فان دير روه.. أبو العمارة الحديثة ومبدع كرسي برشلونة
تاريخ النشر: 20th, August 2023 GMT
"الأقل هو الأكثر"، تلك هي أشهر عبارات المعماري الألماني الأميركي لودفيغ ميس فان دير روه، الذي وُلد في آخن الألمانية عام 1886، وتوفي في شيكاغو عام 1969.
عبارة على قصرها وجزالتها، ستغير وجه فن العمارة في القرن الـ20 ليصبح أكثر بساطة وعملية وبُعدا عن التكلف والتعقيد.
بدأ ميس فان دير روه حياته المهنية كمبتدئ في شركة والده للبناء بالحجر، فصقل التعرض المبكر للبناء والحرفية على المدى البعيد مبادئه الابتكارية في التصميم والعمارة، إذ اشتهر بعد ذلك بنهجه البسيط والحديث في الهندسة المعمارية، وهو ما انعكس على أسلوبه الجمالي الذي تميز بالخطوط النظيفة والمساحات المفتوحة واستخدام مواد صناعية حديثة مثل الفولاذ.
اعتمد كذلك في مبانيه على النوافذ الكبيرة الممتدة من الأرض حتى السقف، كي يخلق اتصالا سلسا بين المساحات الداخلية والخارجية لتعزيز الشعور بالانسجام والتوازن بين الإنسان والبيئة الخارجية، مما يسمح للمحيط الطبيعي بأن يصبح جزءا لا يتجزأ من التكوين المعماري.
تأثرت فلسفته الجمالية بحركة "باوهاوس"، وهي مدرسة معمارية فنية حداثية رائدة شغل فيها منصب المدير في الثلاثينيات من القرن الماضي. كانت تلك المدرسة تتبنى أساليب وأفكار حداثية عملية، إلا أنها صارت محل نقد شديد بعد صعود النازية إلى السلطة، بسبب معادة النازية للحداثة، وقد انتهى الأمر بإغلاق "باوهاوس" بسبب الضغوط السياسية، إلا أن تأثيرها على العمارة والتصميم استمر بعد النازية نفسها.
من المنطقي أن تتغير العمارة مع تغير الطريقة التي نعيش بها أيضًا
بواسطة لودفيغ ميس فان دير روه
الهجرة إلى أميركاهاجر فان دير روه إلى الولايات المتحدة، حيث عُين رئيسا لكلية الهندسة المعمارية في ما يعرف اليوم بمعهد إلينوي للتكنولوجيا في شيكاغو. وسعي هناك سعيا حثيثا نحو البساطة والشفافية وإلى دمج التكنولوجيا في التصميم، وكان يهدف من وراء ذلك إلى إنشاء مبانٍ مبهرة بصريا، وفي الوقت نفسه مفيدة وخالية من التكلف والديكورات غير الضرورية، وهو ما يعكس نظرته الفنية الرفيعة وتمسكه العميق بالجوانب الفنية والهيكلية لأعماله.
أحد أبرز الأعمال المعمارية لميس فان دير روه هو مبنى "بافيلون" في برشلونة، الذي تم بناؤه كجناح ألماني لمعرض برشلونة الدولي في العام 1929 في إسبانيا. ويعد المبنى تجليا واضحا ودقيقا لأفكاره فيما يتعلق بتبسيط الهيكل حسب الحاجة، حيث يُعتبر هذا الهيكل مثالا نموذجيا لأسلوبه الفريد، مع فضاءاته الكبيرة المتدفقة التي يبدو كأنها تنعم بالحرية مثل نبتة سعيدة.
اعتمد فان دير روه في هذا المبنى أيضا على الخطوط الرفيعة الدقيقة، ليعطي إحساسا بالتكامل السلس بين الداخل والخارج وهو ما يخلق انطباعا بالبساطة مع إبراز شعور بالرفاهية.
تصاميم الأبراجيمكن أيضا رؤية النهج المبتكر الأنيق لميس فان دير روه في تصاميمه للأبراج العالية، لا سيما في مبنى "سيغرام" في حي مانهاتن بنيويورك. وتم الانتهاء من بناء مبنى "سيغرام" في عام 1958، ويتميز بمظهره الخارجي الأنيق ذي اللون البرونزي اللامع ونوافذه الزجاجية الكبيرة والساحة المفتوحة.
هذا المبنى الشاهق، يبلغ ارتفاعه 157 مترا مع 38 طابقا، حدد معيارا جديدا للعمارة التجارية، ملهما العديد من ناطحات السحاب حول العالم بتركيزه على الخطوط النظيفة والتكامل مع البيئة الحضرية من حوله لدرجة التداخل والذوبان، ولكن دون أن يأفل جماله أو يفقد ذاتيته وخصوصيته.
بالإضافة إلى مبانيه المتفردة، ترك ميس فان دير روه أيضا أثرا دائما في عالم تصميم الأثاث، يظل كرسي برشلونة الأيقوني، المصمم لبافيلون برشلونة، رمزا للأناقة الحديثة والفخامة. وهو عبارة عن مقعد من الجلد الأنيق، والإطار الصلب المكشوف، والشكل الهندسي الذي اعتبره ميس فان دير روه سبيلا للبساطة والعملية.
على طول حياته المهنية، حصل ميس فان دير روه على العديد من الجوائز لتميزه في مجال العمارة. وقد تم منحه ميدالية الحرية الرئاسية في الولايات المتحدة عام 1963، وقد امتد تأثير فلسفته وأفكاره على فن ومناهج العمارة إلى حد بعيد تخطى تصاميمه الخاصة من المباني والأثاث.
ولا تزال تعاليمه ونظرياته تؤثر على أجيال من المهندسين والمصممين في جميع أنحاء العالم. كما لا تزال عباراته الشهيرة ومبادئه، مثل "القليل هو الأكثر" و"الشكل يتبع الوظيفة"، مستمرة في تشكيل المنهج والفكر للعديد من المعماريين حتى يومنا هذا.
المصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
ليوبولد سيدار سنغور رمز الأدب والسياسة في أفريقيا الحديثة
فيلسوف في السلطة، وشاعر في قلب الدولة، هكذا شكّل ليوبولد سيدار سنغور بصمة عميقة في التاريخ الأفريقي والعالمي.
كان شاعرا ومفكرا وسياسيا جمع بين الكلمة والسلطة، وسعى إلى دمج التقاليد الأفريقية بالقيم العالمية في مشروع حضاري متكامل، فهو مؤسس مفهوم "الزنوجة" وأول رئيس للسنغال المستقلة وعضو في الأكاديمية الفرنسية، كان جسرا بين التقاليد الأفريقية والحداثة العالمية ونموذجا فريدا من التعايش بين ثقافة القارة السمراء والفكر الغربي.
طفولة مشبعة بالثقافتين الأفريقية والفرنسيةوُلد ليوبولد سيدار سنغور في 9 أكتوبر/تشرين الأول 1906 بمدينة جوال الصغيرة بالسنغال، ونشأ في بيئة مسيحية كاثوليكية ضمن مجتمع يغلب عليه الطابع الإسلامي، مما عزز لديه منذ الصغر حس الانفتاح والتعددية الثقافية.
تلقى تعليمه الأولي في السنغال، وأظهر نبوغا مبكرا مكنه من الحصول على منحة دراسية لمتابعة دراسته الثانوية في مدرسة فان فولان بدكار، والتي كانت من أبرز المؤسسات التعليمية في غرب أفريقيا الفرنسية آنذاك.
رحلة علمية نحو فرنساسافر سنغور إلى فرنسا عام 1928 لمواصلة دراسته في جامعة السوربون، لكنه التحق فيما بعد بمدرسة لويس لو غران المرموقة، والتقى بالمفكر المارتينيكي إيمي سيزير الذي أصبح شريكه الفكري في بلورة مفهوم "الزنوجة".
إعلانواصل سنغور تفوقه الأكاديمي حتى نال شهادة التبريز في الآداب عام 1935، ليكون أول أفريقي من غرب أفريقيا الفرنسية يحقق هذا الإنجاز، مما فتح أمامه أبواب التدريس في فرنسا.
خلال الحرب العالمية الثانية انضم سنغور إلى الجيش الفرنسي، لكنه وقع في الأسر عام 1940 وأُرسل إلى معسكرات الاعتقال في ألمانيا.
لم تمنعه ظروف الاعتقال من الكتابة، بل ألهمته لتأليف بعض من أهم قصائده التي عكست معاناته ورؤيته للعالم، وبعد إطلاق سراحه عام 1942 عاد إلى فرنسا واستأنف نشاطه الأكاديمي والسياسي.
انتُخب سنغور نائبا في الجمعية الوطنية الفرنسية عام 1945، ليبدأ مسيرته السياسية الفعلية.
عمل على تعزيز حقوق المستعمرات الأفريقية داخل النظام الفرنسي، وساهم في تطوير سياسات منح الحكم الذاتي، مما مهد الطريق لاستقلال العديد من الدول الأفريقية.
وبعد استقلال السنغال عام 1960 أصبح أول رئيس للجمهورية، وظل في منصبه حتى 1980، وركز على بناء دولة حديثة تجمع بين التقاليد الأفريقية والإدارة العصرية، مع إيلاء اهتمام خاص بالتعليم والثقافة، ورفض الانغلاق الأيديولوجي، إيمانا بأهمية التعاون بين أفريقيا وفرنسا.
الزنوجة والهوية الأفريقيةيعد سنغور أحد المؤسسين الرئيسيين لحركة "الزنوجة" التي ظهرت ردّ فعل على سياسات الاستعمار الفرنسي التي حاولت طمس الهويات الأفريقية وفرض الهيمنة الثقافية الأوروبية.
ودعا هذا المفهوم إلى استعادة الاعتزاز بالثقافة الأفريقية والتعبير عنها بحرية في الأدب والفنون والفكر السياسي.
وفي كتاباته سعى سنغور إلى إبراز القيم الجمالية والفلسفية للحضارة الأفريقية، رافضا النظرة الاستعمارية التي صورت أفريقيا قارة متخلفة تحتاج إلى الإنقاذ الأوروبي.
وأصبحت "الزنوجة" مرجعا ثقافيا وسياسيا لحركات التحرر الأفريقية والكاريبية، وأسهمت في تشكيل هوية أفريقية حديثة متصالحة مع إرثها وتطلعاتها المستقبلية.
لم يكن سنغور مجرد رجل سياسة، بل كان قبل كل شيء شاعرا ومفكرا، امتزجت أشعاره بالروح الصوفية والتعبير العاطفي العميق، إذ استخدم الكلمات أداة للنضال الفكري والدفاع عن الهوية الأفريقية، وترك إرثا أدبيا غنيا، ومن أبرز أعماله:
إعلان "أغاني الظل" (1945): ديوان شعري يعكس تجربته في الحرب ومعاناته خلال الأسر. "إثيوبيا وأسوان" (1956): عمل أدبي يصور رؤيته للهوية الأفريقية وعلاقتها بالحضارة العالمية. "رسالة إلى الصديق الفرنسي": نص يعكس حوارا بين الثقافتين الأفريقية والفرنسية.آمن سنغور بأن الشعر ليس مجرد كلمات، بل قوة تحررية قادرة على إحداث تغيير عميق في المجتمعات عبر التأثير العاطفي والفكري.
السنوات الأخيرة والإرث الثقافيبعد تقاعده من السياسة عام 1980 انتقل سنغور إلى فرنسا، حيث واصل الكتابة والبحث الفكري، وفي عام 1983 انتُخب عضوا في الأكاديمية الفرنسية، ليكون أول أفريقي يحظى بهذا الشرف، وهو اعتراف بدوره البارز في الأدب الفرنكوفوني.
توفي في 20 ديسمبر/كانون الأول 2001 عن عمر ناهز 95 عاما، لكنه ترك إرثا فكريا وسياسيا خالدا، ولا يزال تأثيره حاضرا في السنغال والعالم، إذ يُحتفى به باعتباره رائدا في الفكر الأفريقي ومدافعا عن التعددية الثقافية ورمزا للمصالحة بين الهوية الأفريقية والانتماء العالمي.
أثبت سنغور أن الأدب والسياسة يمكن أن يلتقيا في مشروع حضاري واحد، وأن الهوية الأفريقية ليست نقيضا للحداثة، بل هي جزء أصيل منها، وكما قال ذات مرة "الثقافة هي روح الأمة، وبدونها لا يمكن أن يكون هناك مستقبل".