الحركة المتأسلمة السودانية صانعة الحروب والأزمات بجدارة
تاريخ النشر: 18th, January 2025 GMT
عبدالمنعم النور
أحسن الكاتب خالد ابواحمد في رده على د. الدرديري محمد أحمد
بدأ القيادي بالحركة المتأسلمة د. الدرديري محمد أحمد في نشر سلسلة حلقات عن تعثر ونهوض حركتهم بعنوان (الإسلاميون السودانيون: لم تعثروا وكيف ينهضون)، ومن خلال الثلاث حلقات التي نشرت السلسلة عبارة عن تنظير وفذلكة تأريخية ويتضح منها أن الكاتب يريد أن يعطي صورة وردية وجميلة عن (الاسلاميين) ومحاولة ربطها بالتاريخ الاسلامي والثقافة الاسلامية، أعتقد أن السيد الدرديري ارهق نفسه في ما لا طائل منه، لان ما يكفي الناس هو التجربة الماثلة التي استمرت حتى الوقت الراهن 35 عاما ونتائجها معروفة لجميع أهل السودان.
عجبي جدا ما سطرته قلم الأستاذ الكاتب خالد ابواحمد في رده على السيد الدرديري وأتفق معه جملة وتفصيلا ذلكم لأن الجانب العملي في تجربة المتأسلمين هو الأبقى والأهم لأنه يمثل أهم معالم حُكم الكيزان وتأثيره المباشر على حياة السودانيين، وانا في هذا المقال أعقب على ما ذكره خالد ابواحمد وأضيف عليه أن الحركة (الاسلامية) التي حكمت السودان صنعت الأزمات الداخلية والاقليمية والدولية، ومن بين هذه الأحداث الكبير محاولة اغتيال الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك في العاصمة أديس أبابا في 1995م، وبفعل هذه الألاعيب الصبيانة تدهورت حياة السودانيين، وانتشر الفساد المالي والاداري في مؤسسات الدولة، والفساد والاخلاقي في المجتمع، وفتح أبواب البلاد لدخول الحركات المتشددة والقيادات المتطرفة مثل زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن الذي أقام في السودان 4 (سنوات) درب فيها قواته على أحدث الاجهزة التقنية والأمنية وبعدها مباشرة نفذ تنظيم القاعدة عددا من العمليات النوعية المعروفة.
أكثر من 35 عاما في حُكم الشعوب فترة ليست بالقصيرة حتى يتقاضى د. الدرديري الحديث عنها، فقد أثرت كثيرا في وضعية السودان الحالية، ويمكنني باختصار ذكر نماذج من الاضرار الكبيرة التي لحقت ببلادنا وأوجزها في الآتي:
اشعال الحروب في السودان مثل دارفور وجبال النوبة والنيل الازرق وشرق السودان وراح ضحيتها حوالي مليوني نسمة غير النازحين والمُهجرين، وحدثت أكبر جرائم ارتكبت في العصر الحديث في (دارفور) جريمة حرب وإبادة الجماعية في أول سنة منها (2004) بسببها اتهمت محكمة الجنايات الدولية الرئيس الأسبق عمر حسن البشير بارتكاب هذه الجريمة، وهو نفسه في حديث مؤثق على (اليوتيوب) يعترف بارتكاب هذه الجرائم، حينها قالت الأمم المتحدة ان الضحايا بلغوا 300 ألف نسمة، واستمرت بعد ذلك الحرب لسنوات طويلة واصبح الضحايا بالملايين الذين أرحقت قُراهم وهم بداخلها وتم ابادة أكبر ثروة حيوانية في السودان تقدر ب5 مليون رأس.
إن انهيار السودان اقتصاديا بدأ باحتكار (الإسلاميين) للعمل التجاري وجعلوه فقط لعضوية التنظيم والمتعاطفين معهم في مجال الاستيراد والتصدير، وهو ما أدى إلى إبعاد غالبية الشركات والقطاع الخاص عن العمل في السوق لصالحهم، فتوقفت الشركات والمؤسسات الانتاجية بسبب عدم معرفة وجهل الادارات الجديدة الذين جاءت بهم الحركة (الاسلامية) في مواقع ذات صلة بالخبرة والمهنية فكان التردي الإداري بسبب ابعاد العاملين المتخصيين فيها، كم تم طرد غالبية الكفاءات السودانية النادرة في مجالات القانون والطب والهندسة والتعليم..إلخ، في اطار ما عرف بسياسة (التمكين) الذي يعني اتاحة الفرص لكل لكوادر الحركة في العمل بالتجارة والوظائف الحكومية جميعها بلا استثناء.
في العشر سنوات الأولى من حُكم هذه الطائفة الاسلاموية "بلغ التدهور حداً أصبح فيه ظهر السودان مكشوفاً سواء من ناحية العلاقات الخارجية على الصعيدين الإقليمي والدولي أو من الجانبين السياسي والاقتصادي، حيث وصلت قيمة الجنيه إلى حد التلاشي، ففي يوم انقلاب (الإسلاميين) كان الدولار الأميركي يساوي 12 جنيهاً سودانياً، فيما وصل بعد 10 سنوات إلى 6.03 آلاف جنيه، وقفزت الديون الخارجية من 13 مليار دولار إلى 43 ملياراً وتزايدت البطالة من 9.8% إلى 36% والتضخم من 10.3% إلى 66% وانتشرت بطالة الشباب وقد مثل مشهد ازدحام السودانيين على أبواب السفارات الخليجية والأوربية والغربية بالخرطوم اعلان عن انهيار الدولة، الذي حذرت منه بوقت طويل المنظمة الأممية، وقد بات هذا الانهيار ظاهرا من تقارير الأمم المتحدة للتنمية البشرية فطيلة سنوات الحُكم أصبح السودان في المراكز الأخيرة عالميا مع اليمن والعراق والصومال.
حول الفساد المالي..إن الحركة (الاسلامية) التنظيم الحاكم بتحالف مع ضباط الجيش سخّرت إيرادات البلاد لمنسوبيها، واستخدمت المال العام أداة للبقاء في الحُكم، ما أدى في النهاية إلى حالة الإفلاس الشامل التي تمثلت في عجز الحكومة وشللها الكامل، خاصة في السنين الأخيرة للدرجة التي يذهب فيها المواطن للمصرف ليسحب من مدخراته التي أودعها يعتذر المصرف بعدم وجود سيولة، وتقدر إحصاءات غير رسمية إيرادات النفط وحدها كانت بنحو 90 مليار دولار، الرقم الفعلي غير معروف بسبب تكتم النظام عليه، لكنها لم تستخدم في تنمية البلاد، بل ذهبت إلى تمويل الأجهزة الأمنية والعسكرية للنظام، وإلى جيوب ذوي الحظوة منه وقد أثرى رموز النظام ثراء فاحشاً، وبنوا القصور الشامخات واشتروا الاراضي في ماليزيا وتركيا وغيرها، ومما لا يذكر في الإعلام كثيرا دعم النظام للجماعات المتشددة في عدد من الدول وارتباطها الوثيق بالاسلاميين في مصر وتركيا وقطر هذه العلاقات ذات طبيعة مالية..!.
انتشار المخدرات الآتية من الخارج عنوان كبير لفساد لم يكن تأثيره في المجالات الاقتصادية فحسب بل في انتشار تعاطي المخدرات وسط الشباب باعداد كبيرة جدا، وقد وضح أن قيادات نافذة في النظام كانت وراء استيراد حاويات مخدرات. بكميات ضخمة للمتاجرة بها، كشفت عنها السلطات في ميناء بورت سودان في اكتوبر/تشرين أول 2014م وهو ما حدا بالقيادي (الاسلامى) المعروف البروفسير حسن مكى أن يؤكد تورط نافذين فى هذه القضية الشهيرة بقوله "ان حجم المخدرات (735) مليون حبة مخدرة، وأن الحركة فشلت فى تحويل قضية المخدرات الى المحكمة بسبب افتقارها للغيرة الوطنية والدينية".
بشأن سرقة الموارد في ديسمبر/كانون الأول 2010م اتهم لويس مورينو أوكامبو مدعي المحكمة الجنائية الدولية الرئيس السوداني(الأسبق) عمر حسن أحمد البشير باختلاس مبالغ تصل إلى 9 مليار دولار من أموال الدولة وإيداعها في حسابات أجنبية، وفقا لمراسلات دبلوماسية أمريكية سربها موقع (ويكيليكس) ،وتقول الوثائق المسربة والتي نشرت في صحيفة (الجارديان) البريطانية إن دبلوماسيين قد نقلوا عن المدعي العام للمحكمة الجنائية قوله إن الجزء الأكبر من هذه المبالغ قد يكون أودع في بنوك بالعاصمة البريطانية لندن.
إن قادة النظام مارسوا نوعا من الفساد لم يخطر على بال أحد مثل بيع أهم الشركات التي ترفد الميزانية العامة بالعملات الأجنبية وتدعم الاقتصاد الوطني على سبيل المثال وليس الحصر (الخطوط الجوية السودانية- الخطوط البحرية السودانية- هيئة النقل المكانيكي، هيئة النقل النهري، وأهم شركات التجارة والملاحة التي تعمل في مجالات الاستيراد والتصدير على مستوى العالم نتج عنها تشريد آلاف العمال والموظفين والخبرات الاقتصادية، كما تم بيع مؤسسات ناجحة كانت ركيزة اقتصادية قوية للدولة تحولت ملكيتها للقطاع الخاص بل إلى أشخاص نافذين في التنظيم الحاكم، ونسبة لعدم علاقتهم بالاقتصاد فشلت هذه الشركات الكبيرة وخرجت من السوق نهائيا، إضافة إلى بيع أهم العقارات السودانية في أهم مدن العاصمة البريطانية (لندن) وفي عدد من الدول الأوروبية.
إن سرقة الموارد حدثت في ذات الوقت الذي أعفت فيه الحركة (الإسلامية) كل المؤسسات التجارية الضخمة التابعة لها من الضرائب ومن الجمارك، ولا تمتد إليها الرقابة المالية ولا الإدارية، علاوة على فقدان السودان للكثير من البنوك الناجحة التي خرجت من الخدمة بسبب الإدارة غير الكفوءة والجهل بالعمل المصرفي، الأمر الذي أفقد البلاد موارد مالية ضخمة لا تقدر برقم معين.
جهاز أمن الدولة التي ترفع (شعار الاسلام) مارس الاغتصاب داخل السجون والمعتقلات لكسر إرادة المختلفين معه في الرأي والفكر، وهذا الاغتصاب لم يكن للنساء فقط بل حتى الرجال، وفي محكمة قضية مقتل الأستاذ أحمد الخير إحدى أشهر عمليات القتل في السودان في ظل حُكم (الإسلاميين) قال المتحري أن "المتهم السادس ذكر للمعتقلين أنه "اختصاصي اغتصاب"، ولمن لا يعرف فإن الأستاذ احمد الخير قتل بالتعذيب النفسي والجسدي بعد أن تم اغتصابه، وهذه الممارسة ليست فردية بل ممارسة ممنهجة.!
ومن هنا أذكر بأن حُكم هذه الجماعة في السودان كانت أسوأ تجربة حُكم مرت بها البشرية والمنطقة العربية والاسلامية، بعيدا عن ما تعارف عليه أهل السودان من مبادئ وتقاليد اسلامية واعراف اجتماعية وسماحة، إن حكم الاسلامويين للسودان نشر الخوف والرعب وبسياستهم الممنهجة غير المتزنة، وألحق أضرارا بالغة بالأمن الوطني وأضعف الدولة حتى أصبحت على شفاء حفرة من الانهيار الكامل بل انهارت بالفعل كما حدث بالعراق ولبنان واليمن، وأن الحرب المستمرة في السودان من صنيع افكارهم الخربة ونواياهم السوداء القاتمة وقد تعودوا على اراقة الدماء وآهات الثكالى ونواح أمهات الضحايا.
وأقول للسيد الدرديري محمد أحمد أن ما كتبته في سياق حلقاتك الست لا يمثل أهمية تذكر لأنه كلام والسلام، السودانيين عليهم ما حدث على أرض الواقع، ومن هنا يجب القول بأن المستقبل الذي متأكدين منه سوف لا يكون فيه للحركة المتأسلمة أي دور، فإن الكراهية المقيتة داخل نفوسنا كسودانيين تجاهكم سوف لا تجعل لكم مكانة بيننا، نعم لديكم القدرة على صناعة الشر لكن ليس لديكم القدرة على كسر إرادة الشعب.
إن حملات الانتقام التي تقومون بها حاليا من الشعب السوداني والعنصرية التي تزرعونها الآن ستحصدون نتائجها أنتم، وبإذن الله ستقتلعون من السودان اقتلاعا نتيجة لما اريقتموه من دماء وأحدثتموه من خراب.
abd_noor20@yahoo.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: فی السودان
إقرأ أيضاً:
قراءة في نص “تأسيس” نيروبي: الأصولية العلمانية (2-2)
عبد الله علي إبراهيم
علمانية الدولة
بدا أن جائزة عبدالعزيز الحلو التي أغرته بـ"تأسيس" هو قبولها بغير شيء من ضرب الأخماس في الأسداس أن تنص وثيقتها صريحاً على مطلب "علمانية الدولة" (في الديباجة) كما لم يفعل عهد سوداني من قبل. وعلمانية الدولة عقيدة مؤثلة للحلو اضطر أحياناً إلى استبدالها بـ"فصل الدين عن الدولة" في وثائق وقعها مع طيف واسع من الأحزاب السودانية وحتى مع الفريق ركن عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة عام 2021. وطالما هبت الريح علمانية ناحيته جاء الحلو إلى الوثيقة بمطلب أذاعته حركته وهو أن ينص الدستور القادم على "مبادئ فوق دستورية" مثل العلمانية وهي التي لا تخضع للتعديل مثل غيرها التي ينص الدستور على إجراءات تعديلها. فهذه المبادئ فوق الدستورية في الحفظ والصون ومتى أراد أحد تغييرها صار من حق الجماعات السودانية المتضررة نفض يدها عن البلد بممارسة حق تقرير المصير (الباب الأول المادتان 3 و7).
ومع اقتناع كثر بأن فصل الدين عن الدولة بصورة أو أخرى أزف بدليل أنه ورد مكرراً تكراراً مزعجاً في وثيقة "اتفاق سلام جوبا" إلا أن إصرار الحلو على "توثين" علمانية الدولة، توثيناً يعتزل بها الصراع السياسي الذي قد ينال من العلمانية وحتى الديمقراطية، فهو حال استثنائية في عبادة مبدأ سياسي خلت منه المبادئ. وبدا من الحلو من فرط هذا التوثين أنه مصاب بـ"الأصولية العلمانية" التي حذرنا منها جون إسبسيتو الأستاذ بجامعة "جورج تاون"، تحذيره من الأصولية الدينية. فمعرفتنا الراهنة بالدين في رأيه هي "بنت ضغينة علمانية تمكنت من الصفوة الحديثة". فغالباً ما جرى التعامل مع الدين بلا مبالاة أو بعداء صريح. ويقع تحذير "إسبسيتو" من الأصولية العلمانية في سياق مراجعة لعلاقة الدين بالعلمانية انعقدت منذ عقود. فالأكاديمي الأميركي كريق كالهون من المراجعين، صرف من اعتقد أن العلمانية حال خالصة خلت من الدين بالكلية. فقال "غالباً ما أخذنا العلمانية كحالة غياب عما عداها. فهي في اعتقادنا ما يتبقى لنا متى تلاشى الدين لا من السياسة فحسب، بل من الوجود" كما كان مطلب الثورة الفرنسية وممارستها في أول عهدها حتى بدلت الفرنسيين، وإلى حين، ديناً أحسن من دينهم في رأيها.
ونبه نيكلوس كريستوف الصحافي في "نيويورك تايمز" في أعقاب ذيوع العبارة الدينية في عهد الرئيس جورج بوش الابن إلى القطيعة القائمة بين الصحافة الليبرالية و"المهتدين الجدد" من الأميركيين. فيؤمن، إحصائياً، 48 في المئة من الأميركيين، في قوله، بخلق الله للعالم في سبعة أيام بينما يؤمن 28 في المئة منهم بمبدأ داروين. ويعتقد الأميركيون بنسبة الثلثين أو يزيد بوجود الشيطان بأكثر من صدقية نظرية داروين. وتعيش هذه الجماعة المهتدية بمعزل عن الليبراليين في ثقافتها المستقلة. فمن بين أكثر الكتب مبيعاً سلسلة كتب مسيحية عن نهاية الكون وزعت 50 مليون كتاب. ومن بين أكثر مقدمي برامج التلفزيون شهرة داعية إنجيلي يشاهده الناس داخل 190 قطراً في العالم. ومن يرى ليومنا طي خيام الليبرالية بيد إدارة الرئيس ترمب صدق قول من سمى تدين الدولة في عهد بوش بـ"الصحوة الدينية الرابعة" خلال الـ300 عام من عمر أميركا. فاللدين طرائق قدداً في الأوبة بعد الغيبة.
إعادة تأسيس
اتفق لـ"تأسيس" إعادة تأسيس كل القوى العسكرية والأمنية والخدمية المدنية من أول وجديد. فسينشأ بمقتضى وثيقتها جيش جديد مهني وقومي يمثل الطيف السوداني وتحت قيادة مدنية. وهو جيش خلا من الولاءات السياسية والجهوية والإثنية ولا تداخل له في السياسة والاقتصاد. وستكون إعادة الـتأسيس هذه حين يغلب حلف "تأسيس" ويمسك بزمام الدولة (الباب الأول 14). وحتى ذلك اليوم ستحتفظ الجماعات المسلحة الموقعة على "تأسيس" بقواتها العسكرية، أو ما وصفته الوثيقة بالاستمرار في "الكفاح المسلح كوسيلة من الوسائل المشروعة للمقاومة والنضال من أجل التغيير وبناء السودان (الباب الأول 20). فصاروا في حال بخلاء الجاحظ. جلسوا حول قدر ماء يغلي رمى فيه كل واحد منهم بقطعة لحمه مشدودة إلى الخيط لتنضج، فتفرق طعامهم بينما القدر واحد.
وبدا من نص "تأسيس" أن رهاب الإسلاميين "الكيزان" هو ما أوحى حصرياً به. فلم تكتف "تأسيس" بحل حزب المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية وتفكيكهما (الباب الأول 32) بل نصت على تحريم قيام أي حزب أو تنظيم سياسي على أساس ديني. وربما أبعدت الوثيقة النجعة هنا لاعتقادها أن "الكيزان"، الذين أقاموا بالحق نظاماً سياسياً كئيباً، هم آخر من يرغب أن تؤوب الدولة للدين. فلا استنفاد لرغائب أمة من المسلمين ولا لعزائمهم في أن يحكموا دينهم فيهم هم، لا في غيرهم، مما ساحته التشريع المنتظر، أي القنطرة البعيدة لا تزال. وهي القنطرة التي جاءت في الوثيقة بدعوتها الالتزام بمبدأ العمل السياسي السلمي في السودان الجديد على "أسس وقواعد ومبادئ النظام الديمقراطي والشرعية الدستورية" (الباب الأول 19). وبالطبع سارعت الوثيقة في نصها هنا لتجريم "استغلال الدين لأغراض سياسية". وهذا بلا مراء خرق للديمقراطية التي جاءت في النص والتي تقوم على المنافسة من فوق برامج سياسية على مرأى من ناخبين ومسمع. فجذم آصرة الدين عن السياسة هو ما أوقعتنا فيه عبارة "الإسلام السياسي" التي ناسبت خصوم المشروع الإسلامي ليقولوا إن ثمة إسلام آخر غير سياسي، وكفى به.
وساق هذا الرهاب من الإسلام إلى نوع هوس، فلم تكتف "تأسيس" بتحصين العلمانية كمبدأ فوق دستوري يأذن للجماعة المتضررة كما رأينا بالطلاق من الأمة متى جرى انتهاكه، بل سارعت بتجريم حتى قيام الحزب الذي يدعو لغير العلمانية. ولو صح أن تكون المظالم من "نظام الإنقاذ" هي مبلغ علمنا في تدبير شأننا السياسي لجرمت "تأسيس" قيام الأحزاب على أساس إثني. فهول الإثنية والسلالية على السودان ليس أقل من هول الحزب الديني عليه. ولكن لم يطرأ لواضعي "تأسيس" منع قيام الحزبية على الإثنية والقبائلية لأنه ما اجتمع في نيروبي إلا كل ذي عصبية منهما. ويكفي أن بين الموقعين على "تأسيس" ممثل لـ"مؤتمر البجا" وهو شعب في شرق السودان.
تَطَيُر الصفوة من حلف نيروبي وشفقتهم من أن يؤدي إلى تقسيم السودان وظيفة لاكتفائها من الواقعة دون نصها. فمن قرأ "تأسيس" في سياقاته التاريخية وملابساته المعاصرة أشفق على أهله قبل السودان لأنهم صدروا فيه عن غبائن من "الكيزان" كأن نجاة السودان في إلغائهم. فرهنوا بذلك أنفسهم لعادة معارضة الكيزان أو اللوثة بهم، لا يزال، بينما استحق السودان جرأة في تخيله تضع "دولة الإنقاذ" حيث هي في ذمة التاريخ مهما بدا من انتفاش منها يحاكي صولة الأسد. فمن شأن قراءة مثل "تأسيس" أن تزيل في قول أحدهم "المحق الدارج والمفازع المبالغ فيها".
ibrahima@missouri.edu