المرتزقة السيبرانيون.. من هم؟ وكيف تستخدمهم الشركات والدول للقضاء على الخصوم؟
تاريخ النشر: 20th, August 2023 GMT
نحن الآن في عام 2013، يجلس الحارس الخاص كارلو باسيليو على مقعده في شقته الفاخرة بهوليوود، مفكرا بعمق تحت ضغوط العمل المتزايدة، لكنها ليست ضغوط عمل كتلك التي نذكرها في سيرتنا الذاتية بالطبع، لأن رئيسه، رائد الأعمال رايان بلير، يطالبه بالوصول إلى ملفات ومواد تضر بسمعة شركة منافسة لشركتهم، وسط سيل من القضايا والمحاكم بينهما.
باسيليو لم يصل إلى أي شيء. لذا، قرر اللجوء إلى صديق قديم، ناثان موسر، كان يعرفه منذ أيام الحرب في أفغانستان مع شركة الجنود المرتزقة الأميركية الشهيرة "بلاكووتر" (Blackwater)، والذي يعمل محققا خاصا في وادي السيليكون. وصل موسر إلى شقة باسيليو بعدها بأيام ومعه حقيبة من القماش مليئة بمعدات المراقبة.
عرض موسر على باسيليو عدة أجهزة إلكترونية، بما فيها أجهزة تنصت إسرائيلية الصنع يمكن إخفاؤها في السقف أو خلف أجهزة التلفزيون. وفي أثناء هذا العرض برز اسم إحدى الخدمات الجديدة، أخبره موسر أنه يعرف مخترقا (هاكر) هنديا يمكنه اختراق البريد الإلكتروني لمنافسيه، وبهذا يمكنه سرقة ما يريد من معلومات. هنا انتبه باسيليو جيدا للكلام، لأنه لم يكن على علم بهذا النوع من أعمال التجسس.
حصل موسر على الوظيفة بمبلغ قدره 10 آلاف دولار شهريا، وانتقل للعمل في شركة رائد الأعمال رايان بلير، وهي شركة "فيزالوس" (ViSalus)، التي كانت قد رفعت سلسلة قضايا ضد مجموعة من البائعين ممن انتقلوا للعمل مع الشركة المنافسة "أوشن أفينو" (Ocean Avenue). وبحلول فبراير/شباط عام 2013، اخترق الشاب الهندي خبير الأمن الإلكتروني، سوميت جوبتا، حسابات البريد الإلكتروني للمديرين التنفيذيين لشركة "أوشن أفينو"، وأرسل لقطات شاشة وكلمات مرور إلى أصدقائه في شركة "فيزالوس". عند اكتشاف عملية التجسس، رفعت "أوشن أفينو" دعوى قضائية فيدرالية ضد منافستها "فيزالوس" بتهمة الابتزاز والقرصنة، ثم قررت الشركتان تسوية الدعوى بشروط لم يُعلن عنها.
لكن تلك التسوية لم تنهِ القصة، وبعدما وصل الأمر إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي، وفي فبراير/شباط عام 2015، أُلقى القبض على باسيليو وموسر، واعترفا في النهاية بارتكاب الجرائم الإلكترونية الخاصة باختراق شركة "أوشن أفينو". انتهت هنا بالطبع قصة الصديقين، لكن بالنسبة للشاب الهندي جوبتا تلك كانت البداية فحسب!
بعد أسابيع قليلة من عملية الاختراق التي نفذها لصالح شركة "فيزالوس"، وتحديدا في مايو/أيار عام 2013، سجل سوميت جوبتا شركة جديدة باسم "بيلتروكس" (BellTroX)، وبدأ في تكوين فريق من المرتزقة السيبرانيين لينفذ عمليات اختراق مشابهة لصالح محققين وشركات ورجال أعمال آخرين.
تلك القصة كانت نتيجة تحقيق استقصائي أجرته وكالة رويترز العام الماضي، أشارت فيه إلى 35 قضية قانونية منذ عام 2013 حاول فيها مخترقون هنود الحصول على وثائق من شركات أو أشخاص في قضايا داخل المحاكم، عبر سرقة كلمات المرور لحسابات البريد الإلكتروني. هذا النوع من الاختراقات منتشر حاليا بصورة أكبر، وهو ما تنفذه مجموعات تُعرف بالمرتزقة السيبرانيين. (1)
مرتزقة سيبرانيون
مصطلح "المرتزقة السيبرانيين" يشير إلى مجموعة متنوعة من الشركات التي تعمل بمجال الأمن الإلكتروني وتطور وتبيع أجهزة ومعدات وخدمات إلكترونية لأغراض اختراق أجهزة الضحايا. يتكون عملاء تلك الشركات غالبا من الحكومات والأجهزة الأمنية أو بعض الشركات التي ترغب في الحصول على ورقة ضغط ضد شركة منافسة كما رأينا في القصة السابقة.
خلال السنوات الأخيرة، انفجر سوق المرتزقة السيبرانيين، حتى إن بعض التقديرات تشير إلى وصول قيمته أكثر من 12 مليار دولار عالميا. (2) هذا النمو كان مدفوعا، في جزء كبير منه، بسبب الحكومات التي تسعى إلى الوصول بسهولة إلى الأدوات والخدمات المتطورة لعدد من أغراض التجسس الإلكتروني فيما يشبه ميدان حرب سيبرانية جديد، والأهداف المعلنة هي محاربة الإرهاب والعصابات الإجرامية الكبيرة، مثلا أشارت مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي إلى 74 حكومة على الأقل تعاقدت مع هذه الشركات، بين أعوام 2011-2023، لتحصل على برمجيات التجسس وتقنيات التحقيقات الجنائية الرقمية. (3)
دولة الاحتلال الإسرائيلي هي أكبر مصدر لهذا النوع من الشركات والبرمجيات الخاصة بالتجسس، إذ اشترت 56 حكومة، من أصل 74 حكومة، تلك البرمجيات والتقنيات الرقمية من شركات مقرها إسرائيل أو على صلة بها (3)، مثل الشركة التي اشتهرت منذ أعوام قليلة "إن إس أو غروب" (NSO Group)، التي طورت برمجية التجسس الشهيرة "بيجاسوس" (Pegasus). (4)
تلجأ الأنظمة والحكومات الاستبدادية لاستخدام المرتزقة السيبرانيين غالبا لاستهداف الصحفيين ونشطاء حقوق الإنسان والمعارضين السياسيين للحكومة. كما كشفت ميتا، في تحقيق نشرته عام 2021، أن مجموعات المرتزقة السيبرانيين استخدموا منصات فيسبوك وإنستغرام لاستهداف نحو 50 ألف شخص في أكثر من 100 دولة حول العالم. (5)
تطور نموذج العمل
تركز مجموعات المرتزقة السيبرانيين على تقديم خدمة، أو ربما خدمتين، للعملاء فيما يخص عمليات التجسس الإلكتروني، لكن هناك بعض المجموعات التي ظهرت مؤخرا وطورت من نموذج عمل هذا المجال أكثر، ومن أشهرها كانت "مجموعة أطلس للاستخبارات" (Atlas Intelligence Group).
اشتهرت مجموعة أطلس خلال العام الماضي، وكانت تعلن عن خدماتها على العديد من قنوات تطبيق تليغرام الشهيرة في هذا السوق، بجانب قنواتها الخاصة على التطبيق. استهدفت هجمات المجموعة دولا مختلفة من العالم، مثل الولايات المتحدة وباكستان ودولة الاحتلال الإسرائيلي وكولومبيا وغيرها.
تشير شركة الأمن الإلكتروني "سايبرنت" (Cyberint) إلى أن ما يجعل مجموعة أطلس فريدة من نوعها، بالمقارنة بالمجموعات الأخرى في هذا المجال، هو تجنيدها للمرتزقة السيبرانيين لتنفيذ مهام محددة جزءا من حملات هجومية أكبر لا يعرفها سوى المسؤولين الكبار داخل المجموعة. (6)
في معظم الحالات، غالبا ما تقوم المجموعات بتجنيد أشخاص يتمتعون بإمكانيات محددة وسيضطرون لإعادة التعامل معهم، وهنا يشارك الجميع في حملة الهجوم السيبراني، بمعنى أن الجميع يعرف ما الذي يحدث في الهجوم بالتحديد. لكن في حالة مجموعة أطلس، يبدو أن المسؤولين وقائد المجموعة فقط هم مَن يعرفون تحديدا تفاصيل حملة الهجوم كاملة، ولهذا يلجأون لاستئجار مرتزقة لتنفيذ مهام مختلفة، في أثناء مراحل الحملة، عبر قناتهم على تطبيق تلغرام. على سبيل المثال، تعرض المجموعة فرصة تنفيذ مهمة واحدة كمهام الهندسة الاجتماعية واختراق البريد الإلكتروني وغيرها، كما يبدو أنهم يجندون مجموعة مختلفة من المرتزقة لكل حملة هجوم. هذا التكنيك يمنحهم مزيدا من السرية لعملياتهم وهجماتهم الإلكترونية.
تقدم الشركة عدّة خدمات في هذا المجال، مثل هجمات الحرمان من الخدمة الموزعة (DDOS)، وهي من أشهر الهجمات الإلكترونية عموما، يقوم فيها المهاجم بإغراق خادم إحدى الشركات بطلبات المرور لمنع المستخدمين من الوصول إلى الخدمات والمواقع المتصلة بهذا الخادم. (7)
خدمة أخرى شائعة في هذا المجال هي عمليات تسريب البيانات، ويبدو أن مجموعة أطلس لا تركز على مجال أو منطقة واحدة بعينها، بل تستهدف أي شيء قد يملك قيمة للمشترين المحتملين لهذه البيانات. مثلا، نشرت المجموعة قواعد بيانات مسربة للبيع بداية من سعر 15 يورو، وهي قواعد بيانات من مختلف أنحاء العالم، ومن مجالات مختلفة مثل التعليم والتمويل والجهات الحكومية والتصنيع والتكنولوجيا. (6)
وإذا نظرنا إلى الصورة الأكبر، فسنجد أن التهديدات والهجمات الإلكترونية تتطور بوتيرة أسرع من أي وقت مضى، إذ لم تعد الجرائم الإلكترونية محصورة في نطاق ذلك "الهاكر" المنفرد المتخفي في مكان غامض ما، لكنها تحولت إلى جريمة منظمة، لا تستهدف فقط الأشخاص العاديين، لكن أهدافها أكبر بكثير. يُعد اقتصاد الجريمة الإلكترونية اليوم من أكبر الاقتصادات نموا في العالم، ويتوقع تقرير لشركة "سايبر سيكيورتي فينشرز" (Cybersecurity Ventures) أن تتضاعف تكاليف أضرار الجرائم الإلكترونية العالمية بنسبة 15% سنويا على مدار السنوات القليلة المقبلة، لتصل إلى نحو 10.5 تريليونات دولار سنويا بحلول عام 2025، بعد أن وصلت إلى 3 تريليونات دولار في عام 2015. بهذا أصبحت الجريمة الإلكترونية مربحة للغاية لمجموعات الاختراق والهاكرز عالميا، وعليهم دائما البحث عن أساليب جديدة للوصول إلى هذه الأموال الضخمة، ولهذا تتطور أساليب المرتزقة السيبرانيين باستمرار. (8)
في غضون ذلك، تتجه بعض الدول حاليا أكثر فأكثر للاعتماد على مجموعات المرتزقة السيبرانيين لتحقيق أهدافها، حتى أصغر البلدان يمكنها شراء خدمات التجسس الرقمي، مما يمكنها من إجراء عمليات وهجمات معقدة، مثل التنصت الإلكتروني، التي كانت في يوم من الأيام حكرا على القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا. كما يمكن للشركات التي ترغب في معرفة أسرار المنافسين، أو تهديدهم والاستيلاء على معلومات حساسة لاستخدامها ضدهم في المحاكم، أن تطلب أيضا تلك الخدمات الاستخباراتية مقابل دفع الثمن، كأنهم يدخلون إلى متجر يعرض أجهزة تجسس مخصصة من وكالة الأمن القومي الأميركي أو الموساد الإسرائيلي، وغيرهما من أجهزة الاستخبارات العالمية.
———————————————————————
المصادر:1) How mercenary hackers sway litigation battles
2) A New Age of Warfare: How Internet Mercenaries Do Battle for Authoritarian Governments
3) Why Does the Global Spyware Industry Continue to Thrive?
4) قاتل بلا أثر.. من هو الجاسوس الإسرائيلي بيغاسوس الذي يثير الفوضى في العالم؟
5) Taking Action Against the Surveillance-For-Hire Industry
6) Atlas Intelligence Group (A.I.G) – The Wrath of a Titan
7) What is a DDoS attack?
8) 10.5 تريليونات دولار خسائر سنوية متوقعة.. لماذا يتوقع الخبراء كارثة أمنية إلكترونية خلال عامين؟
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: الجرائم الإلکترونیة البرید الإلکترونی فی هذا المجال عام 2013
إقرأ أيضاً:
ماذا حدث لـمعجزة اليابان؟ وكيف أدخلتها أميركا إلى النفق المظلم؟
إذا كنت عربيا من مواليد الثمانينات أو أوائل التسعينيات، أو ربما حتى بعد ذلك، فمن المرجح أنك مررت بعبارة "كوكب اليابان"، التي تنطوي على قدر واضح من الإعجاب المذهول بالطفرة الاقتصادية والتقنية التي حققتها الدولة الآسيوية وجعلتها محط أنظار العالم.
لقد كانت التجربة اليابانية آنذاك تجسيدا للطفرة الاقتصادية التي تطمح لها جميع الدول النامية التي تنكبت المسير لأسباب مختلفة، وفي وقت كان العالم يعاني فيه من استقطابات الحرب الباردة وتقلبات الأزمات النفطية، برزت اليابان منارةً للقوة الصناعية والابتكار التكنولوجي خارج العالم الغربي.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2"الإمبراطور الإله" الذي استسلم لأمريكا.. قصة رجل عبده اليابانيونlist 2 of 2من الشنتوية إلى إلحاد 86%.. كيف أعادت أميركا تشكيل الشعب الياباني؟end of listوما يجعل التجربة اليابانية "معجزة" حقيقية، أنها انطوت على تحوُّل درامي من اقتصاد مدمر لا يقل تهالكا عن المدن اليابانية التي ضربتها القنابل النووية الأميركية إلى قوة عالمية تنافس أكبر الاقتصادات الغربية. وفي حين أن مصطلح "المعجزة الاقتصادية" فقد بريقه في عالم اليوم، لأنه استُخدم بكرم بالغ لوصف أي دولة تشهد قفزة في الناتج المحلي الإجمالي، فإن ما حدث في اليابان تحديدا كان شيئا لا يقل عن "معجزة" بالفعل.
ففي عام 1960، كان الناتج المحلي الإجمالي لليابان يقارب 47 مليار دولار، وبحلول عام 1990، قفز الرقم إلى 3.1 تريليون دولار وفقا لبيانات البنك الدولي، وهو ما يعني أن حجم الاقتصاد تضاعف بضعة وستين مرة خلال أقل من ثلاثة عقود.
وبحلول عام 1995، بلغ الناتج المحلي الإجمالي لليابان نحو 5.55 تريليونات دولار، بقفزة تناهز 45% خلال 5 سنوات، في ذلك التوقيت سجلت الولايات المتحدة ناتجا محليا إجماليا قدره 7.64 تريليونات دولار فقط، ما أدى إلى تقليص الفجوة الاقتصادية بين الدولتين بشكل ملحوظ بل إن الاقتصاد الياباني تفوق على نظيره الأمريكي في بعض المؤشرات وعلى رأسها نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، حيث تجاوز نصيب الياباني من ناتج بلاده نصيب نظيره الأمريكي بمعدل 10% على الأقل، وظهرت التوقعات التي "تبشر" أو "تحذر" -حسب موقع صاحبها- من احتمالية تجاوز اليابان للولايات المتحدة لتصبح أكبر قوة اقتصادية عالمية. وكان هذا الخيال الجامح يخيم على الأجواء مخترقا الإعلام والخطاب السياسي الأميركي، إلى حد قيام هوليود بصناعة أفلام حول مستقبل يسيطر عليه اليابانيون.
إعلانلكن بحلول نهاية التسعينيات، بدأت رواية "الاستقلال الاقتصادي الياباني" تتفكك. وفي العقود التالية، عانت اليابان من ركود اقتصادي وأزمة ديموغرافية أبطأت نموها بشكل كبير، وبحلول عام 2023، سجل الناتج المحلي الإجمالي لليابان 4.2 تريليون دولار، في تباين صارخ مع الناتج الإجمالي الأميركي المقدر بـ 27.4 تريليون دولار.
في غضون ذلك، تلاشت المخاوف من مستقبل يسيطر عليه اليابانيون، وحلَّت محلها مناقشات في الإعلام الأميركي والغربي حول ضرورة دعم اليابان (الحليف المفترض للولايات المتحدة في مواجهة الصين) لاستعادة مكانتها السابقة، مما يشير إلى تغيير هائل عن الأيام التي شكّل فيها أحفاد الساموراي مصدر تهديد للهيمنة الاقتصادية الغربية.
نهاية المعجزة.. وبداية الكابوسحتى عام 2010، كان اقتصاد اليابان لا يزال هو ثاني أكبر اقتصاد على مستوى العالم، لكن بحلول هذا العام كانت نتائج عقدين من الأزمة المتواصلة قد انجلت، إذ سحبت الصين من تحت أقدام اليابان المركز الثاني، وبحلول نهاية عام 2023، كانت اليابان على موعد مع تراجع جديد هذه المرة، إذ احتلَّت ألمانيا مكانها دافعة طوكيو إلى المرتبة الرابعة، بل وباتت الصحف الاقتصادية تتحدث عن احتمالية تراجع ياباني جديد في القائمة، هذه المرة لصالح الهند.
ووفق تحليل صحيفة "ذا ديبلومات"، لم يكن هذا التراجع ترجمة فقط لانخفاض سعر الين الياباني مقابل الدولار الأميركي بنحو 30% في العقد الماضي، وهو ما يؤثر بالطبع على الناتج المحلي الإجمالي الاسمي، لكنه يعبر عن أزمة أعمق طالت طفرة النمو اليابانية التي شكلت الركيزة الأساسية لمعجزتها الاقتصادية.
وبحسب بيانات صندوق النقد الدولي، كان متوسط معدل النمو الحقيقي في اليابان سنويا من عام 2000 وحتى عام 2022 لا يتجاوز 0.7%، بينما كان المعدل في ألمانيا مثلا، والتي تعاني هي الأخرى على أصعدة اقتصادية مختلفة، يتراوح حول 1.2%.
إعلانوبحسب الصحيفة البريطانية "ذا إيكونوميست"، فقد انخفضت حصة اليابان من الناتج المجلي الإجمالي العالمي "وفق مؤشر تعادل القوة الشرائية" من 9% عام 1990 إلى أقل من 4% عام 2022، وهي أقل نسبة تسجلها اليابان منذ ثمانينيات القرن العشرين، وبشكل مماثل، انخفض نصيب الفرد الياباني من الناتج المحلي الإجمالي مقارنة بنظيره الأميركي من 81% عام 1990 إلى 64% بحلول عام 2022، وباتت اليابان تحتل المركز 21 بين الدول الـ38 الأعضاء بمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية على مؤشر نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي.
يُضاف إلى ذلك أن توقعات بنك "جولدمان ساكس"، مؤسسة الخدمات المالية المرموقة، تشير إلى أن اليابان ستخرج في غضون ربع قرن من قائمة أكبر خمسة اقتصادات في العالم، وستخرج من قائمة أكبر 10 اقتصادات بحلول عام 2075. وتعكس هذه الأرقام والتوقعات العديد من المشاكل البنيوية في الاقتصاد الياباني في مقدمتها أزمة تراجع إنتاجية العمل.
وفي حين كانت إنتاجية العامل الياباني مضرب الأمثال قبل عقدين أو نيف، فإنها تشهد حاليا تراجعا حادا إذ تبلغ إنتاجية العمل في اليابان 60% مقابل إنتاجية العمل في ألمانيا، وبحسب أرقام عام 2022، تحتل اليابان المرتبة الثلاثين على مستوى بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية من ناحية إنتاجية العمل، التي تُقاس بقيمة السلع والخدمات التي يمكن للعامل في البلد إنتاجها في الساعة الواحدة.
على جانب آخر، وحتى تسعينيات القرن العشرين، كان يُنظر إلى اليابان على نطاق واسع باعتبارها دولة ذات اقتصاد صحي يتمتع بالعدالة الاجتماعية مع طبقة متوسطة واسعة ومستقرة وقوية، لكن منذ عام 2006 بدأت علامات "أزمة الفقر" تتضح في اليابان، إذ بدأ يظهر ما يسمى بقرى الخيام، "مورا"، التي يسكنها العمال المؤقتون العاطلون عن العمل الذين أصبحوا بلا مأوى بسبب الانكماش الاقتصادي، ومع قدوم جائحة "كوفيد-19" أفصحت تلك العلامات عن نفسها بصورة أوضح، ووصل الأمر إلى حد خروج سيدات يابانيات على وسائل التواصل الاجتماعي يشتكين عدم قدرتهن على شراء منتجات النظافة الصحية النسائية، هذا بالإضافة إلى تكرار مشاهد غير معتادة مثل اصطفاف أعداد كبيرة من المواطنين من أجل الحصول على طعام مجاني من جمعيات خيرية، وتشهد اليابان عموما ازديادا في أعداد مَن يعملون بوظائف مؤقتة وهشة لا تمنحهم الحماية الاجتماعية ولا الاطمئنان بشأن الغد.
وفي تقرير لوكالة الأنباء الأميركية "أسوشيتد بريس" بعنوان "اليابان غنية لكن العديد من أطفالها فقراء"، أشار إلى أنه رغم كون اليابان لا تزال تُعد واحدة من أغنى دول العالم، فإن لديها واحدا من أعلى معدلات فقر الأطفال بين دول العالم الغني، إذ يعيش طفل ياباني من كل سبعة أطفال في فقر، وتعيش نحو نصف الأسر ذات العائل الواحد تحت خط الفقر.
إعلانهذه الحقيقة المأساوية تؤكدها الأرقام الرسمية لعام 2022 حول المعيشة الوطنية التي أصدرتها وزارة الصحة والعمل والرفاه في اليابان، حيث بلغ معدل الفقر في البلاد 15.4%، وهو أعلى معدل بين أعضاء منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في ذلك العام، وبالمثل أظهرت دراسة استقصائية في الفترة نفسها أن 44.1% من النساء اليابانيات العازبات اللواتي تخطى عمرهن 65 عاما يعانين من الفقر، ولكن ما يجعل الفقر في اليابان غير مرئيا للعيون الخارجية إلى حدٍّ كبير هي الثقافة التي تتعامل مع الفقر باعتباره عارا يستتر منه صاحبه.
إن كل الأرقام السلبية السابقة هي نتيجة النفق المظلم الذي دخلته اليابان منذ التسعينيات وصاحبه العديد من وعود الفجر الكاذب، فمع كل انتعاشة اقتصادية صغيرة كان بعض الخبراء الاقتصاديين ينتظرون استفاقة وعودة للمسار الإعجازي للاقتصاد الياباني.
لكن هذا لم يحدث، إذ ظل الاقتصاد في حالة ركود من التسعينيات ولم ينمُ إلا باعتدال في بعض الأحيان، وترافق هذا الانكماش مع تأخر واضح في القدرة التنافسية للبلاد وإمكاناتها الإنتاجية وانخفاض عدد سكانها، وحتى فيما يتعلق بصناعة السيارات التي كان يُنظر إليها باعتبارها من أهم أوجه فخر الاقتصاد الياباني، فقد تعرضت هي الأخرى إلى ركلة قوية بسبب ظهور السيارات الكهربائية التي لا تسيطر اليابان على أسواقها ولا تلعب أي دور ريادي فيها.
كيف دخلت اليابان في النفق المظلم؟يحب بعض الاقتصاديين أن يطلقوا على ما حدث لليابان وصف "نزلة برد طويلة"، فهي لم تتعرض لكارثة كبيرة، لكنها مجرد "كبوة" تجلت في ركود اقتصادي عادي إلى حدٍّ ما، وطالت حتى أصبحت "كارثة" بفعل طولها. بدأ الأمر بفقاعة في نهاية ثمانينيات القرن العشرين، تمحورت حول الأسهم والعقارات اللتين شهدتا ارتفاعا في أسعارهما على نحو غير مسبوق في هذا العقد، إذ تضاعفت أسعار الأراضي التجارية أربع مرات بسرعة كبيرة، حتى وصل الأمر إلى لحظة بات فيها سعر بضع مئات من الأفدنة في موقع متميز بطوكيو العاصمة يساوي ثمن كل أراضي ولاية كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأميركية، بحسب منصة الراديو الأميركي الوطني العام "إن بي آر".
إعلانوبحلول بداية تسعينيات القرن العشرين، وتحديدا عام 1991، انفجرت تلك الفقاعة تماما، وانهار معها سوق الأسهم، وهبطت أسعار العقارات بوتيرة سريعة للغاية أدت إلى خسارة اليابانيين الكثير من الأموال، ومن ثم إحجامهم عن الإنفاق وبداية مسلسل الركود الاقتصادي. ففي عام 1991 وحده، ارتفع معدل إفلاس الشركات إلى أكثر من 66%، وانخفضت أجور العمال في البلاد على نحو واضح، وبدأ ما يسمى بـ"العقد الضائع في الاقتصاد الياباني، ومع حلول عام 2001، كانت أسعار العقارات والأراضي قد هبطت بأكثر من 70%.
في الواقع، صادفت اليابان مشكلة أخرى فاقمت الأزمة، ففي عام 1997، وبينما كان البعض يترقب نهاية الركود المؤلم؛ حدثت الأزمة المصرفية، التي حفزها فشل بنك كبير في اليابان هو بنك "هوكايدو تاكوشوكو". كان هذا نتيجة للسياسة المتساهلة التي اتبعتها البنوك في اليابان بعد الفقاعة، تحديدا مع عملائها الكبار، فعندما لم تتمكن الشركات الكبرى من سداد قروضها المصرفية، كانت البنوك تعطيها الفرص وتتنازل عن جزء من القروض وتخفض المدفوعات على الفائدة إلى الصفر، وبسبب تراكم تلك القروض التي سمّاها الاقتصاديون "قروض الزومبي"، كانت النتيجة انهيار أول بنك كبير في اليابان، مما فاقم من المشكلة اليابانية.
ومع فشل بنك "هوكايدو تاكوشوكو" بدأت سلسلة انهيارات متعاقبة لمؤسسات مالية كبيرة في البلاد، مثل مؤسستَيْ "سانيو" و"يامائيتشي" للأوراق المالية، وبدأ الذعر المالي يتسرب في كل أنحاء البلاد، إذ اصطف اليابانيون في طوابير أمام البنوك لسحب ودائعهم، إلى درجة إصدار الدولة تعليماتها لكي تمنع البنوك تلك الطوابير أمامها لتحجيم حالة القلق العام، وبدأت الصحافة اليابانية في الامتناع عن نشر الأخبار حول الطوابير المصطفة حتى لا تزداد حالة القلق الكبيرة التي يمكن أن تجر الاقتصاد إلى ما هو أسوأ.
إعلانعلى أصداء تلك الأزمة، انكمش الاقتصاد الياباني بشدة بفعل ضعف الطلب، في حين كانت المؤسسات المالية عاجزة عن توفير التحفيز الاقتصادي اللازم. وبحلول عام 1998، بات واضحا أن "نزلة البرد الاقتصادية" ستطول، إذ بدأ الناس والشركات يتراجعون عن الإنفاق أكثر، فانخفضت الأسعار أكثر فأكثر مما أدى إلى توقف عجلة الإنتاج تقريبا. ومن ناحية أخرى، شرعت الحكومة، في محاولة لحل الأزمة المطولة، في طباعة كميات أكثر من النقود، مع خفض أسعار الفائدة إلى الصفر في الوقت نفسه بغية تحفيز الاقتصاد، ولكن لم يكن هناك شيء قادرا على عكس حالة الركود.
في غضون فترة قصيرة، باتت اليابان تعاني مما يسميه بعض الاقتصاديين "فخ السيولة"، إذ يصبح الناس غير مقبلين على الشراء مهما توفر لهم من النقود، وتتراكم النقود في المنازل دون أن تتسرب بأي شكل للاقتصاد، في مواجهة ذلك سعت السلطات لتحفيز الاقتصاد من خلال برامج الإنفاق الحكومية المكلفة، حتى صارت اليابان أكثر الدول المتقدمة المدينة في العالم، ورغم ذلك كان الاقتصاد بالكاد ينمو أحيانا.
لم تكن المشكلة أن اليابانيين باتوا يميلون إلى الادخار لا الإنفاق فحسب، وإنما أيضا كانت هناك مشكلة واضحة في المعروض، إذ أدى الانكماش السكاني مع عدم الانفتاح تجاه الهجرات الواسعة إلى أزمة نقص في العمالة، مما أعاق النمو بدوره، فضلا عن أن الابتكار الياباني الذي كان مشهودا له ذات يوم قد بدأ يتراجع، ولم تعد اليابان كما كانت في السابق مشهورة بالابتكارات الجديدة والفريدة من نوعها.
فتِّش عن الولايات المتحدةحين نحكي القصة من هذه الزاوية الداخلية، قد يظن القارئ أن نهاية المعجزة اليابانية ودخول النفق المظلم هي أزمة داخلية محضة بدأت بانهيار فقاعة العقارات والأسهم، وتوسطها أزمة مصرفية، ثم جاء الانكماش السكاني وسلوك اليابانيين الاقتصادي ليُتمّها، لكن الواقع أن هناك محفزا خارجيا هو مَن أسهم بشكل أساسي في هذا التعثر الياباني الطويل؛ إنه الدور الذي لعبته الولايات المتحدة الأميركية.
إعلانكانت اليابان الوحش الاقتصادي المخيف الذي يُرعب الولايات المتحدة الأميركية خلال نهاية السبعينيات والثمانينيات، وكان عديد من السياسيين ورجال الأعمال والصناعة يطالبون بمواجهة التقدم الياباني وهم ينظرون إلى العجز التجاري بين البلدين الذي يصب في صالح اليابان، وإلى البضائع اليابانية التي تغزو الأسواق الأميركية بأسعار رخيصة وجودة عالية، وفي الواقع بدأت الضغوط الأميركية تزداد على اليابان منذ عام 1981، إذ ضغط الرئيس الأميركي رونالد ريغان على طوكيو من أجل فتح أسواقها أمام الشركات الأميركية، ومن أجل وضع حدٍّ للاختلال في الميزان التجاري بين البلدين.
وقد اضطرت اليابان بالفعل في البداية لوضع حدٍّ لعدد السيارات التي تُصدِّرها للولايات المتحدة، وبحلول عام 1985 حدث التحول الأهم؛ وهو اتفاق "بلازا" الذي وقَّعته كلٌّ من الولايات المتحدة الأميركية واليابان وألمانيا الغربية وفرنسا وبريطانيا، وقد نص الاتفاق على رفع قيمة الين الياباني مقابل الدولار الأميركي، حتى يتقلص العجز التجاري بين البلدين وتصبح الصادرات اليابانية أغلى ومن ثم تنخفض تدريجيا، ثم أعقب هذا الاتفاق فرض الولايات المتحدة الأميركية تعريفات جمركية قدرها 100% على الواردات اليابانية في عام 1987.
كانت اتفاقية "بلازا" بمثابة ضربة قاصمة للصادرات اليابانية وقدرتها التنافسية في الأسواق العالمية، لكن الأهم أنها كانت بداية سلسلة الأحداث المأساوية للاقتصاد الياباني، فحين ارتفعت قيمة الين بسرعة كبيرة بعد الاتفاق من 240 ينًّا لكل دولار أميركي في 1985 إلى 120 ينًّا لكل دولار بحلول 1988 وتأثرت الصادرات على خلفية ذلك، اضطرت اليابان من أجل تخفيف الآثار إلى خفض سعر الفائدة لكي تحفز الطلب المحلي وتعوِّض الخسائر الخارجية الناجمة عن الاتفاق، ومن هنا بدأت أزمة السيولة الكبيرة وتزايدت المضاربات، وقد أدت التسهيلات الكبيرة في الاقتراض والمضاربة بسوقَيْ العقارات والأسهم إلى ارتفاع أسعار العقارات والأسهم بشدة ومن ثم خُلقت الفقاعة، حيث بات كل السوق يتعامل على أساس تصور غير عقلاني مبالغ فيه للغاية لقيمة الأراضي والعقارات، حتى انفجرت الفقاعة في بداية التسعينيات وتتابعت الأزمات.
إعلانلقد اعتمدت اليابان اعتمادا شبه كامل على الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث ارتبط أمن اليابان وتعافيها الاقتصادي ارتباطا وثيقا بالسياسات الأميركية وديناميكيات السوق. وكما قدمت العلاقات الوثيقة مع الولايات المتحدة بعض المزايا الأمنية لليابان وإمكانية الوصول إلى أكبر سوق استهلاكي في العالم، فقد أوجدت هذه العلاقة أيضا قيودا أعاقت القدرة الاقتصادية لليابان واستقلالها الإستراتيجي، ولعل هذا هو الدرس الذي يجب أن تعيه القوى الصاعدة في عالم اليوم.