بين الاستراتيجية والتنفيذ
تاريخ النشر: 16th, January 2025 GMT
فاطمة الحارثية
كثيرًا ما تؤثِّر العاطفة وكيمياء النفس على صناعة القرار، وعلى المسار العام لأية حلول ومُسلَّمات الأمور؛ إذ يعج ذات الكثير من الناس أملُ أن الأمور سوف تختلف معهم، ولن يقعوا في نفس أخطاء الآخرين، ربما يعولون على حظوظهم وربما الِكبر يلعب دورًا كبيرًا في التغافل والمضي قدمًا، ليستمر السقوط بنفس الخطأ!
أعلم ثمَّة من سيأتي ويتباهى أن علينا أن نتعلم من الخطأ، وفي الحقيقة ليس لدى الجميع هذه القدرة النادرة (على التعلم من الخطأ)؛ بل إن كل من يُبرهن أنه تعلَّم من الخطأ، يتم تكذيبه (كيف قدرت وأنا أخفقت)؛ ليستمر تكرار الألم، من فوضى التخطيط، وسوء التواصل في عمليات التنفيذ، يبطش فرض الرأي بيده ويحاول أن يثبت وهم القوة والسيطرة، بترويع مثل الاستبدال وكيد التحزبات، وحقيقة الأمر أن الحل الحقيقي لا يكمن في حسن التخطيط، وجودة التنفيذ؛ بل في المنهجية الواعية ومرونة الأهداف.
هناك الكثير من الحلول والأفكار والكفاءات والإمكانيات، والكل يسعي نحو المنفعة، وإن توافق الجميع على المصير والغاية، لكن الوضع لن ينهض، كما لن تتطور أو تتوقف الحلول المُكرَّرة، إلّا بالحزم والمنهجية الواضحة، من أجل تكامل ناجعٍ تحت اللامركزية. بات لدينا الكثير من المناطق الصناعية، وكما نعلم من يأتي أولًا ينال الموقع الذي يُناسبه، في المقابل وجود خطة واضحة (وإن كانت سيناريو على ورق) تتوافق مع أدوار المنشآت الصناعية في تفاعلها وتغذيتها ونفاياتها بينها وبين بعض؛ لهو قمة في التنظيم الاقتصادي وتعظيم العوائد.
واليوم إذ نواجه التزامات عالمية في مسائل الحياد الصفري، والاقتصاد الأخضر، نجد أن منظومة توزيع المنشآت الصناعية في حالةٍ من القصور وضعف التكامل. وفي المقابل، فإنَّ سَنَّ القوانين والتشريعات والتوصيات ليست بكافٍ، فنحن أمام تحدٍ مُرهق، ما لم نُعِدُّ دراسة وقياس التوسعة لتلك المناطق الصناعية، وأيضًا مراجعة التوزيع المستقبلي للمصانع؛ بما يتناسب مع التكامل العام لتلك المناطق، وبما يخدم المنفعة العامة للمنطقة، وليس فقط المنشأة بحد ذاتها. كل مصنع أو منشأة تجارية تُعد إرهاقًا اقتصاديًا في المستقبل، ما لم يتم التخطيط السليم بعيدًا عن التفضيل ومفهوم "عبور الجسر حين بلوغه".
على سبيل المثال: نوعية النفايات، إن تماثلت لدى مجموعة من المصانع القريبة من بعضها البعض، قد تتحول الكمية إلى تغذية تجارية لمصنع تدوير. ونحن جميعًا نعلم أن إعادة التدوير تحتاج إلى كميات صناعية وتجارية من النفايات لتحقق الهدف من إنشاء اقتصاد التدوير، ومع ذلك التغافل في التوزيع الصناعي البعيد المدى والتقسيم الاستثماري، ثمة خطأ يتكرر. ولذا وجبت إعادة النظر وخلق توازن جديد؛ بما يتناسب مع التطوير الذكي للمناطق الصناعية، وحُلم مدينة صناعية ذكية ما زال بعيد المنال لضعف المنهجية في الجوانب التنظيمية، والتخطيط وفوضى التنفيذ، رغم الخبرة المكتسبة لأكثر من خمسين عامًا.
وعند الحديث عن التوسعة، نجد أن خلق البيئة الخضراء للمنطقة أمرٌ أساسيٌ، وهو لا يقتصر على الشريط الأخضر؛ بل أيضًا مساحات استثمار تدوير النفايات، أو كما هو مُعرَّف حديثا بـ"التدوير الصناعي"، والتغذية الذاتية الطبيعية لمرافق الطاقة الكهربائية والمياه، والخدمات.
لا أتصور الأمر اليوم؛ بل بعد عشرين عامًا أو اكثر، فثمة استثمارات وجب وضع بذورها اليوم والسماح لأبنائنا بالتمتع بثمارها على المدى البعيد، وما هو بعيد المنال ونراه مستحيلًا اليوم، أثبت التاريخ أنه مُمكن في المستقبل القريب والبعيد، وهذا يعزز مفهوم التباطؤ في تنفيذ بعض المشاريع وتمويلها على المدى الطويل، وليس منعها أو رفضها؛ فالتمويل الأخضر لمشاريع التكامل الذكي للمناطق الخضراء- وإن كان بطيئًا- إلّا أنه قد يتزامن مع تزايد الطلب والحاجة. وهذا فكر نحتاج التدبر فيه، لما يحمل من سلاسة مقابل عبء التمويل الزمني القصير لمواكبة مستعجلة أو طفرة استثمارية، تنتهي بإخفاقات جسيمة.
وإن طال...
التنفيذ عملٌ يسير إن امتلكنا استراتيجيات واضحة، لكن المخرجات تبقى محدودة العائد إن لم تكن على منهج النمو المستمر والمرونة في القطاف لتعظيم الثمار.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
الاستراتيجية الروسية.. لماذا يرفض بوتين وقف إطلاق النار؟
صرّح جيمس هولمز، رئيس كرسي جي سي ويلي للاستراتيجية البحرية في كلية الحرب البحرية، بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لن يقبل وقف إطلاق النار في أوكرانيا، نظراً لتفوقه العسكري الحالي.
كييف لم تُظهر بعد القدرة العسكرية على قلب الموازين ضد روسيا
وأضاف هولمز، وهو وزميل غير مقيم في كلية الشؤون العامة والدولية بجامعة جورجيا، في مقاله بموقع مجلة "ناشونال إنترست"، إن الرئيس الروسي لن يوافق على السلام إلا إذا وُضع تحت ضغط عسكري أو اقتصادي ساحق، وأن على أوكرانيا وحلفائها الاستمرار في ممارسة الضغط على روسيا لجعل وقف إطلاق النار خياراً مجدياً.وأكد الكاتب ضرورة وضع روسيا تحت ضغط وهجوم متواصلين لتحقيق نتيجة مواتية لأوكرانيا. المنطق الاستراتيجي لمواصلة القتال
وعُقدت مناقشات بين الولايات المتحدة وأوكرانيا مؤخراً في جدة بهدف تمهيد الطريق لاتفاقية سلام، وبينما وافقت أوكرانيا على النظر في وقف إطلاق النار تحت ضغط أمريكي، يبقى هولمز متشككاً في أن بوتين سيقبل به، حيث يمتلك حالياً زمام المبادرة العسكرية في شرق أوكرانيا.
ووفقاً للمبادئ الكلاسيكية في الاستراتيجية العسكرية، يجب ألا تتوقف الجيوش المتقدمة عن الهجوم حتى تحقق أهدافها أو تُجبر العدو على الاستسلام.
ومن هنا يرى الكاتب أن بوتين، وفقاً لهذا المنطق، سيستمر في الضغط لتحقيق أكبر مكاسب ممكنة قبل الدخول في أي اتفاق سلام رسمي.
A measured, relentless advance applies political pressure, writes James Holmes. https://t.co/rrGNIMzhg0
— National Interest (@TheNatlInterest) March 17, 2025ولكي يكون وقف إطلاق النار في صالح أوكرانيا، يجب أن تجد روسيا نفسها في وضع يجعل استمرار الحرب مستحيلاً.
حرب الاستنزافتؤثر العقوبات الاقتصادية وحرب الاستنزاف في القدرة القتالية الروسية ببطء، وبلا تأثيرات فورية أو حاسمة. ويُقال إن روسيا تستنزف جنودها ومواردها العسكرية بمعدل غير مستدام، لكن على الرغم من ذلك، فإن الجيش الروسي ما زال يسيطر على الأراضي المحتلة ويحرز تقدماً تدريجياً، مما يشير إلى أن بوتين لا يرى سبباً ملحاً لإيقاف الحرب.
نظرية كلاوزفيتز العسكرية والاستراتيجية الروسيةواستشهد الكاتب بالفيلسوف العسكري كارل فون كلاوزفيتز، الذي أكد أن العدو يجب أن يُوضع تحت ضغط شديد يجعل استمرار المقاومة أكثر إيلاماً من الاستسلام.
وفقاً لكلاوزفيتز، فإن الضغط المؤقت - مثل الانتكاسات اللحظية في ساحة المعركة - لن يؤدي إلا إلى تشجيع العدو على كسب الوقت والتعافي والعودة بشكل أقوى. لذلك، يجب على القوة العسكرية التي تملك اليد العليا أن تُبقي خصمها في حالة من عدم التوازن وتواصل هجماتها حتى تحقيق النصر الحاسم.
تطبيقاً لهذا المبدأ على أوكرانيا، يرى هولمز أن كييف لم تُظهر بعد القدرة العسكرية على قلب الموازين ضد روسيا. وعلى الرغم من أن القوات الأوكرانية قاتلت ببسالة وابتكرت أساليب قتالية جديدة مثل استخدام الطائرات المسيرة، فهي ما تزال الطرف الأضعف عسكرياً. ولم تتمكن أوكرانيا بعد من فرض ضغط كافٍ على روسيا لإجبار بوتين على التفاوض من موقع ضعف.
دروس من الحرب الكوريةلتوضيح مخاطر إيقاف الهجوم قبل الأوان، يستعرض هولمز الحرب الكورية. في عام 1950، اجتاح الجيش الكوري الشمالي كوريا الجنوبية، مما أدى إلى تدخل الولايات المتحدة تحت مظلة الأمم المتحدة.
وقاد الجنرال دوغلاس ماك آرثر هجوماً مضاداً ناجحاً أعاد السيطرة على الأراضي، لكن قراره بالتقدم نحو نهر يالو على الحدود الصينية أدى إلى تدخل الصين، مما دفع إلى حرب استنزاف طويلة.
قام خليفة ماك آرثر، الجنرال ماثيو ريدجواي، بإعادة تنظيم الجبهة وأوقف التقدم بناءً على أوامر من واشنطن. أدى ذلك إلى إطالة أمد الحرب وسنوات من المفاوضات، مما سمح للصين وكوريا الشمالية باستغلال الوضع لصالحهما.
يرى هولمز أن ريدجواي ندم لاحقاً على هذا القرار، معتقداً أن استمرار الهجوم كان سيؤدي إلى نتيجة أفضل.
وقال الكاتب إن بوتين، المطلع على دروس التاريخ العسكري، يدرك أهمية مواصلة الضغط أثناء التفاوض. ويشبه نهجه بنهج الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور خلال الحرب الكورية، حيث كان الهدف هو تصعيد الجهود العسكرية لتعزيز الموقف التفاوضي.
وكما حاول أيزنهاور الضغط على الصين لإنهاء الحرب بشروط مواتية، يحاول بوتين استغلال زخم ساحة المعركة لفرض شروطه.
كما أن بوتين يبدو أنه يستوحي من سياسات جوزيف ستالين، الذي دعم كوريا الشمالية خلال الحرب الكورية. كان ستالين يستخدم المفاوضات كوسيلة لتأخير الولايات المتحدة، وتحقيق مكاسب سياسية، وضمان استمرار الفوضى في المعسكر الغربي.
وأوضح الكاتب أن بوتين يتبع نهجاً مشابهاً، حيث يستخدم المفاوضات كأداة للمماطلة وكسب الوقت بينما يواصل تعزيز موقفه العسكري.
وتابع الكاتب: إذا أرادت أوكرانيا وحلفاؤها إجبار روسيا على قبول وقف إطلاق النار بشروط مواتية لكييف، فيجب عليهم تغيير المعادلة الاستراتيجية بطرق تجعل استمرار العدوان الروسي غير مستدام.
ويتضمن ذلك الضغط العسكري المستمر بشن هجمات أوكرانية مضادة تهدد الأراضي الروسية، وممارسة الضغط الاقتصادي والصناعي، والعزل الدبلوماسي لروسيا وفصلها عن حلفائها مثل الصين وإيران.
ورأى الكاتب أنه بدون هذه التدابير، لن يكون لدى بوتين سبب وجيه للموافقة على وقف إطلاق النار، بل سيواصل استخدام الدبلوماسية كتكتيك لكسب الوقت.
لا وقف لإطلاق النار دون ضغط حاسموخلص الكاتب إلى أن الوضع الاستراتيجي الحالي لا يشير إلى أن وقف إطلاق النار أمر محتمل أو مفيد. وما لم يدرك بوتين أن تكلفة الحرب أصبحت باهظة جداً، فلن يوافق على وقف إطلاق النار بشروط مواتية لأوكرانيا.
لذلك، يرى هولمز أن المسار الأفضل لكييف ليس وقف إطلاق النار، بل استراتيجية تهدف إلى تقويض قدرة روسيا على مواصلة الحرب، مما يجعل السلام الخيار الأقل تكلفة لموسكو.