دخلت غزة مرحلة هدنة مع عدو لا يعيش إلا بالحرب. لا داعي لطرح السؤال عن موعد الحرب القادمة، إنها مؤجلة فقط. يتحذلق مثقفو الكنبة عن جدوى حرب أخذت معها هذا العدد المهول من الشهداء. كاتب الورقة لا ينشغل بالرد على مثقفي الكنبة لأنه مع المقاوم الفلسطيني مظلوما أو مظلوما، فالمقاوم لم يقف أبدا في موقف ظالم. إذن لنغلق هذا الباب ونقدم فكرة العنوان.
من عاش حرب الطوفان في غزة ورأى الأهوال وعلم وإن كان غبيا دور الغرب الأوربي في هذه الحرب ومشاركته الظالمة في تحويل غزة إلى ما هي عليه الآن؛ عليه أن يتحلى بشجاعة فكرية وروحية ليقول لا فرق بين غزوة وبين بقية الأقطار والشعوب العربية، فهي كلها أرض محتلة وهي كلها محتاجة إلى حرب تحرير، وإنما الاختلاف في الأسلحة ونوع القتال ويبدأ هذا الوعي العملي بنبذ الغرب الأوروبي، وأن يبني عمله الفكري والسياسي على الكفر كفرا بواحا بلَغْوِه الأخلاقي وسفاهته المتعلقة بحقوق الإنسان وكل تلك الكراسات التي يصدرها ليغطي بها تدمير الشعوب وقهرها ومنعها من تنسم أنسام الحرية. إنه خيار لا ينكره إلا كل من يروم خيانة نفسه قبل خيانة وطنه وناسه، وهذا درس غزة الأهم.
لينته الانبهار بالغرب
هذا ليس اكتشافا، فالغرب حالة تقدم مادي ورفاه شعوب فيما نرى من الظاهر على الأقل وحريات مطلقة تعشقها الشعوب المقهورة من حكامها ومن نخبها الكسولة أيضا. هناك سؤال ألغته النخب والشعوب المقهورة عن حجم النهب الاستعماري الذي صنع الرفاه المرئي الآن. لقد يئست تلك الشعوب من استرداد خيراتها، لكن الانبهار بالرفاه المادي تحول مع الوقت إلى نوع من الانبهار الشامل بكل المنتج الغربي الثقافي والقانوني دون مراجعات عن صدق هذا المنتج على الأرض.
لقد كانت الأدلة تتراكم منذ قرون عن نفاق الغرب الأوروبي، فهو مجموعة من الدول النهاية التي تتقدم بالحديد والنار وتستولي بلا أخلاق أو شرف على مقدرات الشعوب غير الغربية، بما يجعلها دولا لصوصا تحسن تمويه لصوصيتها بحقوق الإنسان. كل هذه الأدلة لم تخلق ما يكفي من الوعي بالباطن اللصوصي، بل صنعت معجبين تحولوا مع الوقت إلى قادة سياسيين وقادة رأي وفنون عملوا كأداوت دعاية لهذه الدول اللصوص تحت يافطة مضخمة اسمها الحداثة؛ الذين تفطنوا إلى تناقض القول الغربي مع الفعل اتهمتهم نخب بلدانهم قبل الغرب بالتخلف والرجعية والإرهاب.
المنبهرون وهم أنفسهم مثقفو الكنبة الذين يسخرون من غزة هم من منع النقد أن يتحول إلى قرارات وفعل ثم سلطة تستقل عن الدول اللصوص. لقد تسلل الغرب إلى النفوس وصنع له أدوات محلية أغنته عن القهر الاستعماري المفضوح، وذلك منذ سحب عساكره ووضع على الحكم هذه الأدوات القميئة الفاشلة ولا نخجل أن ننعتها بالديوثة.
هنا تحل غزة في موقع المذكر بحقيقة الغرب وحكوماته بالخصوص وهي لم تعلمنا بقدر ما ذكرتنا، ولكنه تذكير قاس ومؤلم وفي نفس الوقت فاضح لمن يحاول غض الطرف أو تمويه المشهد بحجج وتبريرات تهين من يقولها قبل أن تهين من يسمعها.
الفرز على أساس درس غزة
المقتنعون بحق غزة في الحرية والحياة والذين تذكروا طبيعة الغرب وأعادوا كشف جوهره؛ يحتاجون في تقديرنا إلى موقف فكري وأخلاقي يكفر بهذا الغرب كفرا لا إيمان بعده، أي أن يقول كل مؤمن بغزة وحقها في الحياة (وهو حق يمتد إلى غيرها لو احتاج رفع السلاح من أجل حريته وكرامته).
سيقول البعض إن الشعوب الغربية ليست حكامها فالشعوب لم تقصر وقد كشفت عن خلافاتها مع حكامها وقالت كلمة الحق. نذكر أصحاب هذا القول أن هذه الشعوب تعيش حتى لحظة قولها الحق من النهب الاستعماري، وهي في بحبوحة من العيش بفضل حكامها النهابين. والصورة واضحة لديها، فلولا الكيان وداعميه من دول غربية لما استطاع مواطن غربي سوق سيارته ليصل مكان المظاهرة المتعاطفة (وهي جهد المقل). الحكومات تستولي والشعوب تتمتع وتتظاهر بحسن الخلق (تؤدي المظاهرات مفعولا عكسيا تنظف الأنظمة النهابة التي تسمح بها).
هل هذا القول دعوة لشن حرب على الغرب شعوبا وحكاما؟ سيكون من التسطيح فهم هذا القول على هذا النحو الفج. إن درس غزة في انتظار حرب قادمة هي تحويل معركتها ونتائجها إلى حالة وعي بأن الغرب كل الغرب لا يرجي منه خير للمنطقة وغزة وشعب فلسطين في القلب منها (ويوسع النطاق إلى كل غزة محتملة في مكان آخر من أفريقيا أو أمريكا اللاتينية).
ترجمة حالة الوعي على الأرض تكون في مستويات متراكبة من الفعل الفكري والسياسي، يمكن لكل فرد واع بما سنسميه وعي غزة أن يحرر نفسه فيبدأ:
أولا، من أن كل كلام الغرب عن حقوق الإنسان والدروس التي يعمل على فرضها (كما نشاهد الآن في سوريا) هو لغو لا يصدق ولا يقبل كمرجع يُحتكم إليه أو تقاس به الفعال، أي إسقاط الغرب كمقياس قانوني وأخلاقي أو قيمي. ليقل كل فرد حر إن الغرب ليس مرجعي ويبني كل فعله على هذا الأساس، ليتوقف الانبهار عند فضيحة الغرب في غزة فقد كشفت المنسي والمستور.
وثانيها، تحويل كل فعل فكري وثقافي وسياسي إلى فعل تحرر في مجال الفكر والثقافة والسياسة، وأن يبدأ كل فرد من نفسه دون انتظار تحويل الوعي إلى فعل جماعي حزبي أو جمعياتي. ولنذكر العقلاء بأن إفشال ثورة الربيع العربي حصل بقوة الغرب وبيد ثوار الكنبة المنبهرين به.
لقد غفلت الأحزاب والجماعات الفكرية المتحمسة للربيع عن دور الغرب، ولذلك أغفلت تحويل فعلها الثوري إلى فعل تحرري استقلالي ونزلت على ركبها تستجدي الغرب أن يعترف بها وبثوراتها لأنها استبطنت مرجعيته وخافت من قوته. لقد أخطأت هذه القوى والنخب التقدير بل أرهبت فجبنت فانهارت ثوراتها، وعاد الغرب يحكم في مصائرها بواسطة بيادق مثل السيسي وأضرابه حتى أنها عجزت عن تسيير مظاهرة فعلية لنصرة غزة ولو بالكلام والشعارات.
هل هذا الأمر سهل؟ الباحثون عن السهولة يمكنهم مواصلة جلسة الشاي الثقافي مع مثقفي الغرب وتدريس حقوق الإنسان لطلبتهم. إنه أمر ضروري بل حتمي وما لم ينجز فإن غزات كثيرة ما زالت على الطريق كل مثقف عربي أو أفريقي أو لاتيني وكل جماعة سياسية لا تفكر في امتهان دروس الغرب، بدءا من الخروج من هيمنته في النهاية لن تفلح في تحرير ذواتها وفي تحرير بلدانها وستواصل خدمة الغرب ومشاريعه والترويج لفكره ورؤيته للعالم، ودفع الأثمان لشركاته وتمتيع شعوبه برفاه غامر في ما تغرق هي في البؤس.
من أين يبدأ المرء التحرر من وهم الغرب؟ من نفسه ومن بيته قبل أن ينشغل بجاره. هذا أهم درس علّمنا إياه نصر غزة لقد انتصرت غزة يا ثوار الكنبة؛ انتصرت لأنها كفرت بالغرب أولا.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه غزة الحرب الفلسطيني الغرب نصر إسرائيل فلسطين مقاومة غزة الغرب مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة صحافة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة درس غزة
إقرأ أيضاً:
زيارة السوداني الى لندن: رسالة استقلال عراقية إلى الغرب
16 يناير، 2025
بغداد/المسلة: زيارة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني إلى المملكة المتحدة تُعَد خطوة محورية في السياسة الخارجية للعراق، حيث يسعى لإظهار تحولات جديدة تهدف إلى تعزيز استقلالية بغداد عن النفوذ الإيراني، وهو توجه يرى فيه مراقبون تحركاً جاداً وليس مجرد مناورة سياسية.
تحليل الأهداف الكامنة وراء الزيارة يشير إلى محاولة السوداني تحسين صورة العراق لدى الدول الغربية، خاصة مع ترسيخ انطباع في تلك الدول بأن العراق لا يزال خاضعاً للنفوذ الإيراني.
ولتحقيق ذلك، تعمل بغداد على إبراز سياسات خارجية أكثر توازناً تشمل بناء شراكات جديدة مع دول الخليج، تركيا، وفتح قنوات تعاون اقتصادي مع شركات غربية، روسية، وصينية.
يأتي هذا التوجه في سياق حساس تزامناً مع تغييرات متوقعة في السياسة الأميركية تجاه إيران، حيث يستعد دونالد ترامب للعودة إلى المشهد السياسي بعد أيام قليلة، وسط توقعات بتجديد سياسة “الضغوط القصوى” التي فرضها سابقاً على طهران.
هذه التطورات تفرض على العراق تحديات جديدة، خاصة في ظل استمرار العقوبات الغربية على إيران، ما يفرض على بغداد تبني مقاربة متوازنة لتجنب الانعكاسات السلبية على اقتصادها.
السياسات الداخلية العراقية لا تزال تواجه تأثيرات الأحزاب المتحالفة مع إيران، إلا أن الحكومة تسعى لإحداث اختراق في علاقاتها الخارجية عبر إظهار حياد إيجابي في ملفات إقليمية مثل الأزمة السورية، والتقارب الاقتصادي مع الدول المجاورة، مع محاولة جذب الاستثمارات الغربية لدعم مشاريع التنمية.
زيارة السوداني، رغم التركيز على أبعادها الاقتصادية، تحمل في طياتها رسالة سياسية واضحة مفادها أن العراق بدأ بتبني نهج مختلف، يسعى من خلاله لتقليص التبعية لإيران وتأكيد موقعه كلاعب مستقل في الساحة الإقليمية والدولية.
المسلة – متابعة – وكالات
النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.
About Post Author AdminSee author's posts