مدخل: الفعل الإبداعي ومعنى الحقيقية
يتفق جان بول سارتر مع فكرة أن الإنسان "مطارد للمعنى"، لكن الفعل الإبداعي يتجاوز المطاردة إلى ابتكار معانٍ جديدة. إذا كانت مقاربة "الواقعية الصادمة" تفترض أن الكاتب يُعري المجتمع عبر فضح الممارسات والتابوهات، فإننا هنا نقترح قراءة مغايرة ترى في رواية "غارارام" تجربة فلسفية تسعى إلى مساءلة بنيات القيم ذاتها، لا فقط فضحها أو انتقادها.


الكاتب، في هذا السياق، لا يكتفي بعرض التفاصيل الواقعية وإنما يحاول تفكيك العلاقات الاجتماعية وتجريدها من الشرعيات التقليدية التي تستمد منها وجودها. إنها محاولة جريئة لإعادة صياغة مفهوم "العقد الاجتماعي"، ولكن ليس وفق الأسس الطوباوية كما تصورها روسو، بل وفق ديناميكيات العار والقيم المزدوجة التي تسكن المجتمعات السودانية والعالمية.
إشكالية "العقد الاجتماعي" بين الواقع والأسطورة
تقدم الرواية فكرة نشوء عقد اجتماعي غير رسمي يتمحور حول "السترة"، كآلية للتعامل مع الأزمات الأخلاقية داخل المجتمع السوداني. ومع ذلك، فإن هذا العقد ليس بريئًا أو طبيعيًا، بل يتسم بطابع خفي يدعم استمرارية النفاق الاجتماعي.
لكن، هل يمكن النظر إلى هذا العقد باعتباره مجرد وسيلة للإخفاء؟ أم أنه يُعبّر عن شكل جديد من التفاوض على المعايير الأخلاقية داخل مجتمع يعيش حالة اغتراب عن قيمه المعلنة؟
هنا يُمكننا أن نرى أن "غارارام" لا تكتفي بتقديم الواقع كما هو؛ بل تحاول كشف العلاقة الجدلية بين القيم المعلنة والتطبيق الفعلي لها في الحياة اليومية. فالكاتب يضع القارئ أمام تساؤل وجودي: هل القيم هي جوهر ثابت أم أنها مجرد أدوات مرنة تتشكل حسب الحاجة؟
اللغة والتفاصيل هل البساطة هي الخديعة؟
أشار التحليل إلى أن لغة الكاتب تبدو "يومية وعادية" لكنها تُخفي مستويات عميقة من السرد. هذا التوصيف ينطوي على تصور تقليدي يرى أن النص الأدبي ينجح عندما يُخفي المعنى وراء واجهة بسيطة. ولكن ماذا لو كانت هذه اللغة البسيطة نفسها تعبيرًا عن فلسفة سردية تُعيد تعريف وظيفة الأدب؟

في رواية "غارارام"، تكمن القوة في قدرتها على استغلال البساطة لخلق انحراف دقيق عن المألوف. فالتفاصيل ليست مجرد عناصر للحبكة، بل هي أدوات فلسفية تُجبر القارئ على مواجهة حقيقة أن كل "حقيقة" هي نتاج بناء اجتماعي معقد.
الجنس والعار والمقاربة الفلسفية
الجنس، كما تصوره الرواية، ليس مجرد فعل بيولوجي أو أخلاقي، بل هو فضاء تتقاطع فيه الأيديولوجيا مع العواطف الفردية. من خلال قصة "آرام"، يعيد الكاتب التفكير في مفهوم "الخطيئة" ذاته، ليس كفعل فردي، بل كإطار اجتماعي يُنتج ويعيد إنتاج القيم والممارسات.
على النقيض من النظرة التقليدية التي ترى في هذه الممارسات تهديدًا للمجتمع، تكشف الرواية عن أن المجتمع نفسه هو من يُنتج هذه الأفعال عبر بنياته المزدوجة. هنا، الجنس يصبح رمزًا لتحلل القيم التقليدية أمام صدمة الحداثة.
بين العباس علي يحيى وغراهام غرين هل هذا نقد التشبيه
تشبيه العباس بغراهام غرين يحمل دلالة مثيرة للتفكير، لكنه يفتقر إلى العمق النقدي إذا ما اقتصر على توصيف الشبه بين الجرأة في الطرح. غراهام غرين كان يبحث عن الخلاص الفردي في عالم تسوده الاضطرابات الروحية، بينما العباس يُعيد صياغة العلاقات الاجتماعية من الداخل، دون الهروب إلى أي ملاذات روحية أو أخلاقية.
الفرق الأساسي هنا هو أن غرين يُعالج المأساة الإنسانية من منظور ثنائي الخير مقابل الشر، بينما العباس يعالجها كعملية ديناميكية لا تخضع لهذه الثنائيات التقليدية.
الرواية بين السخرية والفلسفة
تشير المقاربة إلى أن الرواية تتسم بالسخرية، لكن هذه السخرية ليست هدفًا بحد ذاتها. إنها وسيلة فلسفية تكشف هشاشة الخطابات الاجتماعية وتدفع القارئ إلى التأمل في عبثية هذه الخطابات
السخرية، في هذا السياق، لا تأتي من رغبة في التهكم، بل من إحساس عميق بالتناقضات الكامنة في المجتمع. إنها دعوة للتفكير النقدي، وليست مجرد إدانة أو تشهير.
نحو قراءة جديدة لـ"غارارام"
رواية "غارارام" ليست مجرد عمل أدبي يفضح المسكوت عنه، بل هي تجربة فلسفية تسعى إلى إعادة تعريف القيم والممارسات داخل سياقاتها الاجتماعية. إنها ليست فقط دعوة لمواجهة الواقع، بل هي أيضًا تحريض على إعادة التفكير فيه.
الكاتب العباس علي يحيى لا يُقدم إجابات جاهزة، بل يُجبر القارئ على البحث عن إجابات خاصة به. وهذا هو جوهر الأدب الحقيقي , أن يكون فضاءً للبحث عن المعنى في عالم تتداخل فيه الحقيقة مع الزيف، والقيم مع النفاق، والواقع مع الحلم.

zuhair.osman@aol.com
//////////////////////////  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

شواطئ.. الرواية الرسائلية والرسالة الروائية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

شهدت الرواية منذ فجر ميلادها حتى وقتنا الراهن تطورًا عبر مراحها المختلفة، وتنوعًا فى آليات الإبداع، وازدهارًا فى أنماط التناول، مما ساعد على وجود دراسات نقدية متعددة وفتح شهية النقاد لتناول بعض الظواهر الروائية التى لم تسبق دراستها، فقد حوت الرواية العديد من مظاهر الإبداع وتداخل الأجناس الأدبية بها، وكانت الرسالة من تقنيات السرد فى الإبداع الروائي، قديما وحديثا، فى الشرق كان أم فى الغرب. من هنا تأتى أهمية كتاب الباحث عزوز على إسماعيل بعنوان "الرواية الرسائلية والرسالة الروائية.. دراسة تحليلية" والصادر مؤخرًا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. 

على سبيل المثال، رسائل دوستويفسكى من الأعمال الروائية الوثائقية، التى عدت من أعظم الأعمال فى الآداب العالمية؛ فقد مثلت حياة فيودر دوستويفسكى، من الميلاد حتى الممات، فمنذ أن كأن طفلا كان يكتب الرسائل، تلك الرسائل التى شكلت قدرته على السرد والحكى والتي، بلا شك، جعلت منه مبدعا كبيرا مع المكونات الثقافية الأخرى. وهذه الرسائل مرت فى حياته بأكثر من مرحلة، وكل مرحلة ولها سماتها التى تميزها عن المرحلة الأخرى. 

والمرحلة المبكرة فى حياته عندما كان طفلا، وكان وقتها يتعلم الكتابة السائلية، والتى شكلت ملامح كتاباته من خلال عنصر الإسهاب وكانت الرسائل الأكثر إلى أسرته والتى بدأها برسالة إلى أمه، وامتازت تلك الرسائل بذكر العشرات من رموز الأدب الروسى فى عصره الذهبى وأيضا الآداب الأخرى، وكذلك أهل الفن وكل من كانت له علاقة به خاصة تلك المجلات التى كانت تنشر له أعماله مثل مجلة "البشير الروسى". وكان دوستويفسكى البطل الرئيس لهذه الرسائل، والتى تشابكت مع أفراد أسرته: أخيه ميخائيل، فضلا عن زوجته الأولى (ماريا عيسافيا)، وزوجته الثانية (أناغريغوريتنا). وكانت رسائل دوستويفسكى قد اتسمت بعدد من السمات أولها: أنها تعتبر من آداب الاعتراف بمعنى أنها تمثل سيره ذاتية حقيقية للكتاب. 

وهنا نرى تعريفات عديدة لرواية السيرة الذاتية، ويتمحور مفهوم السيرة عند بعض الغربيين حول التجربة الذاتية فى الحياة كما قال باسكال: "هى تلك الرواية التى تتمركز حول التجارب التى تشكل الشخصيات وتبلورها وليست مجرد رواية تتخلق حول تجربة حقيقية متفردة بارزة". وهو ما رأيناه فى تلك الرسائل التى تعتبر رواية وثائقية بديعة حوت تجارب شكلت شخصية دوستويفسكى. ثانيها: أن تلك الرسائل تعليمية تثقيفية. فى المقام الأول، فهى تحوى العديد من نقاط لا غنى عن معرفتها فى السياق الثقافى الروسى آنذاك. ثالثها: أن هذا العمل رواية مكتملة الأركان ببطلها دوستويفسكى وشخصياتها التى تمثلت فى أسرته ورموز الأدب فى روسيا. فضلا عن الأحداث المختلفة هنا وهناك، والزمان والمكان، والتى جميعها كونت عملًا أدبيا رفيعا، يخضع لأدب الاعتراف أو أدب السيرة الذاتية. رابعها: أكدت تلك الرسائل المعاناة التى كانت يعانيها الكاتب مثله فى ذلك مثل الأدباء الآخرين الذين يموتون ولم يجدوا ثمنا للدواء. 

وعلى الرغم من أن الكاتب كان دائما يعلن أنه لا يجيد كتابه الرسائل إلا أن هذه الرسائل قد شكلت حياة الكاتب من أولها إلى آخرها بل أن كل رسالة من الرسائل الموجودة فى هذين المجلدين تعتبر قصة بمفردها حيث تكتمل فيها عناصر القص فى الحبكة والإشكالية والشخوص والزمان والمكان. نعم إنه الأديب والكاتب دوستويفسكى الذى عانى – كما قلت – كثيرا فى حياته خاصة فى أخرياتها. فقد بعث برسالته الأخيرة التى خطها لصحيفة "البشير الروسى" يطلب ما تبقى لديهم من أموال لتلبية احتياجاته الحياتية وهو الأمر الذى ظل عالقًا طويلا فى ذاكرة زوجته التى قالت له حين طلب ذلك، وهى تعلم أنه فى الأيام الأخيرة من حياته قالت مازحة لتخفيف آلامه بعد أن أصيب فى رئتيه وأصبح غير قادر على التنفس الطبيعي: "ستكتب (كارامازوف) أخرى وستطلب منهم مقدما مبالغ أخرى" وهنا نرى الزوجة ومدى تعاطفها مع زوجها المبدع، وهى تعلم أنه ينازع الموت. 

حياة الأدباء فى شقاء دائم وهو نوع من الألم، والذى قد يكون سببًا فى الإبداع، خاصة عند أولئك الكتاب أصحاب المواهب الحقيقية، وما رأيناه عند دوستويفسكى خير دليل على ذلك، فهو رجل عاش مبدعا وكاتبا ولاقت أعماله إعجاب ملايين حول العالم سواء الذين قرأوها باللغة الروسية أو ترجمتها إلى عدد كبير من اللغات الأخرى، وكانت رسائل دوستويفسكى دليلًا على إبداعه، فهى عبرت عن تلك الحياة التى عاشها من خلال الألم والآمال.   

وكما حملت رواية "زهرة العمر" (لتوفيق الحكيم) العديد من الرسائل بين الشرق والغرب، وحق لها أن تكون رسائل محبة وسلام وفكر، فتوفيق الحكيم كان قد ذكر صديقة (أندريه جيد) فى روايته "عصفور من الشرق"، حين كان يشاهد تمثال الشاعر الفرنسى (دى موسيه). وفى رسالة أخرى يتحاور فيها الحكيم مع صديقة أندريه جيد ويؤكد له أن صداقته لجرمين زوجته لا تستمد قوتها من صداقته له، بل لأنها إنسانة مثقفة من الفرنسيات المستنيرات، وهى تكن كل التقدير للشرقى مثل (الحكيم) والاعتزاز نابع من تقارب وجهات النظر بين الشرق والغرب وتقدير الشرقى للمرأة واحترامه لها. ويقول "فأنا لا أحب لجيرمين أن تفهم أنى موفد من قبلك لأخرجها للنزهة بين آن وآن، ولأنى أتكلف هذا قضاء لواجب من الواجبات على أنى قد ضحكت كثيرا وأنت تخبرنى فى خطابك أنها لن تنسى التفانى منى فى خدمتها وأنها لا تشكو إلا أمرًا واحدًا: وهو أنى لم أحاول قط مغازلتها! يا لظرف الباريسيات! أو كانت تظن أنى وأنا الشرقى أجرؤ على ذلك فى غيبتك". 

وحين يأتى ذكر كلمة الشرقي، فهو يؤكد على قيم الشرق الأخلاقية ويحاول تبيانها للغرب وبالتالى أصبح الحكيم رسول الشرق فى هذا التوقيت ويؤكد الحكيم إلى صديقة مدى الربح المعنوى العظيم من تلك العلاقات بقوله: إن الجلوس معها يفيده فكريا، وكذلك مع أيفان والشاعر البرناسى الهرم، ويؤكد أيضا ذلك فى الرسالة نفسها "لا تسخر ولا تتهمنى بالإسراف فى الخيال. كلا يا أندريه. غدا تزول الحاجات المادية ولن يبقى لنا غير ذلك الربح المعنوى الذى أكتسبه أحد بمعرفته الآخر".

تعد رواية "رسالة فى الصبابة والوجد" للكاتب جمال الغيطانى من أدب الرسائل، ولكنه ارتقى كثيرا فيها عما كان فى السابق من ناحية الشكل والمضمون، والشكل كما رأيناه عند عزالدين شكرى فشير، وكمال العيادي وغيرهما والارتقاء يكمن فى الأسلوب وتشرب فكرة التراث وتبيان جمال العربية فى امتشاقه لقلم حاد رصين بتعبيرات فيها الشفاء لعشاق اللغة العربية. لقد حملت رسالة الغطيانى وصية كبرى لأدباء وكتاب فى أن يتناولوا العلاقات بين الشعوب بشيء من الحذر وفى الوقت نفسه تبيان الإيجابى منها حتى يكون هناك تقارب وأن تكون هناك محاولات لترميم تلك الأفكار القديمة بشكل عصري، وكيف أن اللقاء والتقارب والتعايش بين الأمم هو الشيء الباقي، وإذا كان الغيطانى قد رصد فى رسالة البصائر فى المصائر الضمير الإنسانى وآلام الناس فى فترة السبعينيات وما حدث للمجتمع من تغيير وانفتاح وما أعقبة من تغيير فى الاقتصاد الاجتماعي.   

ويشير الباحث عزوز على إسماعيل بقوله: معظم حياة الأدباء فى شقاء دائم وكانت الرسالة المعبرة عن ذلك، فنجد أن محمد حسين هيكل رغم ثراء والده كان قد تألم وجاءت الرسالة فى روايته معبرة عن ذلك الألم. فبعد أن فشل البطل حامد فى حياته ولم يستطع أن يرتبط بزينب لأنها فقيرة، ولا حتى ابنة عمه الثرية ترك البلد وعاد إلى القاهرة وأرسل رسالة دامية إلى والدة أبكته وأبكت أسرته. وهنا يجب أن نعيد النظر ونقارن بين رسالة حامد إلى والدة ورسالة (فرانز كافكا) إلى والده فقد كان الاثنان فى رسالتيهما قد أكدا على فشلهما فى الحياة بسبب الوالد، وإذا كانت الرسالة عند كافكا اشد ألما فإن ذلك يعود إلى تلك التربية القاسية التى عاشها، حيث ذكر كثيرا من الآلام التى عاشها مع والدة. ويبدو أن الفارق بين الروايتين أن والد حامد قد قرأ الرسالة بينما والد فرانز كافكا لم يقرأ الرسالة الدامية. 

عبرت الرسائل عن الألم والوجع الإنسانى من خلال أدب الحرب والسجون فرواية (بريد الليل) لهدى بركات أحيت عهد البوسطجى من جديد، ولكن كان هناك انهزام وانكسار لأنثى، فرسالتها لم تصل أخيها المسجون، وأيضا عبرت الرسالة عن الوجع الإنسانى المتمثل فى الحروب التى دارت فى أرضنا العربية والفتنة الكبرى فى لبنان وما عرف بالحرب الأهلية والتى دامت لأكثر من خمسة عشر عامًا، وكيف أن الرسالة بينت أن ما حدث تفصيلا أى أن الرسالة فى الرواية كانت طريقة من طرق الكتابة للتعبير ذلك الألم والوجع الإنسانى. 

مقالات مشابهة

  • من أرشيف الكاتب أحمد حسن الزعبي .. “وهم” أننا الأفضل
  • شرب الماء: فوائد صحية أم مجرد اعتقاد شائع؟.. دراسة جديدة تفجِّر مفاجأة
  • اسطورة حزب الله: بين الواقعية والتحطيم
  • “التجربة التي وثبت بالعطاء ومهدت لولوج ايقونات فنية تخصصت بالإبداع وحده”
  • شواطئ.. الرواية الرسائلية والرسالة الروائية
  • هجمات الحوثيين في رداع: قراءة في استدعاء ورقة “الإرهاب”
  • "سحر خاص".. رواية جديدة للكاتب سالم الشهباني
  • طعم النّغم وملمس الإيقاع.. رحلة فلسفية في عالم الموسيقى
  • كيف تعذر تشكيل حكومة بنكيران الثانية 2016؟ قراءة استرجاعية نقدية..