خطبتا الجمعة بالحرمين: ذكر الله هو الحصن الحصين من البلايا والمحن.. والإنسان ضعيف فعليه ألا يطغى بعلمه ولا يغتر بقوته
تاريخ النشر: 17th, January 2025 GMT
ألقى فضيلة الشيخ الدكتور عبدالرحمن السديس خطبة الجمعة اليوم بالمسجد الحرام، وافتتحها بتوصية المسلمين بتقوى الله، فَمَن لزِم التَّقوى فقد أجاب دَاعِي اللهِ.
وقال: في عالمٍ يموجُ بالأزمَاتِ والتحديات، والأوهام والشِّكَايات، وفي مجتمعات تنتشر فيها أعمال السحر والشعوذة الشيطانية، وأمراض العين والأوبئة النفسية، ومَا يُصِيبُ المُسْلِمَ مِنها مِنْ كُرَبٍ واعْتِلال، أو نَقْصٍ في الأنْفُسِ والأمْوَال، إلا من أقدار الباري سبحانه بِابْتِلاءِ الأفْرَاد والمُجْتَمعَات، وهو لِفَرِيقٍ: مِرْقاة في دَرَجَاتِ الكمال، ولآخَر: كَفَّارة لِسَيِّئاتِ الأعمال، ويُحْمَل أمر المُسْلِم كله على الخَيْر، إنْ ألَمَّ بِه البلاء والضَّيْر.
وأكد الشيخ عبدالرحمن السديس أن الوقاية والتحصين طريقٌ لتجنب الضرر أو الاعتلال والمرض، موصيًا المسلمين بتحصين أنفسهم وأولادهم وبيوتهم بالأوْرَادِ الشَّرْعِية، والأذكار الصَّبَاحِية والمسائية، وأذكار الدُّخُول والخُرُوج، والطَّعَام والشَّراب، والنوم والاستيقاظ وغيرها من الأذكار الثابتة عن سيد الخلق، فهي الحصن الواقي بإذن الله، مَع التوكُّل الجازم على المولى البصير السَّميع، وتفويض الأمر لِتَدْبيره المُحْكَم البديع، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَفِرُّ مِنْ الْبَيْتِ الَّذِي تٌقْرَأُ فِيه سُورَة الْبَقَرَة”، ولاسيما آية الكرسي وخواتيم السورة، وسورة الإخلاص والمعوذتين كما كان هدي النبي عليه الصلاة والسلام.
وقال فضيلته: في إغفالِ كثيرٍ من المسلمين تحصين الأنْفُس والأولاد والبيوت، مع ضَعْفِ الجوانب الإيمَانِيّة والعقديّة لَدَى من يُصِيبه الشيطانُ بِمَسٍ أو وَسْوَسَة أو غير ذلك، أو يُصَاب بِعَيْنٍ أو حَسَدٍ، يَنْجَفِلُ بعضهم إلى أحْلاسِ الشّعْوَذة والطّلاسم والخُرَافات، والسِّحر والدَّجَل والمُخَالفات، وتَلَقَّفَهم مَنْ في سِلْكِهِم مِن أدْعِيَاءِ الرُّقية الشرعِيّة، أو مَن يَدَّعون فَكَّ الأعمال وإبطال السِّحر ونحو ذلك فَهَذَا رَاقٍ يُسَفْسِط بِكتابة غامضة ويُتَمْتِمْ، وآخر يُهَرْطِق بِمُبْهم الكلام ويُدَمْدِم، وآخر يَقْطع بأنَّ الدَّاء عَيْن، والعَائِنُ من ذوي القُرْبى، وآخر لا يَنْفكُّ عن ضرْبٍ مُبَرِّح، وجُلُّ هؤلاء الأدْعِيَاء يُمَوِّهون بِإظْهَار سَمْتِ العُقلاء التُّقَاة، وإن هم إلاَّ مِنَ المُخَادِعين الدُّهَاة، المُحْتالِين لابْتِزَاز أموال النَّاس، واسْتِدْرَارِها على غير قِيَاس، وقد يُزَجُّ بوصفاتٍ تُرَوِّجُ للوهم لخداع البُسَطَاء، خاصة مع رواجها في الفضائيات وشبكات المعلومات ومواقع التواصل، بل وبعض التطبيقات الرقمية.
ولفت إمام وخطيب المسجد الحرام الانتباه إلى أن التحصن والتحصين لا يحتاج لِعَنَاءٍ أو تَعَنُّت أو الوقوع في براثن الأدْعِيَاء، بل هو أمان من كل هؤلاء، يفعله المرء بنفسه ومع أهله وأولاده، وهو يستوجب حفظ الأفْرَادِ والمُجتمعات، وغَيْرَة لجَناب العقيدة العتيدة، وحِياض الشريعة البديعة.
وأوصى فضيلته المسلمين بتقوى الله وامْتِثال أوامِرِه، واجْتِنَابِ نَوَاهِيه وزَوَاجِرِه، فإنه جَلَّ جلاله مُطَّلِعٌ على بَاطِن الأمر وظاهِره، وخَلَجَاتِ الصَّدْرِ وسَرَائِرِه.
وأبان الشيخ السديس أنه ليس بخاف على الجميع ما يتناوش الأمة من مِحَنٍ وخُطوبٍ ورزايا، وفِتَنٍ وكُروبٍ وبَلايا، لذا فإن من أهم أنواع التحصين في هذه الآونة العصيبة تحصين مدارك الشباب فِكْرِيًا وعَقَدِيًّا، والمسؤولية في ذلك تقع على عاتق العُلماء والدُّعاة، والآباء ورجال التربية والفكر والإعلام وحملة الأقلام؛ فعليهم جميعًا أن يُسْهِمُوا في تحصين الشباب فِكْرِيًا وعَقَدِيًّا؛ والحث على الالتفاف حول عُلَماءِ الأمَّة الرَّاسِخِين، والتحذير من الفتاوى الشاذة والمُحَرِّضَة والمُضَلِّلَة، وتوعيتهم بالتحديات التي تواجههم، في زمن طَغَتْ فيه فتن الشهوات والشبهات والتي جَرَّتْ إلى الأسر والبيوت والمجتمعات، وأخذًا بحُجَزِهم عن الهُوي في سراديب الأفكار النشاز، وبث الوعي في بيان خطط الأعداء وقطع الطريق عليه في تحقيق مآربهم المشبوهة سائلًا الله تعالى أن يحمى شبابنا ومجتمعاتنا من كل سوء ومكروه، وأن يحفظ علينا أمننا وأماننا وعقيدتنا وقيادتنا، إنه قريب مجيب.
* وفي المسجد النبوي الشريف ألقى خطبة الجمعة فضيلة الشيخ عبدالباري الثبيتي، وافتتحها بتوصية المسلمين بتقوى الله فهي سبيل النجاة وزاد المؤمنين، وبها رفع أهل الطاعة إلى مراتب المتقين.
وقال: إن قول الله تعالى {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} هي آية تختصر مسار الحياة في كلمات بليغة ومعان عميقة، ترسم صورة لمراحل خلق الإنسان، تبدأ بضعف الطفولة وتعلو بالقوة، ثم تعود إلى ضعف يزينه الشيب. آية توقظ العقول لتدرك عجز الإنسان، وتلامس القلوب لتظهر حاجته الدائمة إلى ربه.
وأضاف بأن هذه الآية هي دعوة للتفكر في أطوار الخلق، وفي تقلب الأحوال بين القوة والضعف، وفي قدرة الله المطلقة التي تدبر هذا المسار بحكمة وإتقان. كل شيء بيده، منه المبتدأ وإليه المنتهى. وتأكيدًا على أنه يجب على المسلم أن يعظم شعائر الله في كل وقت وحين، ويزداد التعظيم لحرمات الله في هذه الأشهر الحرم، بترك المحرمات وتجنب المنهيات، والمسارعة إلى فعل الخيرات، والمسابقة إلى الصالحات، بشرط البعد عن المبتدعات، والمجانبة لاختراع المحدثات.
وأوضح إمام وخطيب المسجد النبوي أن الطفولة هي الصفحة الأولى في كتاب الحياة، تبدأ ببراءة ناصعة وضعف يحفه لطف الله ورحمته. طفل صغير لا يملك من أمره شيئًا، أودع الله في قلوب من حوله حبًا وحنانًا، وأحاطه بأيد ترعاه وتخفف عنه ضعفه، مشيرًا إلى أن هذه الآية مشهد مهيب يبين عظمة التدبير الإلهي، إذ يحفظ الله هذا الطفل الضعيف، ويمنحه العون من حيث لا يدري.
وبين فضيلته مراحل نمو الإنسان من خروجه من ظلمات بطن أمه لا علم له ولا قدرة، في عجز تام وجهل مطبق. ثم فتح الله له أبواب العلم، ووهب له السمع والبصر والفؤاد لينهل بها من معين التعلم والمعرفة. مشيرًا إلى أن كل ما اكتسبه الإنسان من علم أو قوة هو هبة من الله وعطاء من كرمه، قال تعالى {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
ونوه بأن هذه الآية تغرس في القلوب أدب العبودية، وتزرع في النفوس تواضع المخبتين، فلا يطغى الإنسان بعلمه، ولا يغتر بقوته.
وبين أن على الإنسان أن يدرك أن كل ذرة من قوته وكل حركة في جسده هي نعمة تستوجب شكرًا دائمًا وخضوعًا كاملاً. فالعبد مهما علا شأنه يظل فقيرًا إلى ربه، محتاجًا إلى فضله في كل لحظة، وحياته كلها هبة من الله، تستحق الحمد في كل حين.
فما أعظم غنى الله، وما أبلغ فقر العبد بين يديه.
وأفاد بأن هذه المرحلة تكتب فيها أعظم قصص الكفاح، وتُبنى أقوى صروح الحضارة، فلا تقوم قائمة للأوطان ولا تنهض أمة إلا بسواعد الشباب اليافعة وهممهم العالية.
وأكد إمام وخطيب المسجد النبوي أن قوة الشباب تزدهر حين تتفيأ ظلال الدين، وتسمو حين تتغذى من معين القيم والأخلاق، وتتجلى في سماء المجد حين تسخر لخدمة البلاد والعباد، ومن أهدر شبابه فقد أهدر عمره كله، فهو لحظة عابرة في زمن الحياة، ومن استثمره في الخير والنفع خلد أثرًا طيبًا، وجنى ثمارًا يانعة في الدنيا والآخرة .
وأشار إلى أن القوة الحقيقية تنبع من روح إيمانية، تشحذ بالطاعة، وتتعزز بالاستغفار، وتثمر بالعمل الصالح. فهي القوة التي تتصل بربها، فيزيدها عزمًا وثباتًا. قال الله تعالى على لسان هود عليه السلام {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ}.
وفي الخطبة الثانية أوضح فضيلته أن حدود زمن الطفولة والقوة ثم الضعف والشيبة هي متوسط عمر الإنسان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك”.
إنها رحلة قصيرة في ميزان الزمن، لكنها تذكر بالمال المحتوم، وأن النهاية تقترب مع كل لحظة تمرّ.
وفي ختام الخطبة حث إمام وخطيب المسجد النبوي على اغتنام كل لحظة من العمر. فالعمر محدود، والفرصة لا تعود، والأعمار لا تقاس بعدد السنين، بل بما يترك فيها من أثر خالد وعمل صالح .
المصدر: صحيفة الجزيرة
كلمات دلالية: كورونا بريطانيا أمريكا حوادث السعودية إمام وخطیب المسجد المسجد النبوی أن هذه الله ف إلى أن
إقرأ أيضاً:
موضوع خطبة الجمعة الموحدة اليوم على مساجد الأوقاف.. تعرف عليه
حددت وزارة الأوقاف موضوع خطبة الجمعة اليوم، لتكون تحت عنوان: «التحذير من خطورة التكفير»، معلنة عن الهدف من هذه الخطبة وهو: التحذير من الفهم المغلوط للكتاب والسنة وأثره في التكفير.
وجاء نص خطبة الجمعة الموحدة على مساجد الأوقاف كالآتي:
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الحَمْدُ للهِ غَافِرِ الذَّنْبِ، وَقَابِلِ التَّوْبِ، شَدِيدِ العِقَابِ، ذِي الطَّوْلِ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ المَصِيرُ، الحَمْدُ للهِ حَمْدًا يُوَافِي نِعَمَهُ وَيُكَافِئُ مَزِيدَهُ، نَحْمَدُكَ اللَّهُمَّ حَمْدَ الشَّاكِرِينَ، وَنَسْأَلُكَ اللَّهُمَّ الهُدَى وَالرِّضَا وَالعَفَافَ وَالغِنَى، ونَشْهَدُ أنْ لَا إلهَ إِلَّا اللهُ وحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، ونَشْهدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَصَفِيُّهُ مِنْ خَلْقِهِ وَحَبِيبُهُ وَخَلِيلُهُ، صَاحِبُ الخُلُقِ العَظِيمِ، النَّبِيُّ المُصْطَفَى الَّذِي أَرْسَلَهُ اللهُ –تَعَالَى- رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، اللَّهُمَّ صَلِّ وسلِّمْ وبارِكْ علَيهِ، وعلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ، ومَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَومِ الدِّينِ، وَبَعْدُ:
هل يجوز ترك خطبة الجمعة والاكتفاء بالركعتين مع الإمام؟موضوع خطبة الجمعة اليوم بمساجد الأوقاف على مستوى الجمهوريةفَإِنَّ الفِكْرَ التَّكْفِيرِيَّ مِنْ أَخْطَرِ مَا يُوَاجِهُ أَوْطَانَ المُسْلِمِينَ، يُهَدِّدُ اسْتِقْرَارَهَا وَنُمُوَّهَا وَتَقَدُّمَهَا، وَيَسْعَى فِي تَدْمِيرِ حَاضِرِهَا وَمُسْتَقْبَلِهَا، فَمَا أَنْ يَنْبُتَ ذَلِكَ الفِكْرُ الظَّلَامِيُّ فِي أَرْضِ التَّأْوِيلَاتِ الفَاسِدَةِ وَالاعْتِدَاءِ عَلَى نُصُوصِ الوَحْيَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، حَتَّى تَخْرُجَ لِلدُّنْيَا ثِمَارُهُ الفَاسِدَةُ المُخَرِّبَةُ، فَيُهْدَمُ الإِنْسَانُ وَتُدَمَّرُ الحَضَارَةُ.
أَيُّهَا السَّادَةُ، مَنْ نَصَّبَ هَؤُلَاءِ الحُدَثَاءَ حُكَّامًا عَلَى دِينِ المُسْلِمِينَ بِالتَّفْسِيقِ وَالتَّكْفِيرِ؟! بِأَيِّ حَقٍّ يُدْخِلُونَ هَؤُلَاءِ الجَنَّةَ وَيُخْرِجُونَ أُولَئِكَ مِنَ النَّارِ؟ أَلَيْسَ الوَعِيدُ النَّبَوِيُّ الشَّدِيدُ حَاضِرًا يَهُزُّ القُلُوبَ «أيُّما رَجُلٍ قَالَ لِأَخِيهِ: يَا كَافِرُ، فقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُما»، وَكَأَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَنْظُرُ مِنْ وَرَاءِ الحُجُبِ وَيَصِفُ هَؤُلَاءِ وَصْفًا عَجِيبًا: «إِنَّ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ قَرَأَ الْقُرْآنَ حَتَّى إِذَا رُئِيَتْ بَهْجَتُهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ رِدْءَ الْإِسْلَامِ، اعْتَرَاهُ إِلَى مَا شَاءَ اللهُ؛ انْسَلَخَ مِنْهُ وَنَبَذَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَسَعَى عَلَى جَارِهِ بِالسَّيْفِ، وَرَمَاهُ بِالشِّرْكِ، قِيلَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَيُّهُمَا أَوْلَى بِالشِّرْكِ، الْمَرْمِيُّ أَمِ الرَّامِي؟ قَالَ: «بَلِ الرَّامِي»، ثُمَّ قُلْ لِنَفْسِكَ أَيُّهَا المُكَرَّمُ: أَلَيْسَ هَذَا المَشْهَدُ حَاضِرًا اليَوْمَ بِكُلِّ تَفَاصِيلِهِ؟
أَيُّهَا الكِرَامُ، إِنَّ هَؤُلَاءِ المُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ قَدْ أَجْرَمُوا بِالتَّعَدِّي عَلَى آيَاتِ القُرْآنِ الكَرِيمِ وَأَحَادِيثِ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ الأَمِينِ -صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ-، يَقْتَطِعُونَهَا مِنْ سِيَاقِهَا، وَيُنْزِلُونَهَا عَلَى المَعْنَى النَّفسِيِّ الظَّلْمَانِيِّ الَّذِي يَمْلَؤُهُ الاسْتِئثَارُ وَالأَنَانِيَّةُ، وَيُدْخِلُونَ الفُرُوعَ فِي الأُصُولِ بِلَا بَصِيرَةٍ مِنْ عِلْمٍ أَوْ فَهْمٍ، وَقَدْ صَدَقَ فِيهِم الوَصْفُ النَّبَوِيُّ: «يَقْرَأُونَ القُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَقُولُونَ مِنْ قَوْلِ خَيْرِ البَرِيَّةِ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ»، فَكَانَ الفَهْمُ المَغْلُوطُ مَنْهَجَهُمْ، وَحَمْلُ السِّلَاحِ وَسِيلَتَهُمْ، وَإِذَاقَةُ المُجْتَمَعِ وَيْلَاتِ الدَّمَارِ وَالشَّتَاتِ غَايَتَهُمْ.
يَا أَتْبَاعَ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ وَالتَّسَامُحِ، اعْلَمُوا أَنَّ التَّكفِيرَ فِي حَقِيقَتِهِ سَمْتٌ نَفْسِيٌّ مُنْحَرِفٌ، وَمِزَاجٌ حَادٌّ ثَأْرِيٌّ عَنِيفٌ، وَأَنَّ سِرَّ خُصُومَةِ التَّكْفِيرِيِّينَ مَعَ بَنِي الإِنْسَانِ هُوَ الأَنَانِيَّةُ وَالكِبْرُ، وَأَنَّ تَارِيخَهُمْ مُلَوَّثٌ بِتَكْفِيرِ الصَّحَابَةِ وَالعُلَمَاءِ وَالأَتْقِيَاءِ، وَسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَانْتِهَاكِ الحُرُمَاتِ، والتَّعَدِّي عَلَى بُنْيَانِ الإِنْسَانِ، وَحَاضِرَهُمْ شَاهِدٌ بِالحَرْقِ وَالذَّبْحِ وَقَطْعِ الرِّقَابِ، فِي مَشَاهِدَ لَمْ تَجْنِ مِنْهَا الأُمَّةُ المرْحُومَةُ إِلَّا الخَرَاب.
وَهَذِهِ رِسَالَةٌ لِكُلِّ مَنْ يَنْتَمِي إِلَى هَذَا الفِكْرِ الظَّلَامِيِّ: هَلْ تَسْتَحِقُّ أُمَّتُكَ المَصُونَةُ المَرْحُومَةُ أَنْ تُكَفَّرَ أَفْرَادُهَا؟ كَيْفَ تَسْتَسِيغُ نَفْسُكَ أن تُدَنِّسَ ثَوْبَ الإِسلَامِ النَّقِيِّ الَّذِي بَعَثَهُ اللهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ بِالعُدْوَانِ عَلَيْهِ تَفْسِيقًا وَتَبْدِيعًا وَتَكْفِيرًا؟! قِفْ وَقْفَةً مَعَ نَفْسِكَ، مَعَ فِكْرِكَ، مَعَ وِجْدَانِكَ، فَمَا زَالَ الأَذَانُ يُرْفَعُ فِي سَمَاء بِلَادِنَا صَادِحًا بِالحَقِّ وَالسَّكِينَةِ وَالأَمَانِ، وَلَا زَالَتْ شَعَائِرُ الإِسْلَامِ ظَاهِرَةً مُتَأَلِّقَةً تَقُولُ لِلْمُسْلِمِينَ: انْشُرُوا السَّلَامَ وَالأَمَانَ فِي الدُّنْيَا؛ فَأَنْتُمْ أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ وَالإِحسَانِ وَالْإِكْرَامِ لِلْخَلق.
وَيَا أَيُّهَا المِصْرِيُّونَ، أَبْشِرُوا وَاطْمَئِنُّوا! سَتَظَلُّ مِصْرُ الأَزْهَر حَائِطَ صَدٍّ مَنِيعٍ وَحَجَرَ عَثرَةٍ أَمَامَ الفِكْرِ التَّكْفِيرِيِّ الظَّلَامِيِّ، مُدَافِعةً عَنِ القِيَمِ، مُؤْتَمَنَةً عَلَى الشَّرْعِ الشَّرِيفِ، مُصَدِّرَةً الخَيْرَ وَالرَّحْمَةَ وَالجَمَالَ لِلْعَالَمِينَ، صَانِعَةً لِلْحَضَارَةِ، شِعَارُهَا تَلَقِّي الوَحْيِ الشَّرِيفِ بِالفَهْمِ الصَّحِيحِ الَّذِي يُحَقِّقُ مَقَاصِدَهُ وَغَايَاتِهِ، وَيُرَسِّخُ مُرَادَ اللهِ فِي أُمَّةِ حَبِيبِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}.
*
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى خَاتَمِ الأَنبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ، سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَبَعْدُ:
فَإِنَّ الغِشَّ آفَةٌ ذَمِيمَةٌ، وَجَرِيمَةٌ مُنْكَرَةٌ، تَعْصِفُ بِالمُجْتَمَعِ، وَتُعَطِّلُ طَاقَاتِهِ، وَتَنْهَشُ ثَرَوَاتِهِ، فَكَمْ مِنْ مَوَاهِبَ دُمِّرَتْ، وَكَمْ مِنْ حُقُوقٍ ضُيِّعَتْ، وَكَمْ مِنْ أَرْوَاحٍ أُزْهِقَتْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الغِشِّ المَقِيت.
فَيَا أُمَّةَ (اقْرَأْ) أَنْقِذُوا أَجْيَالَنَا مِنْ غِشٍّ يُدَمِّرُ مُسْتَقْبَلَ النَّشْءِ، وَيَقْتَلِعُ عَمَلِيَّةَ التَّعْلِيمِ مِنْ جُذُورِهَا، وَيَا أَيُّهَا التُّجَّارُ الشُّرَفَاءُ اعْلَمُوا أَنَّ الغِشَّ وَالتَّدْلِيسَ سَرَطَانٌ اقْتِصَادِيٌّ مَقِيتٌ، مَا بَيْنَ عَلَامَاتٍ تِجَارِيَّةٍ زَائِفَةٍ، وَتَعَدٍّ عَلَى حُقُوقِ المِلْكِيَّةِ الفِكْرِيَّةِ، وَنَصْبٍ إِلِكْتِرُونِيٍّ فَاضِحٍ، وَنَقْصٍ فِي الأَوْزَانِ وَالمَكَايِيلِ، ثُمَّ يَأْتِي السُّؤَالُ: أَلَمْ يَسْمَعْ أُولَئِكَ الغَشَّاشُونَ هَذَا الوَعِيدَ الإِلَهِيَّ الَّذِي يَخْلَعُ القُلُوبَ {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}، أَلَمْ يَقْرَأُوا هَذَا التَّحْذِيرَ الرَّبَّانِيَّ الشَّدِيدَ {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}، أَمَا آنَ أَنْ تَتَرَبَّى الضَّمَائِرُ مِن جَدِيدٍ عَلَى مَائِدَةِ القُرْآنِ العَظِيم!.
السَّادَة الكِرَام، أَلَا تَرَوْنَ أَنَّ الغِشَّ فِي النَّصِيحَةِ، وَالتَّزْيِيفَ، وَتَضْلِيلَ الأَفْكَارِ يُورِثُ عُقُولًا مُتَطَرِّفَةً تُمَثِّلُ عُدْوَانًا صَارِخًا عَلَى الدِّينِ وَالإِنْسَانِ وَالحَضَارَة، وَيُعَدُّ خِيَانَةً لِلْمَقْصِدِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ مِنْ قَوْلِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ»، أَلَيْسَ التَّلَاعُبُ فِي الأَسْهُمِ وَالسَّنَدَاتِ وَالبُورْصَةِ يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ قَوْلُ الجَنَابِ الأَنوَرِ -صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ-: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا»؟!
إِنَّها صَيْحَةُ تَحْذِيرٍ غَايَتُهَا الْحِفَاظُ عَلَى عُقُولِ وَمُقَدَّرَاتِ هَذَا الوَطَنِ مِنَ الغِشِّ الَّذِي يَنْهَشُ فِي ثَرَوَاتِ الوَطَنِ المَادِّيَّةِ وَالعَقْلِيَّةِ نَهْشًا، فَهَلْ مِنْ مُعْتَبِر!.. اللَّهُمَّ احْفَظْ عُقُولَ شَبَابِنَا وَاهْدِ قُلُوبَهُمْ.. وَانْشُر السَّكِينَةَ وَالطُّمَأْنِينَةَ فِي بِلَادِ المُسْلِمِينَ.