانهيار في كل شيء، ولا يوجد شيء يستطيع الصمود في وجهها الا المجرى المستمر للنشو والزوال، الصعود اللامتناهي من أدنى الي أعلى. وهي نفسها ليست سوى انعكاس بسيط لهذا المجرى في الذهن المفكر. ولها أيضا في الحقيقة، جانبها المحافظ. فهي تبرر كل مرحلة معينة من مراحل تطور المعرفة والعلاقات الاجتماعية في زمانها وظروفهما، لا أكثر. والصفة المحافظة لهذه الطريقة في الفهم نسبية، وطابعها الثوري مطلق. وهذا هو الشي الوحيد المطلق الذي تقبله الفلسفة الديالكتيكية..
ويشير هيجل لا سيما في كتابه (المنطق) إلى أن هذه الحقيقة الخالدة ليست سوى المجرى المنطقي التاريخي نفسه. ويجد هيجل بالذات نفسه، مضطرا إلى أن يضع لهذا المجرى نهاية. إذ كان عليه أن ينهي منهجه بشكل من الأشكال. ففي (المنطق) يستطيع أن يصنع من هذه النهاية بداية جديدة، لان النقطة النهائية، اي الفكرة المطلقة - التي ليست مطلقة الا لانه لا يستطيع مطلقا ان يقول عنها شيء - تنقل هناك نفسها اي تتحول إلى الطبيعة، وتعود من جديد إلى نفسها في الروح اي في الفكر والتاريخ..
كل ذلك لم يمنع منهج هيجل من ان يشمل ميدانا أوسع بكثير من اي منهج سبقه. وان يعطي في هذا الميدان ثروة من الأفكار ما زالت تدهشنا الي اليوم. كما في نظرية تطور الروح، التي تعد تصويرا للوعي الفردي في مختلف مراحل تطوره والتي تعتبر موجزا للدرجات التي مر بها الوعي الإنساني تاريخيا، وفي المنطق، وفلسفة الطبيعة، وفلسفة الروح، وهذه الأخيرة موضحة في فروعها التاريخية المنفصلة: فلسفة التاريخ والحقوق والدين، وتاريخ الفلسفة، وعلم الجمال الخ.
في كل ميدان من هذه الميادين التاريخية المختلفة، يحاول هيجل ان يجد خط التطور الذي يمر عبر هذا الميدان أو ذاك،أو يشير إلى هذا الخط. ولما كان هيجل ليس نابغة وحسب، بل كان علامة ذا معارف واسعة جدا، فإن عمله، أينما قام به، قد شكل عصرا كاملا.
ومن المفهوم ان ضروريات المنهج قد ارغمته كثيرا على اللجوء إلى إنشاءات قهرية، لا يزال خصومه الحقرا يطلقون بصددها الزعيق المزعج. غير أن هذه الإنشاءات لا تقوم الا بدور اطارات أو صقالات الصرح الذي يبنيه. ومن لم يتوقف هنا طويلا بل يتوغل في أعماق الصرح الجليل، سوف يجد فيه كنوزا لا عد لها، ولا تزال تحتفظ بكل قيمتها حتى أيامنا هذه.
أن المنهج بالضبط هو الشي الزايل عند جميع الفلاسفة. وذلك أن المناهج ناشية عن حاجة للروح الإنساني غير زايلة، هي حاجة التغلب على جميع التناقضات. ولكن لو ان جميع التناقضات كانت قد ازيلت نهاييا، لكنا وصلنا إلى ما يسمى الحقيقة المطلقة، ولكان انتهى التاريخ العالمي، ولكنه كان يجب على التناقض، في الوقت نفسه، أن يستمر حتى ولو لم يبق له شيء للعمل، الي ان يظهر تناقض جديد، تناقض لا يمكن حله.
أن الطلب من الفلسفة ان تحل جميع التناقضات، يعني الطلب من الفيلسوف الواحد ان يفعل فعلا لا تستطيعه الا البشرية جمعا في تطورها إلى الأمام. وحين ندرك هذا، والفضل في ذلك يعود إلى هيجل أكثر مما إلى أي شخص آخر، تنتهي كل الفلسفة، بالمعنى القديم للكلمة. ونترك الحقيفة المطلقة التي لا يمكن أن يدركها بهذا الطريق كل إنسان لوحده، ونسعي بالمقابل ورا الحقايق النسبية التي يمكننا أن ندركها، في طريق العلوم الإيجابية، معممين نتايجها بمساعدة الفكر الديالكتيكي.
فمع هيجل تنتهي، بوجه عام، الفلسفة، لان منهجه، هو نتيجة جليلة لتطور الفلسفة السابق كله،. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، لانه يرينا، ولو عن غير ادراك منه، الطريق الذي يقود من تيه المناهج هذا، إلى معرفة العالم معرفة حقيقية إيجابية".
* المصدر:
لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، ماركس انجلز، مختارات، الجز الرابع، دار التقدم، موسكو. ص 8-15
*كتابات ذات صلة:
لمن يرغب في التوسع في هذا النهج الذي مضى فيه انجلز هنا لقراءة هيجل يمكنه الرجوع إلى اهم مصدرين في هذا الاتجاه وهما:
1- الكسندر كوجيف، مدخل الي قراءة هيجل، ترجمة، عبد العزيز بمسهولي، رؤية، ٢٠٢١
٢- هربرت ماركيوز، العقل والثورة: هيجل ونشاة النظرية الاجتماعية، ترجمة د. فؤاد زكريا، الهيئة المصرية للنشر والتاليف، ١٩٧٠
abusara21@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: کل ما هو
إقرأ أيضاً:
مفاضلة الأهل بين الأبناء.. دراسة تكشف الحقيقة المفاجئة!
الولايات المتحدة – بحثت دراسة جديدة، أجرتها جامعة “بريغهام يونغ”، في تفاصيل وأسرار مفاضلة الوالدين بين أبنائهم، حيث حلل الباحثون مجموعة من الدراسات المتعلقة بمحاباة الوالدين للأطفال.
ووجد الباحثون أن كلا من الأمهات والآباء يفضلون بناتهم، وهو ما يتناقض مع الاعتقاد السائد بأن الآباء يفضلون الصبيان والأمهات يفضلن الفتيات.
وأوضحت الدراسة أن الفتيات قد يكن أسهل في التربية مقارنة بالصبيان، وأن الأطفال الذين يمتلكون سمات شخصية مثل الضمير الحي (أي روح المسؤولية والتنظيم) يكونون أكثر تفضيلاً لدى الوالدين.
وبينت الأبحاث السابقة أن كونك الطفل المفضل في الأسرة “يرتبط بصحة نفسية أفضل لك ونجاح أكاديمي أعلى وعلاقات رومانسية أكثر استقرارا”.
وقال الدكتور ألكسندر جينسن، قائد الدراسة: “في المرة القادمة التي تتساءل فيها عن تفضيل أحد الأشقاء على غيره تذكّر أن عوامل مثل المزاج أو روح المسؤولية قد تلعب دورا أكبر في التفضيل من نزعة الترتيب لدى الأبناء”.
وأضاف أن الأهل قد يجدون التعامل مع الأطفال ذوي الضمير الحي أسهل، ما يجعلهم أكثر تفاعلا معهم.
واستكشفت الدراسة أيضا تأثير عوامل مثل عمر الطفل وجنس الوالد على تفضيلات الوالدين، ووجدت أن هذه العوامل لها تأثير ضئيل. وفي المقابل، لوحظ أن الأطفال الواعين والمقبولين كانوا أكثر تفضيلا لدى والديهم، حيث يميلون إلى التفاعل بشكل أكثر توافقا مع الأنماط الأسرية، ما يقلل من الصراعات مع الإخوة.
نشرت الدراسة في مجلة Psychological Bulletin.
المصدر: ديلي ميل