هيرست: الحرب على غزة خلقت جبهة عالمية لتحرير فلسطين
تاريخ النشر: 18th, January 2025 GMT
#سواليف
قال رئيس تحرير موقع “ميدل إيست آي” البريطاني، #ديفيد_هيرست؛ إن الشعب الفلسطيني أثبت للعالم أنه قادر على تحمل الحرب الشاملة، وعدم التزحزح عن أرضه.
وفي مقاله المنشور على الموقع، قال؛ إن #الحرب في #غزة أصبحت بمنزلة المنشور الذي يرى من خلاله جيل جديد من قادة العالم المستقبليين، #الصراع #الإسرائيلي _الفلسطيني.
وتابع: “لقد أدت الاحتجاجات المناهضة للحرب، التي أدانتها الحكومات الغربية في البداية؛ باعتبارها معاداة للسامية ثم سنت قوانين ضدها باعتبارها إرهابا، إلى خلق جبهة عالمية لتحرير فلسطين. إن حركة مقاطعة إسرائيل أقوى من أي وقت مضى”.
وأضاف أنه “في حرب التحرير، يمكن للضعفاء والأقل تسليحا أن ينجحوا في مواجهة الصعاب العسكرية الساحقة. هذه الحروب هي معارك إرادة. ليست المعركة هي المهمة، بل القدرة على الاستمرار في القتال”، وإنه بعد 15 شهرا من الوحشية، فشلت إسرائيل على كل الجبهات، بحسب تعبيره.
مقالات ذات صلة باحثان إسرائيليان: ما يحدث في غزة إبادة جماعية ستلطخ تاريخ اليهود للأبد 2025/01/18وفي ما يأتي الترجمة الكاملة لمقال هيرست:
عندما حان وقت الحسم، كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أول من يرمش.
ظل نتنياهو، وعلى مدى شهور، العقبة الرئيسية في طريق وقف إطلاق النار في غزة، الأمر الذي كان يسبب إحباطا هائلا لدى وفده المفاوض.
وهذا ما تجلى بكل وضوح قبل أكثر من شهرين عندما غادر وزير دفاعه يوآف غالانت، المهندس الرئيسي للحرب المستمرة منذ خمسة عشر شهرا، قائلا؛ إنه لم يبق لدى الجيش ما يفعله داخل غزة.
ومع ذلك، أصر نتنياهو على الاستمرار، رافضا في الربيع الماضي صفقة وقعت عليها حركة حماس بحضور مدير الـ”سي آي إيه” وليام بيرنز، ومفضلا شن هجوم على رفح.
وفي الخريف، توجه نتنياهو من أجل الخلاص نحو خطة الجنرالات، التي كانت تهدف إلى تفريغ شمال غزة من السكان؛ تمهيدا لإعادة توطين الإسرائيليين فيه. كانت الخطة تقضي بتجويع السكان وقصفهم في شمال غزة، من خلال الإعلان عن أن كل من يرفض المغادرة طواعية، فسوف يعامل كما لو كان إرهابيا.
كانت تلك الخطة غاية في التطرف، وغاية في التناقض مع القواعد الدولية المتعارف عليها في الحرب، لدرجة أنها تعرضت للتنديد على لسان وزير الدفاع الإسرائيلي السابق موشيه يعالون؛ باعتبارها جريمة حرب وتطهيرا عرقيا.
من أبرز ما تضمنته الخطة، إقامة ممر يتألف من طريق عسكري وسلسلة من المواقع الأمامية، يخترق وسط قطاع غزة، ويمتد من الحدود الإسرائيلية إلى البحر. كان من شأن ممر نيتساريم فعليا اختزال الكتلة الأرضية في المنطقة إلى ما يقرب من الثلث، بحيث تصبح حدود “إسرائيل” الجديدة من الجهة الشمالية. وتقضي الخطة بعدم السماح لأي فلسطيني يغادر شمال غزة بالعودة إليه.
إزالة الخطوط الحمر
لم يجبر أحد من إدارة بايدن نتنياهو على إعادة النظر في هذه الخطة. لا الرئيس جو بايدن نفسه، وهو الصهيوني حتى النخاع، الذي ظل، بغض النظر عن كل خطاباته، يزود “إسرائيل” بالأدوات والوسائل التي تمكنها من ارتكاب الإبادة الجماعية في غزة. ولا أنتوني بلينكن، وزير خارجيته، الذي اكتسب عن جدارة في المنطقة لقب الدبلوماسي الأدنى مصداقية على الإطلاق.
حتى بينما كانت توضع اللمسات الأخيرة على اتفاق وقف إطلاق النار، خرج بلينكن على الناس في مؤتمر صحفي أخير قبل المغادرة، وجه من خلاله اللوم لحركة حماس، محملا إياها المسؤولية عن رفض العروض السابقة، مع أن العكس تماما هو الصحيح.
ما من صحفي إسرائيلي شارك في تغطية أخبار المفاوضات، إلا وأكد أن نتنياهو هو الذي رفض جميع الصفقات السابقة، وأنه هو الذي يتحمل المسؤولية عن التسويف الذي أخر التوصل إلى صفقة. ولم يجد نفعا مع نتنياهو حتى يوقف الحرب المستمرة منذ خمسة عشر شهرا، سوى لقاء قصير جمعه مع المبعوث الخاص إلى الشرق الأوسط للرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، ستيف ويتكوف.
بعد لقاء واحد فقط، أزيلت جميع الخطوط الحمراء التي ظل نتنياهو يرسمها بهمّة، ثم يعيد رسمها المرة تلو الأخرى، على مدى خمسة عشر شهرا من الحرب.
قال المعلق السياسي الإسرائيلي إيريل سيغال: “نحن أول من يدفع ثمنا مقابل انتخاب ترامب. لقد تم فرض الصفقة علينا. كنا نظن أننا سوف نتحكم بشمال غزة، وأنهم سوف يتركوننا نعيق دخول المساعدات الإنسانية”.
ثمة إجماع على ذلك. بل إن المزاج العام داخل “إسرائيل” يشكك في مزاعم النصر. وعن ذلك، كتب الصحفي في “واي نيت” يوسي يهوشوا يقول: “لا يوجد داع لتحلية حقيقة أن صفقة وقف إطلاق النار وإطلاق سراح الرهائن سيئة بالنسبة لإسرائيل، ولكن لا خيار لديها سوى القبول بها”.
فما تم تداوله من بنود اتفاق وقف إطلاق النار ينص بوضوح على أن “إسرائيل” سوف تنسحب في نهاية المطاف من ممر فيلادلفيا ومن ممر نيتساريم، وهي الشروط التي كان قد رفضها نتنياهو من قبل.
وحتى دون ذلك، تشير مسودة الاتفاقية بوضوح إلى أن الفلسطينيين بإمكانهم العودة إلى منازلهم، بما في ذلك في شمال غزة، وبذلك تكون محاولة إخلاء هذه المنطقة من سكانها قد باءت بالفشل، وهذا أكبر إخفاق يُمنى به الغزو البري الإسرائيلي.
القتال من جديد
وهناك قائمة من الأمور الأخرى. ولكن قبل أن نسردها، لا بد من الإشارة إلى أن نكبة ويتكوف تؤكد أن “إسرائيل” كانت تعتمد على واشنطن في كل يوم من أيام الذبح المريع الذي مارسته في غزة. حتى إن مسؤولا في سلاح الجو الإسرائيلي اعترف بأن الطائرات كان يمكن أن تصبح بلا قنابل خلال بضعة شهور، لولا تزويد الولايات المتحدة لها بالعتاد اللازم.
لقد وقر في الرأي العام الإسرائيلي، أن الحرب تنتهي دون إنجاز أي من الأهداف الرئيسية لـ”إسرائيل”.
فقد خرج نتنياهو ومعه الجيش الإسرائيلي عازمين على “دحر” حماس بعد المهانة والصدمة، التي حلت بهم بسبب الهجوم المباغت على جنوب إسرائيل في أكتوبر (تشرين الأول) 2023. من الواضح أنهم لم يتمكنوا من تحقيق هذه الغاية.
خذ بيت حانون في شمال غزة كنموذج للمعركة التي شنتها حماس ضد القوات الغازية. كانت تلك قبل خمسة عشر شهرا، هي المدينة الأولى في غزة التي تحتلها القوات الإسرائيلية، والتي خلصت إلى أن أضعف كتائب حماس توجد فيها.
ولكن بعد موجات متتالية من العمليات العسكرية، وكان يفترض في كل واحدة من هذه الموجات أنها كفيلة بإخلاء المدينة من مقاتلي حماس، ثبت أن بيت حانون وحدها كبدت الجيش الإسرائيلي أكبر حجم من الإصابات.
ظلت حماس تنبعث من تحت الأنقاض لتقاتل مجددا، محولة بيت حانون إلى حقل ألغام للجنود الإسرائيليين. منذ إطلاق أحدث العمليات العسكرية في شمال غزة، قضى خمسة وخمسون ضابطا وجنديا إسرائيليا حتفهم في هذا المحور، خمسة عشر منهم في بيت حانون فقط خلال الأسبوع الأخير.
لو كان هناك جيش يتعرض للاستنزاف والإنهاك اليوم، فإنه جيش “إسرائيل”. فالحقيقة العسكرية البسيطة للحياة في غزة، هي أنه بعد مرور خمسة عشر شهرا، مازال بإمكان حماس التجنيد والتجديد بمعدل أسرع من قدرة “إسرائيل” على قتل زعمائها أو مقاتليها.
في تصريح لصحيفة “ذي وول ستريت جورنال”، قال الجنرال الإسرائيلي المتقاعد أمير أفيفي؛ “إننا في وضع باتت سرعة حماس في إعادة بناء نفسها أكبر من قدرة إسرائيل على اجتثاثها”. وأضاف قائلا؛ إن محمد السنوار، الشقيق الأصغر لزعيم حماس المقتول يحيى السنوار “هو الذي يدير المشهد بأسره”.
لو كان هناك ما يثبت عدم جدوى قياس النجاح العسكري فقط من خلال عدد الزعماء الذين يتم قتلهم، أو الصواريخ التي يتم تدميرها، فإنه هذا هو الأمر.
مخالف لكل التوقعات
في حرب التحرير، بإمكان الضعيف عدة وعتادا تحقيق النجاح، مخالفا بذلك كل التوقعات. فهذه الحروب ما هي سوى معارك إرادة. ليست المعركة هي التي يعول عليها، وإنما القدرة على الاستمرار في القتال.
في الجزائر وفي فيتنام، كانت الجيوش الفرنسية والأمريكية تتمتع بتفوق عسكري كاسح، ولكن انتهى الأمر بالقوات في كلتا الحالتين إلى الانسحاب بعد سنين عديدة، في حالة من الخزي والإخفاق. تحقق ذلك في فيتنام بعد ست سنين من هجوم تيت، الذي كان -تماما- كما هو حال هجوم السابع من أكتوبر 2023، يعد في حينه عملية عسكرية فاشلة. ولكن رمزية القتال من جديد بعد كل تلك السنين من الحصار، أثبتت أنها العامل الحاسم في الحرب.
في فرنسا، مازالت ندبات التجربة في الجزائر حية حتى اليوم. في كل حرب من حروب التحرير، يثبت تصميم الضعيف على المقاومة أنه أشد حسما من القدرات العسكرية للقوي.
في غزة، كان تصميم الشعب الفلسطيني على البقاء في أرضه – حتى وهي تتحول إلى ركام – هو العامل الحاسم في هذه الحرب. وهذا إنجاز مذهل إذا ما أخذنا بالاعتبار أن المنطقة التي لا تتجاوز مساحتها الـ360 كيلومترا مربعا، كانت مقطوعة بالكامل عن العالم، دون حلفاء يساعدون في كسر الحصار، بدون تضاريس طبيعية تساعد على الاختباء.
صحيح أن حزب الله قاتل في الشمال، ولكن ذلك لم يسعف الفلسطينيين في غزة بشيء على الأرض، وهم الذين كانوا عرضة للقصف الليلي المستمر، وللهجمات التي كانت تشن عليهم بالطائرات المسيرة لتمزيق الخيام التي تؤويهم.
لا المجاعة القسرية، ولا البرودة، ولا المرض، ولا التنكيل الوحشي والاغتصاب الجماعي على أيدي الغزاة، فت في عضدهم أو نال من تصميمهم على البقاء في أرضهم.
لم يحدث من قبل أن أظهر المقاتلون والمدنيون الفلسطينيون مثل هذا المستوى من المقاومة في تاريخ الصراع، ولعل ذلك يكون نقطة تحول تاريخي.
وذلك لأن ما خسرته “إسرائيل” في حملتها التي كانت تهدف إلى سحق غزة لا يمكن حسابه، فقد هدرت عقودا من الجهود الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية المستدامة، التي بذلتها من أجل إقناع الرأي العام الغربي بأنها بلد غربي ليبرالي ديمقراطي.
ذاكرة الأجيال
لم تخسر “إسرائيل” جنوب المعمورة فحسب، رغم ما استثمرته من جهود في أفريقيا وفي جنوب أمريكا، بل قد خسرت أيضا دعم جيل من أبناء الغرب، الذين ليست لديهم تلك الذاكرة الطويلة التي لدى بايدن.
لست صاحب هذه الفكرة، وإنما صاحبها هو جاك ليو، الرجل الذي عينه بايدن سفيرا لدى “إسرائيل” قبل شهر واحد من هجوم حماس.
ففي مقابلة أجرتها معه صحيفة “ذي تايمز أوف إسرائيل” بمناسبة مغادرته لمنصبه، قال ليو، وهو يهودي أرثوذكسي؛ إن الرأي العام في الولايات المتحدة ما زال إلى حد كبير مناصرا لـ”إسرائيل”، ولكن ذلك آخذ في التغير.
وقال: “ما قلته للناس هنا؛ إن ما ينبغي أن يخشوا منه عندما تنتهي هذه الحرب، هو أن ذاكرة هذا الجيل لا تمتد لتصل إلى تأسيس الدولة ولا إلى حرب الأيام الستة ولا إلى حرب أكتوبر ولا حتى إلى الانتفاضة، بل تبدأ بهذه الحرب، ولا يمكن للمرء تجاهل أثر هذه الحرب على صناع القرار في المستقبل، وليس على من يصنعون القرار اليوم، وإنما من أعمارهم اليوم 25 أو 35 أو 45، والذين سوف يكونون هم الزعماء خلال الأعوام الثلاثين أو الأربعين القادمة”.
وقال ليو؛ إن بايدن كان آخر رئيس من أبناء جيله الذين تمتد ذاكرتهم في القدم، لتشمل حكاية تأسيس “إسرائيل”.
ما تحدث عنه ليو في تصريحه الأخير الموجه ضد نتنياهو، توثقه بشكل كاف استطلاعات الرأي الأخيرة؛ فأكثر من ثلث الشباب اليهود الأمريكيين يتعاطفون مع حماس، بينما يعتقد 42 بالمائة بأن “إسرائيل” ترتكب إبادة جماعية في غزة، ويتعاطف 66 بالمائة مع الفلسطينيين كشعب بالمجمل.
ليست هذه ظاهرة جديدة؛ فقد أظهر استطلاع للرأي أجري قبل الحرب بعامين، أن ربع اليهود الأمريكيين يتفقون مع مقولة؛ إن “إسرائيل دولة فصل عنصري”، ناهيك عن أن أعدادا كبيرة ممن استطلعت آراؤهم لم يجدوا في هذه العبارة معاداة للسامية.
ضرر عميق
لقد غدت الحرب في غزة المنشور الذي يرى من خلاله الجيل الجديد من زعماء المستقبل في العالم الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وهذه خسارة استراتيجية كبيرة لبلد كان يظن حتى السادس من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 بأنه طوى ملف القضية الفلسطينية، وأن الرأي العام العالمي بات في جيبه.
إلا أن الضرر أبعد وأعمق من ذلك.
لقد أوجدت الاحتجاجات ضد الحرب، التي نددت بها الحكومات الغربية أولا باعتبارها معاداة للسامية ثم راحت تشرع ضدها باعتبارها إرهابا، جبهة عالمية لتحرير فلسطين، بينما غدت حركة مقاطعة “إسرائيل” أقوى من أي وقت مضى.
تقف “إسرائيل” اليوم في قفص الاتهام داخل المحاكم الدولية، وهو أمر لم يسبق أن حدث من قبل. لا يقتصر الأمر على صدور مذكرات توقيف بحق نتنياهو وغالانت بتهمة ارتكاب جرائم حرب، ولا على استمرار قضية الإبادة الجماعية المرفوعة لدى محكمة العدل الدولية، وإنما ثمة عدد كبير من القضايا الأخرى، التي توشك أن تغرق بها المحاكم في كل واحدة من الديمقراطيات الغربية الكبرى.
هناك قضية مرفوعة داخل بريطانيا ضد شركة “بريتش بتروليوم” لقيامها بتزويد “إسرائيل” عبر خط أنابيبها الممتد من أذربيجان إلى تركيا بالنفط الخام، الذي يزعم أنه يستخدم بعد ذلك من قبل الجيش الإسرائيلي.
إضافة إلى ذلك، قرر الجيش الإسرائيلي مؤخرا إخفاء هويات جميع جنوده الذين شاركوا في الحملة على غزة؛ خشية أن تتم ملاحقتهم قانونيا حينما يسافرون إلى الخارج.
كانت شرارة هذا الحراك الكبير قد أطلقتها مجموعة صغيرة من النشطاء أطلقت على نفسها اسم الفتاة هند رجب، التي كانت في السادسة من عمرها عندما قتلتها القوات الإسرائيلية في غزة في كانون الثاني/ يناير 2024.
تقدمت المجموعة التي تتخذ من بلجيكا مقرا لها من المحكمة الجنائية الدولية بأدلة ضد ألف إسرائيلي بتهمة ارتكاب جرائم حرب. تشتمل الأدلة على مقاطع مصورة ومسموعة وعلى تقارير صادرة عن الطب الشرعي، وغير ذلك من الوثائق.
لن يكون وقف إطلاق النار نهاية كابوس فلسطين، وإنما بداية كابوس “إسرائيل”. لن تلبث هذه التحركات القانونية أن تكتسب مزيدا من الزخم كلما تكشفت حقائق ما جرى في غزة، وحينما يبدأ توثيقها بمجرد توقف الحرب.
الانقسامات الداخلية
محليا، سوف يعود نتنياهو من الحرب إلى بلد يعاني من انقسامات داخلية غير مسبوقة، فهناك معركة بين الجيش والحريديم الذين يرفضون الخدمة العسكرية. وهناك معركة بين العلمانيين من جهة والصهاينة القوميين المتدينين من جهة أخرى. وبانسحاب نتنياهو من غزة، ينتاب اليمين المتطرف إحساس بأن فرصة إقامة “إسرائيل الكبرى” تم انتزاعها من فكي الانتصار العسكري. وطوال الوقت، لم تزل “إسرائيل” تشهد خروجا غير مسبوق لليهود منها.
على مستوى الإقليم، تبقى لدى “إسرائيل” قوات داخل لبنان وسوريا. لعله من الحماقة الظن بأن هذه العمليات المستمرة سوف تستعيد الردع الذي فقدته “إسرائيل”، عندما هاجمتها حماس في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
لربما تلقى محور المقاومة الذي تقوده إيران بعض الضربات المستدامة بعد القضاء على قيادة حزب الله، وبعد أن وجد الحزب نفسه ينتشر فوق طاقته في سوريا. ولكن مثله مثل حماس، لم يتعرض حزب الله لضربة قاضية باعتباره قوة قتالية.
يضاف إلى ذلك أن العالم العربي السني يشعر بانزعاج شديد غير مسبوق، بسبب ما جرى في غزة وما يمارس من قمع داخل الضفة الغربية.
كما أن مساعي “إسرائيل” المكشوفة لتقسيم سوريا إلى كانتونات، يثير حفيظة السوريين من كل المذاهب والعرقيات، وكذلك الحال بالنسبة لخططها ضم مناطق (ب) و(ج) في الضفة الغربية، وهو ما يشعر الأردن بأنه يشكل تهديدا وجوديا له. سوف يتم يتعامل في عمّان مع ضم تلك المناطق من الضفة باعتباره عملا حربيا.
سوف تكون إزالة التضارب بمنزلة العمل الصبور لعقود من إعادة البناء، ولكن ترامب ليس رجلا صبورا.
والآن، سوف تتخذ حماس وغزة مقعدا خلفيا؛ فمع التكلفة الباهظة التي تكبدها الناس فيما فقدوه من أرواح، لم تبق عائلة واحدة لم تتضرر. إلا أن ما حققته غزة على مدى الشهور الخمسة عشر الماضية قد يحدث تحولا جذريا في الصراع.
لقد أثبتت غزة للفلسطينيين وللعالم بأنها قادرة على تحمل الحرب الشاملة، وأنها لن تستفز من الأرض التي تقف عليها. إنها تقول للعالم، بفخر مبرر؛ إن المحتلين ألقوا بكل ما لديهم علينا، ومع ذلك لم تحدث نكبة أخرى.
تقول غزة لـ”إسرائيل”؛ إن الفلسطينيين موجودون، وإنهم لن يدجنوا حتى، وما لم، يتحدث معهم الإسرائيليون على قدم من المساواة عن حقوق متساوية.
قد يستغرق استيعاب ذلك سنوات عديدة أخرى، ولكن ذلك حصل لدى البعض، مثل الكاتب يائير أسولين الذي قال في مقال له في صحيفة هآريتس: “حتى لو غزونا الشرق الأوسط بأسره، وحتى لو استسلم الجميع لنا، فإننا لن نكسب هذه الحرب”.
إلا أن ما حققه كل من بقي ثابتا صامدا في غزة، لهو أمر بالغ الأهمية من الناحية التاريخية.
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: سواليف ديفيد هيرست الحرب غزة الصراع الإسرائيلي الجیش الإسرائیلی وقف إطلاق النار الرأی العام فی شمال غزة نتنیاهو من بیت حانون هذه الحرب التی کانت التی کان من خلال من قبل فی غزة
إقرأ أيضاً:
هذا هو البابا الفقير الذي تكرهه إسرائيل
في السادسة من فجر يوم 21 أبريل/نيسان 2025، صدر البيان من دار الصحافة الفاتيكانية ليعلن وفاة خورخيه ماريو بيرغوليو، الذي يعرفه العالم باسم البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان. دقّت أجراس كاتدرائية القديس بطرس، لكن صداها تردد في كل العالم، خاصة في الأرجنتين التي عاش وقاد الكنيسة الكاثوليكية فيها حتى غادرها إلى أوروبا مع توليه بابويته عام 2013.
ومع انتشار نبأ وفاة البابا عن عمر ناهز 88 عاما، احتشد الأرجنتينيون في العاصمة بوينس آيرس لوداع الرجل الذي خدم كنيستهم يوما ما. وفي كاتدرائية المدينة التي كان يرعاها سابقا كرئيس للأساقفة، قال رئيس أساقفة بوينس آيرس، خلال قدّاس التأبين: "لقد توفي والد الجميع، والد البشرية كلها، الذي أصر دائما على أن الكنيسة يجب أن تكون مكانا للجميع.. لقد رحل بابا الفقراء". بهذا اللقب "بابا الفقراء" اشتهر فرنسيس بين البسطاء والمهمشين حول العالم، فقد اكتسب موقعا استثنائيا كزعيم كنسي ذي رحلة فيها تحولات عميقة وملهمة، لكنه في الوقت ذاته خلّف وراءه إرثا مثقلا بالجدل داخل الكنيسة الكاثوليكية.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2ماذا تعرف عن عصابة "تران دي أراغوا" التي يهاجمها ترامب بشراسة؟list 2 of 2هل تفعلها إيران وتفكك النووي والصواريخ وشبكة الحلفاء لتفادي الحرب؟end of listنشأ فرنسيس في أسرة مهاجرة متواضعة من أصول إيطالية عام 1936. عمل والده محاسبا، وكانت جدته روزا ذات تأثير كبير عليه بحكم تديّنها وانخراطها في حركة العمل الكاثوليكي. عُرف الفتى فرنسيس بخجله وورعه، لكنه أحب أيضا الحياة الصاخبة في شوارع العاصمة. تعلّم لهجة أهلها الشعبية، بل بعض كلمات السباب التي لم يتردد لاحقا -وهو الحبر الأعظم- في استخدامها بطرافة أثناء نقاشاته مع مخالفيه.
إعلانانضم فرنسيس إلى الرهبنة اليسوعية المعروفة بانضباطها الصارم وأحب نهج الرهبنة التي تُعرف باسم "الجزويت" لأنه يجمع بين التأمل الصوفي والعمل الاجتماعي. لاحقا، سيم فرنسيس كاهنا عام 1969، ولمع نجمه سريعا بين اليسوعيين حتى صار رئيسا للرهبنة اليسوعية في الأرجنتين مطلع السبعينيات.
بيد أن الشاب فرنسيس واجه امتحانا قاسيا مع دخول بلاده إحدى أحلك فصول تاريخها. ففي عام 1976، وقع انقلاب عسكري يميني بقيادة الجنرال خورخيه فيديلا، معلنا ما عُرف بالحرب القذرة في الأرجنتين. وشرع النظام الجديد في حملة قمع دموية طالت الآلاف من المعارضين، بينهم العديد من الكهنة الكاثوليك المنخرطين في حركة لاهوت التحرير ذات التوجه الاشتراكي.
ووجد فرنسيس نفسه آنذاك في مفترق طرق خطير: هل يتصدى للديكتاتورية دفاعا عن كهنة اختاروا الانحياز للفقراء، مخاطرا بصدام مع السلطة قد يكلفه منصبه أو أكثر؟ أم يلتزم الصمت والحذر، مسايرا موقف الفاتيكان الرسمي المناهض للاهوت التحرير الذي يتهمه بتبني أفكار ماركسية؟
ككل مراحل حياة فرنسيس، كان يحاول دوما أن يكون في الوسط. اختار فرنسيس حينها منهجا تمثل في محاولة المساعدة الفردية دون الاشتباك السياسي. فقال الرجل وقال شهود إنه حاول مد يد العون سرا لبعض المطارَدين، وقام بتهريب أو إخفاء عدد منهم في مباني اليسوعيين. لكنه في المقابل، وبحكم موقعه الديني الرسمي، حافظ على قنوات حوار عميقة مع السلطة العسكرية.
وأثار موقفه هذا استياء كثيرين من الكهنة التقدميين الذين لُقّبوا آنذاك بالرهبان الحمر، ورأوا فيه تواطؤا مع الطغاة. وبالفعل وُجّهت إليه انتقادات شديدة لعدم اتخاذه موقفا أكثر حزما ضد الحكم العسكري والاكتفاء بمسايرة نهج الكنيسة الحذر أو حتى المؤيد للديكتاتورية. ووصلت التهم إلى حد نشر صحيفة أرجنتينية وثائق تزعم تورط فرنسيس في اعتقال وتعذيب اثنين من الكهنة اليسوعيين المعارضين عام 1976. ورغم نفيه القاطع لأي تواطؤ، لم يشفع له ذلك، فعُزل من رئاسة اليسوعيين في الأرجنتين عام 1979 قبل انتهاء ولايته.
إعلانوبعد زوال الديكتاتورية، سعى فرنسيس إلى تصفية الأحقاد المريرة لتلك الحقبة. ففي عام 2000، عندما أصبح رئيسا لأساقفة بوينس آيرس، التقى بعض رفاقه القدامى من الكهنة اليساريين وتصالح معهم حول ذلك الماضي المربك. وفي حوار لاحق اعترف بأن أسلوب إدارته حينها شابه العديد من الأخطاء "فقد كنت في الـ36، وكنت مندفعا وسلطويا، لكني لم أكن يمينيا، غير أن أسلوبي المتسلط تسبب في أزمات عديدة".
وهذا الندم الضمني ترافق مع تحول ملموس في نهجه الفكري، إذ بدأ فرنسيس يدرك إمكانية التصالح مع الأفكار التي كان يعارضها في شبابه. ومع مرور السنوات، تزايد ميله إلى قضايا العدالة الاجتماعية وانحيازه للفقراء، مبتعدا عن ظلال الحقبة الفاشية. وعندما اختاره الكرادلة بابا للفاتيكان في 13 مارس/آذار 2013، كان واضحا أنه بات رجلا مختلفا عن ذلك اليسوعي المحافظ أيام الحرب القذرة.
وورث فرنسيس كرسيا رسوليا مثقلا: كنيسة تتعرض للهجوم بسبب فضائح الاعتداء الجنسي على الأطفال، وممزقة بصراعات داخلية بين الإصلاحيين والمحافظين. إلا أن ليلة انتخابه لم تكد تمضي حتى لاحقته أشباح الماضي: ففي بوينس آيرس، ظهر على جدار كاتدرائية العاصمة رسمٌ جداري كبير كُتب عليه بالخط العريض: "البابا صديق فيديلا- ديكتاتور الأرجنتين". لقد ذكّرته بلاده فورا بأن وراءه تاريخا جدليا في أفضل الأحوال.
دعوة للسلام من غير إغضاب المعتدينمنذ لحظة اعتلائه سدة البابوية، رسم فرنسيس لنفسه صورة البابا القريب من معاناة الشعوب، الساعي إلى السلام في عالم تمزقه الحروب. ففي مايو/أيار 2014، قام البابا بزيارة إلى الأراضي المقدسة. وفي مدينة بيت لحم بالضفة الغربية، خرج عن البروتوكول بشكل مفاجئ حين ترجّل من سيارته أمام جدار الفصل العنصري الذي شيّدته إسرائيل، مقتربا من الخرسانة الباردة التي تفصل بين بيت لحم والقدس، ووضع يده عليها بخشوع. هناك تلا صلاة صامتة دامعة لعدة دقائق.
إعلانوصف فرنسيس جدار الفصل العنصري بأنه "جدار الألم". لم يلق البابا باللوم على المحتل الإسرائيلي بشكل مباشر، وإن كان قد تحدّى بهذا المشهد السلطات في تل أبيب، والتي حاولت تخطيط الزيارة بحيث لا يقترب من الجدار.
دعم البابا حل الدولتين، مؤكدا مرارا أنه لا بديل عن تسوية النزاع عبر إقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل. وفي لقاءاته المتكررة مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، دعا فرنسيس إلى وقف الاستيطان، ووصف الحصار الإسرائيلي على غزة بأنه "مشين". وفي عام 2015 اعترف دبلوماسيا بدولة فلسطين.
ومع اندلاع حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023، قام البابا بدور أغضب الإسرائيليين إلى حد بعيد. فمنذ وقت مبكر، بدأ في إجراء اتصالات مكثفة للاطلاع على الأوضاع الميدانية بشكل يومي. وتوسعت محاولاته للتهدئة فهاتف الرئيس الأميركي جو بايدن طالبا التدخل، ثم تواصل مرارا مع رؤساء الكنيسة الكاثوليكية في فلسطين، مثل الكاردينال بيتسابالا بطريرك القدس، وكان يتواصل بشكل يومي مع رعية الكنيسة في غزة.
ولم ترق مواقف البابا هذه للجانب الإسرائيلي. ففي إحدى خطبه الأخيرة قبل وفاته، وصف فرنسيس ما يحدث في غزة بأنه "إبادة جماعية" ينبغي أن تخضع للتحقيق والمساءلة. لذلك، ما إن أُعلن عن رحيله حتى ارتبك الإسرائيليون ووقعت حادثة دبلوماسية غريبة: فقد حذفت وزارة الخارجية الإسرائيلية بيان النعي الرسمي الذي نشرته في وفاته، ووجّهت سفراءها بإزالة أي تعازٍ له من حساباتهم. ونقل إعلاميون إسرائيليون أن السبب المباشر هو موقف البابا من حرب غزة، رغم علم الإسرائيليين لحساسية ذلك لملايين الكاثوليك في العالم.
وعُرف عن البابا فرنسيس أيضا أنه عارض بشدة التدخل العسكري الغربي في سوريا عام 2013، ونظّم أيام صلاة من أجل السلام في سوريا. وفي العراق، كان فرنسيس أول زعيم للكنيسة الكاثوليكية يزور البلاد عام 2021 بعد سنوات الاحتلال والحرب. هناك أيضا التقى آية الله العظمى علي السيستاني في النجف في لقاء فريد من نوعه.
إعلان حوار الأديان برعاية بابويةبخلاف سلفه بنديكت الـ16 الذي عُرف بمواقفه الجدلية تجاه الإسلام -إلى حد إلقائه محاضرة اعتُبرت مسيئة للنبي محمد عام 2006- اتخذ فرنسيس نهجا مغايرا تماما، واضعا نصب عينيه رأب الصدع.
فقد بادر فورا إلى استئناف الحوار مع الأزهر الشريف في مصر، والذي كان قد جُمّد إثر تصريحات بنديكت. وفي مارس/آذار 2013، في الشهر نفسه الذي تولى فيه منصبه، بعث برسالة ودية إلى شيخ الأزهر أحمد الطيب. وبحلول عام 2016، شهد الفاتيكان احتفاء كبيرا باستقبال الإمام الأكبر في روما. ثم ردّ البابا الزيارة في 2017 متوجها إلى القاهرة لحضور مؤتمر للتسامح نظمه الأزهر.
وفي عام 2019، زار فرنسيس الإمارات لحضور مؤتمر "الأخوة الإنسانية" في أبو ظبي. هناك، وإلى جانب شيخ الأزهر، وقّع البابا "وثيقة الأخوّة الإنسانية". وشددت الوثيقة على قيم السلام والحوار والمواطنة، ورفضت بوضوح التطرف والعنف باسم الدين.
وكانت الوثيقة حدثا، إذ لم يسبق لرأس الكنيسة الكاثوليكية أن صاغ إعلانا مشتركا بهذا المستوى مع قامة إسلامية عليا. لذلك لم يكن مستغربا أن يشيد شيخ الأزهر أحمد الطيب بفرنسيس عند وفاته بدوره في تعزيز الحوار الإسلامي المسيحي، واصفا إيّاه بالأخ والصديق.
على الجانب الآخر، اهتم فرنسيس باللاجئين والمهاجرين هربا من الحروب والبؤس الذي غالبا ما تسببت فيه القوى الكبرى. فبدأ منذ عام 2013، زيارة مراكز إيواء اللاجئين في جزيرة لامبيدوزا بإيطاليا، وانتقد لامبالاة أوروبا وحذر من تحول البحر المتوسط إلى مقبرة كبرى.
واحتفى العالم بالرجل حين اصطحب معه على متن طائرته عند عودته من زيارة إلى اليونان عام 2016 ثلاث عائلات سورية مسلمة لاجئة ليعيد توطينها في روما. أيضا، هاجم فرنسيس دعاة التفوق الأبيض وحمل على عاتقه مهمة مناهضة العنصرية. ففي أعقاب مقتل المواطن الأميركي الأسود جورج فلويد 2020 على يد الشرطة، ندّد بـ"خطيئة العنصرية" ودعا للراحل وطالب بتحقيق العدل والمساواة.
لم يكن لقب "بابا الفقراء" الذي أطلق على فرنسيس مجرد تسمية إعلامية، بل كان ترجمة لنهجه. فالبابا القادم من أحياء بوينس آيرس المتواضعة حمل هموم الفقراء بالفعل إلى أروقة الفاتيكان الفخمة، وسعى لتجريد الكنيسة من مظاهر البذخ والسلطة.
إعلانفضّل فرنسيس الإقامة في بيت ضيافة متواضع داخل الفاتيكان على السكن في القصر الرسولي الفخم، في سابقة لم يعهدها الفاتيكان من قبل. وفي عظته الأولى بعد انتخابه، صرّح تصريحه الشهير: "أريد كنيسة فقيرة.. للفقراء".
ولم يكن هذا مجرد شعار فارغ، فالرجل الذي كان يطهو طعامه بنفسه حين كان كاردينالا، واعتاد التنقل بوسائل عامة في بوينس آيرس، حرص بعد تتويجه بابا على أن تستمر ملامح التواضع تلك، فأصبح يُشاهَد وهو يغسل أقدام السجناء والمهاجرين، وطارت صورته في الآفاق حين انحنى مقبّلا قدم لاجئ مسلم في أحد مخيمات اللاجئين عام 2016.
فكريا، خاض فرنسيس معركة شرسة ضد ما سماه "ثقافة الإقصاء" في الاقتصاد العالمي منتقدا استئثار أقلية ضئيلة بالثروة والموارد. وفي رسالة أصدرها عام 2013 هاجم بشدة عقيدة السوق المنفلتة، قائلا إن "هذه الاقتصاديات تقتل" حين تجعل الفقراء على الهامش وتعبد المال. لقد اعتبر البابا أن النظام الاقتصادي الحالي القائم على الجشع وإقصاء الضعفاء هو خطيئة بنيوية ينبغي التكفير عنها بإصلاحات جذرية.
وفي عهده، استضاف الفاتيكان مؤتمرا دوليا بعنوان "اقتصاد فرنسيس" لجمع رواد الأعمال الشباب وعلماء الاقتصاد لابتكار نماذج اقتصادية عادلة. كما أيّد بقوة الحملات العالمية لتخفيف ديون الدول الفقيرة، وانتقد المؤسسات المالية الدولية حين تفرض إجراءات تقشف قاسية تزيد معاناة الشعوب. وفي إحدى المناسبات وبّخ المجتمع الدولي متسائلا: "كيف لا يكون موت إنسان جائع خبرا، بينما يهتز العالم لهبوط البورصة بضع نقاط؟".
المفارقة أن البابا استعار العديد من هذه الأفكار من تراث لاهوت التحرير الذي كانت الكنيسة قد خاصمته زمنا، وكان البابا أحد أهم الأصوات الرافضة له باعتباره "أيديولوجيا" يرفضها كما يرفض كل الأيديولوجيات. وصار البابا بعد توليه منصبه يندد بالرأسمالية المتوحشة مؤكدا أنها ليست اقتصادا إنسانيا، كما رفض بشدة النزعة اليمينية الشعبوية التي تعادي المهاجرين والفقراء، ورأى فيها خيانة للقيم المسيحية الحقة.
إعلان الجدل بدأ قبل بابويته وسيستمر بعد وفاتهعلى الرغم من شعبية فرنسيس عالميا، فإن سياسته الإصلاحية أثارت انقساما حادا في الكنيسة الكاثوليكية بين جناح تقدمي مؤيد له وجناح محافظ يراه هادما للأصول التي بُنيت عليها الكنيسة.
فمنذ بدايات حبريته، رحّب بعض الكاثوليك بنبرة فرنسيس تجاه قضايا شائكة. فعلى سبيل المثال، فاجأ البابا منتقدي الكنيسة وأتباعها على حد سواء خلال مقابلة صحفية في يوليو/تموز 2013 حين سُئل عن نظرته إلى المثليين جنسيا، فأجاب بكلمات السيد المسيح: "من أنا حتى أدينهم؟" قوبلت عبارته بإعجاب كبير في الأوساط الليبرالية وحتى خارج الكنيسة، لكنها في المقابل أثارت قلق المحافظين الذين اعتبروها تساهلا غير مقبول مع خطيئة مهلكة.
وسرعان ما تراكمت الانتقادات من داخل الفاتيكان ضد نهج فرنسيس. فقد رأى التيار التقليدي فيه تهديدا لتراث كنسي عمره قرون. وفي عام 2014، عندما دعا فرنسيس إلى عقد مجمع في الفاتيكان لبحث قضايا الأسرة، بما في ذلك مسألة الطلاق والزواج الثاني، ارتفعت أصوات كرادلة نافذين محذرة من أي تغيير يمس تعاليم الكاثوليكية وأسرار الكنيسة. وبعد إصدار البابا لوثيقة فسّرت بفتح بعض الباب أمام طقس المناولة للمطلقين والمتزوجين مدنيا، قام 4 كرادلة محافظين بتوجيه ما عُرف بـ"رسالة الشكوك" يحذرونه من “الانحراف” عن العقيدة. ورغم أن البابا تجاهل الرد على تلك الرسالة علنا، لكن كشف إرسالها عن عمق المعارضة داخل المؤسسة البابوية.
وقد أثار فرنسيس امتعاض رموز التيارات القومية الشعبوية الغربية بدعوته أوروبا لاستقبال اللاجئين ورفضه خطاب كراهية الأجانب الذي أحيانا ما يتبنى سرديات دينية. حتى إن الرئيس الأميركي دونالد ترامب دخل في سجال كلامي معه في ولايته الأولى عام 2016، بعدما صرّح فرنسيس أن من يفكر فقط في بناء الجدران لا الجسور "ليس مسيحيا خالصا" في إشارة إلى مشروع الجدار الذي أراد ترامب بناءه على الحدود الأميركية مع المكسيك.
إعلانولم تأت الانتقادات من اليمين الديني فقط، بل كذلك من التيار الليبرالي، ولكن لأسباب مغايرة. فنشطاء تحرير المرأة داخل الكنيسة أخذوا على فرنسيس استمرار حرمان النساء من سرّ الكهنوت، إذ جدد التأكيد على منع سيامة المرأة قسا، متمسكا بالتقليد الكاثوليكي بهذا الشأن. وقد صرّحت منظمات كاثوليكية نسائية أن البابا "رجل تقدمي في كل شيء إلا حين يتعلق الأمر بالمرأة".
أيضا، تعرض فرنسيس لانتقادات بسبب بطء التحرك ضد المتورطين في قضايا اعتداءات جنسية داخل الكنيسة. فقد رأى منتقدوه أن تحركاته ضد التحرش الجنسي داخل الكنيسة كانت محدودة وغير فعالة. واستشهدوا بحوادث تأخر فيها البابا في معاقبة مسؤولين اتهموا بالاعتداء أو بالتستر على المعتدين، كما حدث في تشيلي 2018 حين دافع بداية عن أسقف متهم قبل أن يعدل عن موقفه تحت ضغط الغضب الشعبي ويقبل استقالته.
ورغم ذلك، استطاع فرنسيس الحفاظ على وحدة الكنيسة الكاثوليكية في حدها الأدنى.
وبعد 12 سنة تقريبا على كرسي القديس بطرس، رحل البابا فرنسيس تاركا وراءه كنيسة مختلفة عما كانت عليه يوم استلمها. لقد خلّف إرثا من التوتر داخل المؤسسة الكنسية لكنه أيضا خلّف إرثا من الحيوية والصدق. لقد غيّر فرنسيس صورة البابا في أعين العالم: من أمير متوج في الفاتيكان إلى شخص متواضع يجول بين الناس، يلعب معهم كرة القدم، ويرقص معهم التانغو.
ومع ذلك، فإن مستقبل الإرث الذي خلّفه يظل غامضا. فالتحديات التي واجهها فرنسيس -من إصلاح الكنيسة، والاشتباك مع انعدام المساواة والتطرف والعنصرية، إلى معالجة فضائح الكنيسة الماضية وتحقيق المصالحة الداخلية بين أطرافها- ستبقى حاضرة في المستقبل القريب للفاتيكان.