إرث الأسد الثقيل.. كيف يبدأ مسار العدالة الانتقالية في سوريا؟
تاريخ النشر: 16th, January 2025 GMT
منذ سقوط نظام بشار الأسد، يتصدر ملف المحاسبة والعدالة الانتقالية المشهد السوري بوصفه ضرورة لتحقيق الإنصاف للضحايا وضمان استقرار مستدام في البلاد التي شهدت ارتكاب مجازر وحشية بحق أبنائها خلال سنين الثورة على أيدي قوات الأسد والمليشيات الإيرانية الموالية.
وتصاعدت الأصوات المطالبة بوضع مسار واضح لتحقيق العدالة لضحايا النظام المخلوع مع توالي المشاهد التي أظهرت قيام العديد بالعبث بالوثائق داخل معتقلات النظام وفروعه الأمنية، فضلا عن قيام "مبادرة" من فريق يعرف باسم "سواعد الخير" بطلاء جدران أحد السجون في محافظة اللاذقية.
وتثير هذه المشاهد استياء كثير من السوريين المنادين بضرورة حفظ المعتقلات من العبث لكونها "مسارح جرائم" لا يجب أن تتعرض الأدلة الموجودة داخلها للإتلاف أو العبث لكي لا تفقد مصداقيتها.
وفي السياق، نظم أهالي عدد من المفقودين والمعتقلين في سجون النظام السوري المخلوع، الخميس، وقفة احتجاجية في العاصمة دمشق للمطالبة بتحقيق العدالة لذويهم وإيقاف "طمس" الأدلة في الفروع الأمنية
وشدد المحتجون الذين احتشدوا أمام "فرع الخطيب" الأمني بالقرب من ساحة التحرير في دمشق، على ضرورة محاسبة المتورطين بارتكاب الجرائم بحق الشعب السوري خلال سنوات الثورة.
نظمت عائلات المعتقلين/ات والمختفين/ات قسرياً.مظاهرة اليوم الخميس في مدينة دمشق للمطالبة الفورية والعاجلة بوقف الانتهاكات المستمرة بحق المعتقلين والمفقودين، الذين قضوا أصعب وأكثر - وربما آخر- لحظاتهم إيلاماً, بين جدران زنازين#طمس_الادلة_جريمة pic.twitter.com/PYwJNJ9vf8 — •ام هند• (@Re2011tion1) January 16, 2025
ورفع المحتجون في دمشق لافتات كتب عليها "آن أوان محاسبة الطغاة.. لن نسامح" و"أين ذهبوا بباقي المعتقلين؟" و"لا تخبوا ريحة أولادنا برائحة الدهان"، في إشارة إلى طلاء جدران أحد المعتقلات في محافظة اللاذقية.
وتكتسب جدران السجون في معتقلات النظام المخلوع أهمية لدى السوريين بسبب كونها السبيل الوحيد الذي تمكن المعتقلون من خلاله ترك ما يدل على وجودهم، مثل نقش أسمائهم أو تواريخ اعتقالهم عليها، بالإضافة إلى كتابة خواطرهم وآلامهم عبر أظافرهم أو نوى الزيتون.
يأتي ذلك على وقع غموض في الموقف الرسمي للإدارة الجديدة تجاه هذا الملف، الأمر الذي يثير تساؤلات حيال مدى الجدية في معالجة إرث الانتهاكات والجرائم التي ارتكبها نظام الأسد المخلوع من خلال البدء في مسار "العدالة الانتقالية"، التي "تشمل مجموعة من التدابير القضائية وغير القضائية لمعالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان"، بحسب الخبير القانوني المعتصم الكيلاني.
ويوضح الكيلاني في حديثه مع "عربي21" أن هذه التدابير تتألف من محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، وكشف الحقيقة، وتعويض الضحايا، وإصلاح المؤسسات، وضمان عدم تكرار الجرائم، مشددا على أن "نجاح هذه العمليات يتطلب وقتًا وجهودًا مستمرة، وتمتد عادةً على مراحل تمتد لسنوات عديدة".
وتأتي المطالبات بضرورة إيلاء الأهمية لمسار العدالة الانتقالية في وقت تشهد في البلاد مرحلة غير مسبوقة في تاريخها الحديث، حيث تعاني من إرث متهالك خلفه نظام الأسد في كافة المؤسسات الحكومة، بالإضافة إلى "التجييش الطائفي" الذي كان النظام المخلوع يمارسه لضمان حكمه.
كيف يبدأ مسار العدالة الانتقالية؟
فيما يخص بدء مسار العدالة الانتقالية في سوريا، يرى المحامي غزوان قرنفل فإنه من الضروري بعد تشكيل الحكومة الانتقالية، إنشاء هيئة وطنية للعدالة الانتقالية تتبع إداريا لرئاسة الوزراء.
ويوضح في حديثه مع "عربي21"، أن هذه الهيئة يجب أن تتكون من قضاة ومحامين وحقوقيين وشخصيات وطنية تقدم رؤية وطنية للعدالة الانتقالية، تشمل المحاسبة والمساءلة عن الجرائم والانتهاكات الكبرى بحق السوريين، لجان الحقيقة، الإصلاح المؤسسي، جبر الضرر، وتخليد الذكرى.
ويضيف قرنفل أنه يجب أن تقدم الهيئة رؤيتها ضمن مدة زمنية لا تتجاوز ثلاثة أشهر لتلك الحكومة، موضحا أنه بعد ذلك يمكن الانطلاق بالعمل سواء من خلال تأسيس محكمة جنائية مختصة بالنظر في الجرائم التي تقرر إيكالها إليها ومحاكمة الضالعين فيها، أو لجهة انطلاق أعمال لجان الحقيقة والمصالحة، وباقي السياقات الأخرى.
من جانبه، أكد الخبير القانوني المعتصم الكيلاني أن العدالة الانتقالية تتطلب إرادة سياسية حقيقية تضمن التزام جميع الأطراف بتحقيق العدالة والمصالحة.
وأضاف أن ذلك يتطلب أيضًا وقف العنف لتحقيق استقرار أمني يمهد الطريق، إلى جانب وضع إطار قانوني يدعم المساءلة ويعزز سيادة القانون، مشددا على أهمية الحوار الوطني الشامل لإشراك كل المكونات السورية في صياغة رؤية مشتركة للمستقبل.
كما شدد المعتصم الكيلاني في حديثه مع "عربي21"، على ضرورة إصلاح مؤسسات الدولة لضمان نزاهتها وحيادها، خاصة الأجهزة القضائية والأمنية.
غموض موقف الإدارة الجديدة
في خضم المطالبات بتحقيق العدالة الانتقالية، يبرز موقف الإدارة السورية الجديدة الذي يوصف بـ"الغموض" إزاء مسار تحقيق العدالة الانتقالية ومحاسبة المجرمين المتورطين بسفك دماء السوريين.
قبل أيام، تحدث قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع عن التزامهم بالعفو الذي منحوه خلال المعارك التي أطاحت بنظام بشار الأسد في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر الماضي.
وقال الشرع في لقاء مع عدد من الناشطين وصناع المحتوى على منصات التواصل الاجتماعي: "في حال شوشت المطالبة بالحقوق الشخصية على بناء الدولة فإننا نقول إن البناء أولى من الحقوق الشخصية، لندع الناس تعيش ونغلّب حالة التسامح، إلا مع الناس التي كان لديها جريمة منظمة"، مشددا على أن "الانتقام الفردي غير مسموح، هناك محاكم، هناك عدالة".
وتطرق الشرع الذي سمى محمد البشير رئيسا لحكومة تصريف الأعمال لغاية الأول من آذار /مارس المقبل، إلى الأصوات التي تنتقد هذا التوجه تحت مقولة "ضيعتم حقوقنا"، قائلا: "أنا رجعت إليك سوريا كلها، أعدت لك أعظم حق. اسمنا اليوم دمشق، هل تعلم معنى هذه الكلمة؟".
في هذا السياق، أشار غزوان قرنفل إلى أن الحكومة الانتقالية الحالية لا تملك الصلاحية القانونية والدستورية الكافية لتنفيذ هذا الملف، إذ إنها حكومة مؤقتة لتسيير الأعمال وحفظ الأمن والتحضير لإطلاق مؤتمر حوار وطني شامل.
وتابع قرنفل بالقول "وربما يكون هذا هو السبب رغم أنها أصدرت قرارات كثيرة لا يحق لها إصدارها. هذا لا ينفي أيضا أن ثمة غموضا فعلا يلف أعمالها وقراراتها، ولا يوجد حتى الآن مرجعية رسمية للتثبت مما يشاع على وسائل التواصل من قرارات".
ورغم ذلك، أضاف المحامي "نفترض حسن النية وننتظر انقضاء مهلة الأشهر الثلاث للحكم على الأمور".
وكان وزير العدل في حكومة تصريف الأعمال شادي الويسي، تحدث عن مشروع يهدف إلى تحقيق العدالة الانتقالية، بما في ذلك إنشاء محاكم خاصة من أجل "محاكمة كل مجرم تم إقامة الأدلة بحقه من خلال النيابة العامة".
وأشار الويسي إلى أن المرحلة الحالية التي من المقرر انتهاؤها مع مطلع آذار /مارس المقبل هي "مرحلة تصريف أعمال"، موضحا أن هذه المرحلة تعنى بإعداد القوانين، في حين ستبدأ المحاكم عملها مع المرحلة المقبلة التي وصفها بـ"الانتقالية"، حسب موقع "الجزيرة مباشر".
من جانبه، يرى المعتصم الكيلاني أن الغموض في موقف الإدارة الجديدة قد يكون ناتجا عن تعقيدات المشهد السياسي والضغوط الداخلية والخارجية التي تواجهها الحكومة الانتقالية، أو ربما بسبب الرغبة في تجنب اتخاذ مواقف حاسمة قد تؤدي إلى تصعيد التوترات أو تعطيل مسارات التفاوض.
وأضاف الكيلاني أن "غموض موقف الإدارة الجديدة حيال ملف المحاسبة والعدالة الانتقالية يمكن أن يخلق حالة من عدم اليقين بين الضحايا والمجتمع الأوسع، ما يهدد بفقدان الثقة في إمكانية تحقيق العدالة".
ولفت الكيلاني إلى أن هذا الغموض قد يؤدي أيضا إلى تأخير الإصلاحات الضرورية التي تضمن المساءلة وضمان عدم تكرار الانتهاكات، لافتا في الوقت ذاته إلى أن الغموض قد يُنظر إليه أيضا كجزء من استراتيجية تهدف إلى تجنب التسرع وإعطاء الأولوية للتهدئة وبناء توافق شامل قبل اتخاذ خطوات واضحة في هذا الملف.
العدالة الانتقالية والسلم الأهلي
تحذر كل من آراء المعتصم الكيلاني وغزوان قرنفل من خطورة تجاهل ملف العدالة الانتقالية على السلم الأهلي في سوريا، فقد أشار الأخير إلى أنه في حال شعر الضحايا الناجون أو ذوي الضحايا وكافة المتضررين بأنه لن يكون هناك مساءلة ومحاسبة للقتلة والمجرمين، وأنه "عفا الله عما مضى”، فإن ذلك قد يؤدي إلى أعمال انتقامية كثيرة، مما سيخلق اضطرابا أهليا ومجتمعيا وأمنيا.
وفي ذات السياق، أكد المعتصم الكيلاني أن تجاهل ملف العدالة الانتقالية يشكل خطرًا كبيرًا على السلم الأهلي، إذ يرتبط بشكل مباشر بمحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات وضمان حقوق الضحايا.
وأضاف أن "تجاهل العدالة الانتقالية في سوريا يشكل خطراً كبيراً على السلم الأهلي، لأن هذا الملف يرتبط بشكل مباشر بمحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات وضمان حقوق الضحايا، وهو أساس لتحقيق العدالة وبناء الثقة بين المكونات المختلفة".
وشدد الكيلاني على أن تجاهل العدالة الانتقالية يمكن أن يؤدي إلى تراكم مشاعر الغضب والإحباط والرغبة في الانتقام، مما يعزز الانقسامات المجتمعية ويعمق الجروح الناتجة عن الصراع. وأوضح أن غياب العدالة قد يُبقي على البنى والهياكل التي سمحت بحدوث الانتهاكات، مما يزيد من احتمالية تكرارها في المستقبل.
وأشار إلى أن "السلم الأهلي يعتمد على الشعور بالمساواة واحترام القانون، وبالتالي، فإن العدالة الانتقالية ليست مجرد خيار، بل ضرورة لضمان الاستقرار والمصالحة في سوريا على المدى الطويل".
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة سياسة عربية مقابلات حقوق وحريات سياسة دولية دمشق العدالة الانتقالية سوريا الشرع سوريا دمشق العدالة الانتقالية الشرع المزيد في سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة مسار العدالة الانتقالیة العدالة الانتقالیة فی موقف الإدارة السلم الأهلی هذا الملف فی سوریا من خلال إلى أن
إقرأ أيضاً:
لماذا تنهار الجيوش سريعا؟ وماذا حدث لقوات الأسد؟
كان الانهيار السريع للجيش السوري وصولا إلى سقوط النظام وفرار رأسه بشار الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي؛ كابوسا لم يتوقعه أشد المتشائمين من أنصار النظام، وحلما فاق تصورات أكثر المتفائلين من معارضيه.
فبعد كل شيء، لم يكن هناك ما يشي أن فصائل المعارضة المحاصرة سياسيا وعسكريا والمخنوقة اقتصاديا في إدلب، والتي لديها إرث لا يستهان به من الاقتتال الداخلي، ستكون قادرة على شن حملة عسكرية على هذا القدر من الكفاءة في مواجهة جيش نظامي مدعوم من شبكة من الفصائل المسلحة المحلية والإقليمية، ويحظى بدعم عسكري صريح من قبل قوى إقليمية ودولية في مقدمتها إيران وروسيا.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2مصطفى طلاس.. وزير الدفاع المرعب الذي أهدى سوريا لبشار الأسدlist 2 of 2كيف نفهم الدروز؟ وكيف يؤثرون على مستقبل سوريا؟end of listميدانيا، استطاع نظام الأسد -بدعم روسي وإيراني- استعادة السيطرة على نحو ثلثي البلاد التي كان خسرها في السنوات الأولى لانطلاق الثورة، وتمكن من خنق معارضيه -مدنيين وعسكريين- في جيوب صغيرة في شمال وشمال غربي سوريا، على رأسها مدينة إدلب التي استوعبت -على صغر حجمها- ما لا يقل عن 4 ملايين سوري، معظمهم مهجَّرون من مختلف المحافظات السورية.
حتى إن الحديث كان يدور -خلال الأسابيع السابقة لسقوط الأسد- حول مخاوف من عمليات عسكرية يشنها النظام ضد إدلب المكتظة سكانيا، وما يمكن أن تخلفه غارة جوية واحدة فقط على منطقة أو سوق مكتظ بالأهالي من ضحايا، حتى صار البعض يشبهها بقطاع غزة ويتخوف من مصير يشبه مصير الفلسطينيين بسبب حرب الإبادة الإسرائيلية.
إعلانأبعد من ذلك، كانت الظروف الإقليمية تقود إلى إعادة تأهيل نظام الأسد بدءا من تطبيع دول عربية علاقاتها معه بعد قطيعة استمرت 12 عاما، تزامن ذلك مع مساعي ودعوات تركيا -أقوى حلفاء المعارضة- إلى الاقتراب مع النظام بغية حل الملفات المتأزمة وعلى رأسها قضية اللاجئين، ناهيك عن تخوف الأتراك من موجات لجوء أخرى في حال إطلاق الأسد عملية لاستعادة إدلب، لاسيما في ظل تجمع ما لا يقل عن مليوني سوري في شريط على الحدود التركية تبلغ مساحته بالكاد 1000 كلم مربع.
تزامن ذلك مع إعلان إيطاليا في يوليو/تموز 2024، استئناف علاقاتها الدبلوماسية مع النظام السوري، وتعيين سفير لها في سوريا، لتصبح بذلك أول دولة من مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى تستأنف عمل بعثتها الدبلوماسية في دمشق.
في غضون ذلك قادت روما دعوة أطلقتها 8 دول أوروبية إلى إقامة نوع من التعاون مع النظام السوري لضمان عودة السوريين إلى بلادهم، حتى إن المفوضية الأوروبية كانت تدرس هل ينبغي لها أن ترشح مبعوثا خاصا جديدا إلى سوريا أم لا.
كل هذه المؤشرات كانت توحي بأن نظام الأسد كان متماسكا ويزداد قوة، ظاهريا على الأقل، لكن كما أثبت سقوطه السريع، فإن النظام كان يتفكك وينهار بالفعل من الداخل بفعل عوامل عدة، وهو ما يجعلنا نعتقد الآن أن المثير للدهشة حقا لم تكن السرعة التي انهار بها النظام، وإنما الفترة الطويلة التي ظل خلالها قابضا على الحكم في البلاد منذ خروج الشعب ضده عام 2011.
في هذا التقرير، نستكشف الأسباب التي قادت إلى تفكك وانهيار الجيش السوري، وسنجيب أيضا على سؤال لماذا تنهار الجيوش سريعا، لاسيما أن الأحداث في سوريا والسقوط السريع والمدوي لجيش نظام الأسد أعاد إلى الأذهان وقائع انهيار جيوش نظامية بشكل سريع في بلدان أخرى.
متوالية التفكك.. ومعضلة التوحدبدأت الجولة الأخيرة التي سقط في نهايتها الأسد صريعا فوق حلبة السياسة السورية صبيحة الأربعاء 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، حين أعلنت المعارضة السورية بدء عملية أسمتها "ردع العدوان" بقيادة هيئة تحرير الشام التي كانت تتمركز في مدينة إدلب شمال غربي سوريا.
إعلانوعُدّت تلك العملية أول اختراق لخطوط التماس بين الطرفين في محافظة إدلب منذ الاتفاق "التركي الروسي" لوقف إطلاق النار بين النظام والمعارضة في مارس/آذار 2020.
بدأت العملية الموجهة "ضد القوات السورية والمليشيات الإيرانية الداعمة لها" في ريف حلب الغربي، حسبما أعلنت الهيئة، ثم اتسعت لتشمل المدن السورية الأخرى، وبعد 11 يوما فقط وتحديدا فجر 8 ديسمبر/كانون الأول، أعلنت الفصائل بقيادة زعيم هيئة تحرير الشام المعروف سابقا باسم "أبو محمد الجولاني" -الذي قدم نفسه لأول مرة باسمه الحقيقي أحمد الشرع– السيطرة على دمشق وإسقاط نظام الأسد.
كانت عملية "ردع العدوان" تجليا حقيقيا لما يطلق عليه عادة سقوط "أحجار الدومينو"، وكانت الأحجار المقصودة هي المدن السورية التي وقعت تباعا في يد المعارضة بسرعة غير متصورة إلى درجة أن أحمد الدالاتي، نائب القائد العام لحركة "أحرار الشام" صرح في مقابلة مصورة بأن الثوار "كانوا يشعرون وكأنهم يطيرون وهم يحررون مدينة تلو الأخرى دون توقف، بدءا من حلب فحماة وحمص وأخيرا وليس آخرا، دمشق العاصمة التي دخلوها دون قتال".
بالمقابل، كانت معنويات جنود النظام منهارة بالكامل أمام التقدم السريع والتنظيم العملياتي والخطط الاستراتيجية والتوحد الفصائلي لقوات المعارضة، وقد تحدث الدالاتي عن مشاهد فرار قوات النظام بالآلاف على طول الطريق من حماة حتى دمشق، وذلك رغم أن تلك القوات النظامية تفوق المعارضين عددا وتسليحا، كما أنها أمضت سنوات في إعادة هيكلة الجيش وإصلاحه بعد ما يقرب من عقد من التدهور.
لكن الحقيقة التي كشفتها معركة "ردع العدوان" هي أن الجيش النظامي كان يعاني من ضعف وتفسخ هيكلي وقيادي على جميع المستويات، بداية من الانهيار التام والمفاجئ لمنظومة القيادة، مرورا بالنقص في القوة البشرية الفعلية بفعل الفساد، والإقصاء الطائفي والانشقاقات، وانتهاء إلى الضعف الهيكلي العميق الناتج عن اعتماده المستمر على دعم الجيوش الأجنبية في القتال.
إعلانعلى الجانب المقابل، لا يمكن إغفال أن هناك عوامل تتعلق بالمعارضة لعبت دورا محوريا في حسم المواجهة، في مقدمتها وحدة الصف بين الفصائل المختلفة والتي كانت غائبة خلال الفصول السابقة للمواجهة.
فخلال السنوات الفائتة، تسببت الاختلافات الأيديولوجية وعدم وجود خبرة سياسية كافية، مع عوامل أخرى تتعلق بمصادر الدعم والتمويل؛ في إحباط جميع محاولات توحيد فصائل المعارضة السورية المسلحة، وهو ما تسبب في خسارة المعارضين لمدن مهمة أدت إلى تراجعهم عسكريا وسياسيا، مثل الخروج من حلب عام 2016.
لكن المعارضة وعت الدرس على ما يبدو، وتمكنت أخيرا من توحيد جهدها العسكري بهدف إسقاط نظام الأسد. بدأ الأمر في عام 2019، حين أنشئت "غرفة عمليات الفتح المبين"، بهدف تنسيق العمليات العسكرية في الشمال السوري، تحديدا في إدلب وأرياف حلب واللاذقية وحماة.
وبحلول منتصف عام 2020، أصدرت هيئة تحرير الشام -المكون الأكبر في الغرفة- بيانا حول "توحيد الجهد العسكري"، وأكدت على "منع تشكيل أي فصيل عسكري أو غرفة عمليات أخرى في المناطق الواقعة تحت سيطرتها".
لاحقا، جرى تشكيل "إدارة العمليات العسكرية" مع إعلان انطلاق معركة "ردع العدوان"، وضمّت الفصائل ذاتها التي كانت تابعة سابقا لغرفة "الفتح المبين"، مع فصائل أخرى، لتتوج وحدة الصف هذه بنصر حاسم أنهى عقودا من الظلم والقمع والحكم الدموي.
لكن الوحدة بمفردها لم تكن لتكفي لو لم تصاحبها تكتيكات سياسية وعسكرية ناجعة تضمن التفوق الميداني على جيش النظام وتغيير قواعد اللعبة على الأرض.
القوة الصلبة.. والخطاب الناعمأحد تلك التكتيكات الحاسمة هو أن فصائل المعارضة أدخلت إلى المعركة أسلحة جديدة لم يعتد المعارضون استخدامها خلال السنوات الماضية، على رأسها الطائرات المسيرة المحلية الصنع من طراز "شاهين"، والتي كان لها دور مهم في ضرب خطوط الإمداد لقوات النظام، واستهداف المدرعات من الجو.
واستغرقت عملية تطوير هذه الطائرات المسيّرة قرابة 3 أعوام، وساهم في تطويرها مهندسون متخصصون استطاعت هيئة تحرير الشام الاستفادة من قدراتهم في عملية التصنيع.
إعلانوبحسب المصادر المختصة التي تحدثت إليها الجزيرة، فقد امتازت المجموعات العسكرية التابعة لفصائل المعارضة بالقدرة على الرصد الدقيق، واستخدام أنظمة الإشارة، مما أتاح لها الهجوم بمجموعات صغيرة ونوعية وخفيفة التحرك، وهذا ساهم في انهيار خطوط الدفاع الأولى للنظام، ليتبين أن قوات الجيش النظامي لم تؤسس خطوط دفاع متينة خلف الخط الأول.
في غضون ذلك، نفذت فصائل المعارضة أيضا عمليات التفاف وتطويق لمواقع عسكرية مهمة تحتوي تحصينات وقوة نارية كبيرة، ونجحت في عزلها عن محيطها ودفعها للتفاوض على الاستسلام، أو اقتحامها بعد فصلها عن خطوط الإمداد.
وجرى استخدام هذه الطريقة في السيطرة على الأكاديمية العسكرية ومدرسة المدفعية غرب حلب، بالإضافة إلى الثكنة العسكرية في جبل زين العابدين قرب مدينة حماة والتي قاتلت بشراسة رغم محاصرتها، لكن القوات التابعة للأسد غادرتها في نهاية المطاف بعد إصابتها بالإحباط لقطع الإمدادات عنها.
أكثر من ذلك، تشير المصادر إلى أن إدارة العمليات المشتركة استطاعت قبل أيام من انطلاق المعارك رشوة وحداتٍ عسكرية نظامية منتشرة في محيط مدينة حلب واختراقها من خلال "خلايا نائمة".
هذه الخلايا تمكنت في النهاية من استهداف غرفة العمليات التي يشرف عليها الحرس الثوري الإيراني في القنصلية الإيرانية داخل مدينة حلب، ونتج عن هذا الاستهداف مقتل الجنرال الإيراني كيومرث بورهاشمي أو "الحاج هاشم" الذي يوصف بأنه قائد مستشاري الحرس الثوري العاملين شمال غربي سوريا.
برز تفوق فصائل المعارضة وفطنتها الاستراتيجية أيضا في تدريب آلاف الشبان الذين لا تتجاوز أعمارهم منتصف العشرينيات خلال السنوات الأخيرة، على عمليات خاصة تقوم على التسلل والاشتباك من المسافة صفر، في حين أن غالبية قوات الجيش السوري المنتشرة في محيط حلب ومحافظة إدلب يعانون من ارتفاع في معدلات الأعمار، والكثير منهم التحقوا بالتشكيلات العسكرية بعد استدعائهم للاحتياط، لذا فإنهم سرعان ما استسلموا ووقعوا في الأسر.
إعلانمنحت هذه التحضيرات المتأنية الطويلة الأجل والتكتيكات العسكرية الجديدة المعارضةَ ميزات نوعية خلال الجولة الأخيرة من المعارك، لكنها لم تكن لتنجح دون خطاب سياسي يطمئن الجموع العريضة من السوريين، بمن فيهم الأقليات المرتبطة عضويا بنظام الأسد.
ظهرت ملامح هذا الخطاب خلال الرسائل والبيانات التي أصدرتها إدارة العمليات العسكرية، مؤكدة أن فصائل المعارضة تريد طي صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة في عموم سوريا، وأنها لا تسعى وراء الثأر أو الانتقام أو الإقصاء، وإنما هدفها بناء سوريا جديدة لكل السوريين بمختلف انتماءاتهم العرقية والطائفية والفكرية، والخروج من منطق الثورة إلى منطق الدولة.
ومصداقا لقولها أصدرت الإدارة خلال اليوم الأول بعد سقوط الأسد عفوا عاما عن جميع العسكريين المجندين تحت الخدمة الإلزامية، كما أعلنت استعدادها الكامل لتأمين انشقاقات الضباط ومن يرغب في إلقاء السلاح والانتقال بأمان إلى مناطق سيطرة المعارضة.
وفي غضون ذلك، وجهت الإدارة رسائل إلى أهالي المدن المعروفة بولائها الطائفي لنظام الأسد وتحتضن جنودا يقاتلون في صفوفه، مثل مدينة السلمية، وأكدت لهم أن المدينة وأهلها في حماية إدارة العمليات من كل أشكال التهديد أو الانتقام، وأن دعوتهم قائمة بأن كل من وضع سلاحه ودخل بيته فهو آمن.
كما أوعزت إدارة العمليات العسكرية إلى جميع عناصرها بالحفاظ على الممتلكات الخاصة والمرافق والمؤسسات العامة وعدم العبث بها أو التعدي عليها، وأكدت أن من يخالف ذلك سيتعرض للمساءلة. وقد ظهرت آثار هذه التعليمات المشددة في الانضباط الملحوظ الذي أبداه مقاتلو المعارضة وشهد به أبناء العديد من الأحياء والقرى التي تسكنها الأقليات.
فعلى سبيل المثال، أكدت مصادر محلية في حي العزيزية الحلبي ذي الغالبية المسيحية أن المسيحيين في تلك الأحياء كانت لديهم مخاوف كبيرة من دخول قوات المعارضة إلى المدينة "بسبب وجود فصائل ذات خلفيات إسلامية متشددة"، غير أن الواقع العملي بدا مغايرا لذلك، حيث سارع مقاتلو الفصائل إلى تأمين الخبز والماء وباقي المستلزمات للسكان، وتجنبوا "الاحتكاك مع سكان هذه الأحياء، أو حتى الاقتراب من متاجر بيع المشروبات الكحولية".
إعلانكل هذه الرسائل والتطمينات ساهمت في تهدئة الجو العام وبددت مخاوف الكثيرين، وشجعت كذلك جنود الأسد على رمي أسلحتهم والانشقاق وعدم خوض معارك خاسرة بكل المعايير، في ظل التقدم السريع للمعارضة وفرار القيادات النظامية التي تخلت في غمضة عين عن جنودها دون ترتيب أو إخطار.
فقدان الدعم الأجنبي.. والارتباك الروسيشكّل توقيت إطلاق معركة "ردع العدوان" بدوره عاملا فارقا وحاسما في انتصار المعارضة، حتى إنه وُصف من قبل بعض المقربين لنظام الأسد وتحديدا على لسان مدير مكتبه الإعلامي كامل صقر، بأنه كان "ذكيا وصائبا ودقيقا وناجحا".
وأكد صقر، في مقابلة مع بودكاست "بتوقيت دمشق"، أن كل الظروف كانت مهيأة للانطلاق بعملية عسكرية ضد بشار الأسد، مشيرا إلى التدهور العميق للأوضاع الداخلية في سوريا، ووضع المؤسسة العسكرية المتردي سواء من الناحية النفسية أو اللوجستية، فضلا عن الغياب شبه الكامل لأقوى داعمي الأسد خلال سنوات الثورة، روسيا وإيران وحزب الله اللبناني الذين كانوا منشغلين بمشاكلهم الجيوسياسية الخاصة.
تعرضت إيران وحزب الله لضربات قوية بسبب انخراطهما في المواجهة مع إسرائيل في أعقاب عملية طوفان الأقصى يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. وقد أدت الغارات الجوية الإسرائيلية في سوريا ولبنان إلى مقتل معظم قادة حزب الله البارزين، بالإضافة إلى عدد كبير من كبار الضباط الإيرانيين العاملين في سوريا.
ونتيجة لذلك، اضطر حزب الله والحرس الثوري الإيراني إلى سحب بعض قواتهما من سوريا إلى لبنان. ومع ذلك، شاركت بعض المليشيات الشيعية المدعومة من إيران وحزب الله في المعارك غرب حلب، حيث فقدت ما لا يقل عن 22 مقاتلا على تلك الجبهة خلال الأيام الأولى من "ردع العدوان".
لعبت هذه الوحدات، التي دعمتها قيادات الحرس الثوري الإيراني وحزب الله بالأسلحة وأحيانا بالمقاتلين، دورا حاسما في السيطرة على ريف حلب الغربي عامي 2019 و2020.
إعلانورغم أن هذه القوات لم تنسحب بالكامل من حلب (حيث قُتل قائد جبهة حلب في الحرس الثوري وقائد ميداني في حزب الله خلال الهجوم الأولي)، فإن الانسحاب الجزئي ربما ترك هذه المليشيات المحلية بلا قيادة فعالة، مما أدى إلى انخفاض كبير في كفاءتها مقارنة بالسنوات الماضية، وفق غريغوري ووترز، وهو باحث غير مقيم في معهد الشرق الأوسط، ومستشار لمجموعة الأزمات الدولية.
في الوقت نفسه، أدت تطورات الحرب في أوكرانيا التي بدأتها موسكو في فبراير/شباط 2022، إلى استنزاف جيشها وإمكاناتها العسكرية بشكل كبير، حتى إنها صارت تعتمد على مرتزقة وجنود من دول أخرى، بحسب تقارير إعلامية، مما أضعف قوتها في سوريا وتركها بموارد أقل من الطائرات المقاتلة والمروحيات والذخائر، بالإضافة إلى طيارين أقل خبرة، وقلل من قدرتها على دعم الأسد مقارنة بالدور الحاسم الذي لعبته في دعم النظام خلال السنوات الأولى لتدخلها في سوريا.
بخلاف ذلك، يبدو أن روسيا أصبحت مقتنعة بأنه لا طائل من الإصرار على الدفاع عن الأسد في ضوء المتغيرات الإقليمية، ولا سيما أنه لم يستجب لدعوات روسية للجلوس إلى طاولة التفاوض مع الأتراك، تمهيدا لتطبيع العلاقات.
كما تشير المصادر إلى أن أطرافا داخل دوائر صناعة القرار الإيرانية لم تعد متحمسة هي الأخرى للتمسك بالأسد، بعد رفضه مناشدات إيرانية لتحريك جبهة الجولان ضد إسرائيل بهدف تخفيف الضربات ضد حزب الله في الجنوب اللبناني.
تتوافق هذه الديناميات مع تصريحات وزير الخارجية التركي هاكان فيدان الذي أكد في مقابلة مباشرة عرضتها قناة "إن تي في" التركية، يوم 13 ديسمبر/كانون الأول 2024 أن بلاده أقنعت روسيا وإيران بعدم التدخل عسكريا في سوريا خلال هجوم فصائل المعارضة، الذي أفضى إلى إسقاط بشار الأسد. وقال فيدان إن "الأمر الأكثر أهمية قضى بالتحدث إلى الروس والإيرانيين والتأكد من أنهم لن يتدخلوا عسكريا في المعادلة".
ومن المؤكد أن هذا الغياب المفاجئ للداعمين وضع النظام السوري في مأزق غير محسوب. وبحسب ما أكده دبلوماسيون سوريون على اتصال مع الخارجية الروسية، فإن حكومة الأسد أجرت اتصالات مع الوزارة بشكل مباشر بعد هجوم فصائل المعارضة؛ من أجل استطلاع موقف موسكو حيال الهجوم، لكنها تلقت ردا مبهما مفاده أن الهجوم لن يتوسع لأبعد من حدود المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة المعارضة قبل مايو/أيار 2019، وتُعرف بحدود المنطقة الخامسة لاتفاق خفض التصعيد، وهو ما أدى إلى حالة ارتباك ميدانية نتيجة استشعار التشكيلات العسكرية التابعة للنظام لغياب الغطاء الجوي الروسي.
إعلانفي الإطار ذاته، أكدت مصادر في إدارة العمليات العسكرية التي أشرفت على هجوم فصائل المعارضة، أنها استمعت إلى اتصالات بين قيادات في الجيش السوري أثناء المعارك في محيط مدينة حلب، يؤكدون فيها أن روسيا قررت رفع غطاء الحماية عن بعض المناطق، وأن قاعدة حميميم لا تقصف كل الأهداف التي يتم إبلاغها بها، وأن الطلعات الجوية الروسية محدودة، ولذا جرى استدعاء الطيران السوري للمشاركة ولكنه كان أقل فعالية.
"الإصلاحات" الروسية.. والتجنيد الطوعيلم يكن الطيران المشكلة الكبرى للجيش السوري على ما يبدو. لقد تحدثنا في مطلع المقال عن "التفكك" المريب في صفوف الجيش النظامي، والسبب الرئيسي وراء هذا التفكك أن الجيش اعتاد على تلقي الدعم الروسي المباشر في كل المنعطفات الحيوية، وهو ما خلق أزمة فادحة في القيادة والسيطرة وعجزا واضحا عن التصرف في حال الغياب الروسي. وللمفارقة فإن "الإصلاحات" العسكرية التي فرضتها روسيا منذ أكثر من 6 سنوات فاقمت تلك الهشاشة القيادية لجيش النظام بدلا من تحسينها.
فخلال المراحل الأولى من الحرب، تكبّدت قوات النظام خسائر فادحة في صفوف ضباطها الكبار. وبين مارس/آذار 2011 وديسمبر/كانون الأول 2013، قُتل نحو 800 ضابط كبير (برتبة مقدم أو أعلى)، وفقاً للبيانات الرسمية التي نشرها النظام نفسه، وأوردها غريغوري ووترز. مثلت تلك الخسائر ضربة قاسية للقيادة العسكرية النظامية، إذ فقدت العديد من الوحدات قادة ميدانيين ونواب قادة، بعضهم قُتل في عمليات اغتيال، بينما سقط معظمهم خلال معارك مباشرة على الخطوط الأمامية.
في محاولة للحد من هذه الخسائر، فرضت موسكو نهجا جديدا في عام 2018، حيث أجبرت كبار الضباط على إدارة العمليات من الخلف بدلا من المشاركة في المعارك بشكل مباشر. أثمر هذا التغيير انخفاضا واضحا في أعداد القتلى من القادة العسكريين خلال العمليات القتالية اللاحقة، لا سيما خلال هجمات المعارضة عام 2019.
إعلانومع مرور السنوات، أصبح هذا النهج قاعدة راسخة في إدارة العمليات العسكرية للنظام، مما أدى إلى تآكل القيادة الميدانية الفعالة. وعندما شنّت المعارضة هجومها الأخير، بدا واضحا أن القيادة العليا كانت غائبة عن ساحة المعركة، ما منح المعارضة تفوقا كاسحا على مستوى إدارة العمليات.
لم تكن "الإصلاحات الروسية" الضربة "الهيكلية" الوحيدة التي تلقاها جيش النظام السوري، فخلال السنوات الأخيرة، سعت وزارة الدفاع إلى تنفيذ إصلاحات تهدف إلى تحويل الجيش من جيش قائم على التجنيد الإجباري إلى جيش يعتمد أساسا على المتطوعين، وهي عملية تابعها محسن المصطفى، الباحث في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية عن كثب.
يقول المصطفى إن وزارة الدفاع السورية نقلت العديد من الجنود العاملين إلى الخدمة الاحتياطية، كمقدمة نحو التسريح الكامل، كما سرّحت عددا كبيرا من الاحتياطيين القدامى، وسمحت للعديد من الضباط المخضرمين بالتقاعد الطوعي.
ووفقًا للبيانات التي جمعها، سرّح النظام حوالي 25 ألف جندي من قوات الاحتياط خلال عام 2023 والنصف الأول من عام 2024، كما سمح لثلاثة آلاف ضابط بإنهاء خدمتهم العسكرية. هذا التحول أثمر جيشا لديه عدد كبير من جنود الاحتياط، لكنه يفتقر إلى العدد الكافي من الجنود العاملين الذين يمكنه الاعتماد عليهم في حالات الطوارئ.
أكثر من ذلك، ومع توقف العمليات العسكرية الكبرى منذ عام 2020، نقل النظام العديد من الألوية العسكرية إلى قواعدها، مما سمح للجنود بالتكيف مع حياة شبه مدنية. وبما أن معظم القوات النشطة المتبقية كانت منتشرة في إدلب، فإن انهيارها ترك النظام في مواجهة نقص حاد في الوحدات القتالية التي يمكن الاعتماد عليها في باقي المدن، وهو ما تسبب في سقوطها تباعا.
علاوة على ذلك، فإن تحول العديد من الجنود إلى قوات الاحتياط يعني أن القيادة العليا لم تكن فقط تحاول إعادة تنظيم القوات المنهارة في الشمال الغربي، بل كانت مضطرة أيضًا إلى خوض عملية معقدة إداريًا لتعبئة قوات الاحتياط أو من يُعرفون باسم "جنود التفييش" في وقت قياسي.
إعلانويعني "التفييش" قيام الجندي بدفع مبلغ مالي للضابط المسؤول عنه في الوحدة العسكرية مقابل تغيبه عن الخدمة، ما يعني وجود آلاف المجندين الوهميين بلا أي أدوار فعلية على الأرض، وهو ما خلق فجوة بين التعداد الرسمي للقوات وعدد المجندين المتاحين فعليا للقتال.
الطائفية والفسادلا يمكن قطعا الحديث عن انهيار الجيش النظامي السوري دون الإشارة إلى تبعات "الإقصاء الطائفي" المترسخ داخل الجيش منذ عهد حافظ الأسد، الذي أعاد هيكلة الجيش بعد وصوله إلى السلطة عام 1970، مرسخا نفوذ العلويين في الجيش والأجهزة الأمنية.
ومنذ ذلك الحين هيمنت الطائفة العلوية على القيادة العسكرية والأمنية، بينما تعرض الضباط والجنود السنة للتهميش والمراقبة المستمرة. هذه السياسة أدت إلى انشقاقات كبيرة وأسهمت في تفكك الجيش وانهيار العديد من وحداته أمام المعارضة، كما دفعت النظام إلى الاعتماد أكثر على المليشيات الطائفية والمرتزقة الأجانب لتعويض نقص الولاء داخل الجيش.
بحسب دراسة استقصائية لمركز عمران للدراسات، نُشرت عام 2020، كان العلويون (حتى ذلك العام) يسيطرون على 100% من أهم 40 منصبا قياديا في الجيش السوري، بالإضافة إلى احتفاظ بشار الأسد بقيادة الوحدات النوعية حصرا ضمن صفوف أبناء القرداحة أو ممن ينتمون لعشيرته أو عشيرة أخواله، بما يشمل مناصب القائد العام ووزير الدفاع وقادة الفيالق العسكرية وقادة الفرق وأجهزة الاستخبارات المختلفة.
أشارت الدراسة أيضا إلى وجود نوع من المحاصصة غير المعلنة بين ضباط مناطق القرداحة وجبلة وطرطوس ودريكيش في تقاسم مناصب الجيش، خاصة قيادات الفيالق، وهو ما فاقم السخط الطائفي وسط صفوف الضباط السنة الذين بدؤوا ينشقون تباعا في أعقاب التحركات الشعبية عام 2011، بسبب رفضهم قتل المتظاهرين، ومعظمهم من المسلمين السنة، من أجل الدفاع عن النظام.
إعلانبجانب هذه الطائفية المستشرية، ضرب الفساد في مقتلٍ ما بقي من تماسك الجيش النظامي السوري، ولا أدل على ذلك من سمعة الفساد المرتبطة بالفرقة 30 للحرس الجمهوري. كانت هذه الفرقة التي ولدت في مدينة حلب، مشروعا روسيًا في المقام الأول هدفت موسكو من خلاله إلى دمج القوات النظامية والمليشيات المحلية التي قاتلت في حلب تحت قيادة واحدة.
وقد تأسست الفرقة رسميا في يناير/كانون الثاني 2017 وسرعان ما أصبحت الذراع الأساسي للدفاع عن المدينة ضد أي هجوم مستقبلي من المعارضة. وقد اعتاد الضباط الروس على التمركز داخل مواقع الفرقة في حلب خلال السنوات الماضية.
مع ذلك، كشفت صفحات غير رسمية تابعة للجيش السوري على مواقع التواصل الاجتماعي -حيث ينشر الجنود شكاواهم بشكل مجهول- عن المشاكل العميقة التي ضربت جسد الفرقة 30 والجيش بشكل عام. ومن أبرز الشكاوى المتكررة بين الجنود قضية الإجازات، حيث قلّص قادة الكتائب بشكل كبير عدد الإجازات الممنوحة للجنود، بل ألغوها تماما في بعض الحالات.
ونتيجة لذلك، أصبح على الجنود دفع رشى لضباطهم للحصول على إجازات طويلة، فيما يعرف بظاهرة "التفييش" التي ظهرت قبل الحرب، لكنها تفاقمت في السنوات الأخيرة وتسببت في استياء واسع، حيث كان الجنود ميسوري الحال يمكثون في منازلهم بينما يُرسَل الفقراء إلى الخطوط الأمامية أو يُستغلون لخدمة القادة.
ووفقا لشهادة أحد الجنود، كان القادة يطلبون ما بين مليوني ليرة ومليونين ونصف (نحو 150 دولارا) نظير "التفييش"، في حين يتقاضى الجندي في الجيش مبلغا لا يتجاوز 400 ألف ليرة (حوالي 30 دولارا فقط).
وبخلاف تفاقم ظاهرة "التفييش"، شملت وقائع الفساد داخل الفرقة تلفيق الاتهامات، والسرقة، وعمليات التهريب، واستغلال الجنود، ونهب الآثار، والإساءات الطائفية وغيرها.
على سبيل المثال، قدّم قائد الكتيبة 69 في الفوج 47 تقارير كاذبة ضد جنوده، مما أدى إلى سجن 8 منهم، بينما اتهم ضابط بارز في الفوج 47 بسرقة حصص الطعام والوقود المخصصة للجنود، وفرض رشى عليهم مقابل الحصول على إجازات، فضلا عن إساءة معاملة جنوده، مما أدى إلى فرار أكثر من 30 جنديا من وحدته.
إعلانأكثر من ذلك، اتهم ملازم أول في الفوج 47 (الكتيبة 62) بتوجيه إهانات طائفية لجنوده، في الوقت الذي تربّح فيه من فتح طرق تهريب مع المعارضة عبر جبهة غرب حلب. أما قائد الكتيبة 419 في الفوج 102 فأجبر جنوده على القيام بعمليات سرقة ونهب من المدنيين، وابتزاز زملائهم من الكتائب الأخرى.
ومثله قائد الكتيبة 415 في الفوج 102 الذي أمر جنوده بنهب مواقع أثرية بدلا من إقامة مواقع دفاعية حول بلدة بسرطون غرب حلب، كما تورط في نهب محاصيل المزارعين، وانخرط في إساءات طائفية.
يُظهر هذا الكم الهائل من الفساد داخل الفرقة 30، والذي يمكن توقع وجود مثله وأكثر منه في سائر فرق الجيش والأجهزة الأمنية؛ مدى تفكك المؤسسة العسكرية النظامية السورية، حيث تحولت القيادات الميدانية إلى أدوات استغلال وابتزاز لمن هم تحت إمرتهم، بينما عانت القوات في الخطوط الأمامية من الإهمال وسوء المعاملة.
وبدلًا من تعزيز الدفاعات، انشغل القادة بنهب الأموال والممتلكات، مما أدى إلى نقص في الأفراد العاملين، وزيادة حالات الانشقاق، وانعدام الثقة بين الجنود وقياداتهم.
الأمر الأخطر أن الصفحات العسكرية غير الرسمية بدأت تتهم الفرقة 30 بشكل عام، والفوج 47 بشكل خاص، بأنه مخترق من قبل متعاطفين مع المعارضة خلال العام الماضي. وقد تصاعدت هذه الاتهامات مع نجاح فصائل المعارضة في تنفيذ غارات ضد مواقع الفرقة 30 في غرب حلب، مما زاد الشكوك حول "وجود عناصر مشبوهة داخل وحدات الجيش" بحسب وصف النظام وداعميه آنذاك.
ففي ليلة 16 مارس/آذار 2024 تعرض موقع تابع للكتيبة 67 في الفوج 47 في بلدة قبتان الجبل لهجوم من قبل المعارضة أسفر عن خسارة دبابتين، مما أدى إلى اتهام أحد الجنود في الوحدة بأنه "عميل" للمعارضة.
ومن اللافت أن هذه الكتيبة كانت متهمة منذ شهور بأنها غارقة في الفساد، مما جعلها هدفًا للشبهات حول الاختراق الأمني. ولاحقا في 2 سبتمبر/أيلول، تعرض موقع آخر للفرقة 30 في بلدة كباشين لهجوم أدى إلى أسر جنديين، مما فجّر موجة جديدة من الشكاوى داخل الصفحات العسكرية، حيث طالب العديد من المعلقين بتطهير الفرقة من "الخلايا النائمة" داخلها.
إعلان لماذا تتفكك الجيوش بسرعة؟رغم الدهشة الواسعة التي أثارها انهيار الجيش السوري، فإنه لم يكن الجيشَ النظامي الوحيد الذي عانى انهيارا سريعا أو مفاجئا. ففي السنوات الأخيرة، شهدت عدة دول انهيارا سريعا لجيوشها أمام حركات التمرد أو الجماعات المسلحة، رغم الفوارق الضخمة في العدد والعتاد.
ففي أفغانستان مثلا، انهار الجيش النظامي في البلاد بسرعة مذهلة أمام حركة طالبان في أغسطس/آب 2021 بمجرد أن بدأ الانسحاب الأميركي رغم إنفاق الولايات المتحدة أكثر من 88 مليار دولار على تدريبه وتسليحه. وخلال أقل من 10 أيام، استولت طالبان على العاصمة كابل دون مقاومة تُذكر، بينما فرّ الرئيس أشرف غني إلى خارج البلاد.
وقبل ذلك في سبتمبر/أيلول 2014، بدأت جماعة الحوثي في اليمن تسيطر على المناطق الشمالية في البلاد، وبحلول يناير/كانون الثاني 2015، اجتاحت العاصمة صنعاء، مما أدى إلى انهيار الجيش اليمني وانقسامه بين عدة ولاءات، مفسحا المجال أمام الجماعة للسيطرة على مؤسسات الدولة.
وفي عام 2014 نفسه، اجتاح تنظيم الدولة الإسلامية مدينة الموصل، ثاني أكبر مدن العراق، مما أدى إلى انهيار الجيش العراقي في شمال البلاد، تاركا خلفه كميات هائلة من الأسلحة والعتاد الأميركي في يد التنظيم.
كذلك، انهار الجيش في أفريقيا الوسطى عام 2013 خلال أشهر أمام هجمات المتمردين، التي أجبرت رئيس البلاد المحاصر فرانسوا بوزيزي على الهرب إلى الكاميرون. وقبله انهار الجيش المالي عام 2012، حيث سيطر الطوارق وحركة أنصار الدين المرتبطة بتنظيم القاعدة على شمال البلاد، بعد سلسلة من الهجمات ضد الجيش المالي. وخلال أسابيع قليلة فقد الجيش السيطرة على ثلثي البلاد، ما دفع فرنسا إلى التدخل عسكريًا عام 2013 لمساعدة الجيش على استعادة الأراضي.
وقبل ذلك خلال الثورة الليبية عام 2011، انهار نظام معمر القذافي بشكل سريع، رغم أنه امتلك جيشا ضخما مقارنة بالثوار. وفي غضون أشهر دخلت قوات المعارضة إلى طرابلس، وقتل القذافي مما أدى إلى تفكك الجيش بالكامل، غير أن الضربات الجوية الغربية لعبت دورا في تفكك الجيش في الحالة الليبية.
يبدو إذن أن هناك نمطا متكررا في وقائع انهيار الجيوش، وأنها ليست مجرد حالات فردية كما يبدو للوهلة الأولى. وفي تحليل نشرته مجلة "ناشيونال إنترست" الأميركية تحت عنوان "لماذا تنهار الجيوش؟"، قال الباحث البارز في مجلس العلاقات الخارجية الأميركي، ستيوارت رايد، إن "الاستسلام المفاجئ للجيش السوري جزء من تقليد راسخ لدى الجيوش القوية ظاهريا والهشة داخليا، التي تنهار بسرعة في مواجهة تقدم المتمردين".
إعلانوأضاف أنه بينما يستحيل التنبؤ بتوقيت انهيار أي جيش، يكشف تحليل نماذج انهيار الجيوش في العالم على مدى العقود الماضية عن ثلاثة أسباب رئيسية تكررت في كل حالة وأدت إلى الانهيار السريع للجيوش الهشة.
السبب الأول هو الإقصاء العرقي، حيث تكدس الحكومات جيوشها بأبناء الأعراق الموالية لها وبخاصة في المناصب القيادية بهدف ضمان تماسك الجيش وولائه، وفي أثناء ذلك تثير سخط واستياء المجموعات العرقية الأخرى في الدولة، وتحوّل الجيش إلى كيان طائفي بدلا من أن يكون جيشا وطنيا، فيصبح انهياره ممكنا، بل وحتميا، إذا ما انهار حكم الطائفة.
السبب الثاني هو الفساد الذي يعتبر أحد أقوى عوامل تآكل الجيوش، إذ غالبا ما تعجز الحكومات الضعيفة عن تحمل تكلفة شراء ولاء قواتها، لذلك تتساهل مع فساد هذه القوات، وبخاصة كبار الضباط الذين يتوسعون في التربح من كل شيء متاح، بدءا من تسجيل آلاف الأسماء الوهمية في قوائم الجنود حتى يمكن للقادة اختلاس رواتبهم، ووصولا إلى ممارسات السرقة والنهب والتجارة غير الشرعية.
كما أن الترقي في صفوف هذه الجيوش يكون لمن يستطيعون دفع الرشى أو يملكون علاقات قوية، وليس للأكفأ ولا الأكثر تأهيلا.
في الوقت نفسه يثير فساد الجيوش سخط السكان الذين يدعمون المعارضين وينضمون إليهم، كما يجعل هذه الجيوش أقل كفاءة بسبب اختلاس الأموال ونقص الموارد الموجهة نحو شراء الأسلحة والمعدات ودفع أجور الجنود.
أما السبب الثالث والأهم وراء انهيار الجيوش فهو فقدان الدعم الخارجي، فالحكومات الضعيفة تحتاج عادة إلى المساعدة من أجل استمرار سيطرتها على البلاد، وعندما ينسحب الدعم الخارجي يكون سقوط الحكومة وانهيار جيشها مسألة وقت لا أكثر.