بقلم : اللواء الدكتور سعد معن الموسوي ..

النفاق هو ظاهرة اجتماعية تهدد القيم الإنسانية، ويُعد من أخطر الظواهر التي تفسد العلاقات بين الأفراد وتؤثر في بنية المجتمعات. ليس مجرد سلوك فردي، بل هو انعكاس لخلل عميق في البنية النفسية والاجتماعية للأفراد والمجتمع. على مر التاريخ، تناول العديد من المفكرين هذه الظاهرة، محاولين فهم جذورها وآثارها، بالإضافة إلى وضع استراتيجيات للتعامل معها.

يعتبر عالم الاجتماع العراقي علي الوردي من أبرز المفكرين الذين تناولوا النفاق في تحليلهم للمجتمعات . ويرى الوردي أن النفاق هو نتيجة طبيعية لازدواجية القيم التي تعيشها هذه المجتمعات، حيث يُجبر الفرد على التوفيق بين التقاليد القديمة ومتطلبات الحداثة. هذا الصراع يولد شعورًا بالضغط يجعل الأفراد يلجؤون إلى إظهار ما لا يبطنون. كما أشار الوردي إلى أن البيئة الاجتماعية والثقافية التي تقوم على المظاهر والتقاليد المتناقضة تشجع على انتشار هذا السلوك.

من منظور علم النفس، يُعرف النفاق على أنه محاولة الإنسان إخفاء نواياه أو مشاعره الحقيقية والتظاهر بعكس ذلك. وأوضح علماء النفس أن ضعف الثقة بالنفس هو أحد الأسباب الرئيسية لهذا السلوك، حيث يلجأ الفرد إلى التظاهر لإخفاء شعوره بالدونية أو نقص الكفاءة. كما أن الحسد والغيرة من نجاح الآخرين قد يدفعان البعض إلى النفاق كوسيلة للتقليل من شأن من حولهم أو لتحقيق مصالح شخصية.

وفي هذا السياق، يرى المفكر المصري الدكتور أحمد زكريا الشنطي أن النفاق قد يكون شعورًا فطريًا، حيث يُحفز الأفراد على التظاهر بغير ما يشعرون به بهدف التقليل من قيمة الآخرين أو إظهار التفوق عليهم. وقد أكد الشنطي أن الشعور بالحسد يعزز من مشاعر الضعف الداخلي ويؤدي إلى سلوكيات غير نزيهة كالنفاق، التي تهدف إلى إخفاء هذه المشاعر وراء قناع من المجاملة أو التوافق الاجتماعي.

من جانب آخر، اعتبر المفكر اللبناني الدكتور عبد الله العروي أن النفاق في المجتمعات العربية ناتج عن صراع بين الغيرة من نجاح الآخر والرغبة في الحفاظ على صورة اجتماعية غير حقيقية. يقول العروي إن المجتمعات التي تُولي أهمية كبيرة للسمعة والمكانة الاجتماعية تشجع الأفراد على إخفاء نواياهم الحقيقية أو مشاعرهم السلبية تجاه الآخرين.

دراسات أخرى تشير إلى أن النفاق ليس دائمًا خيارًا واعيًا، بل قد يكون سلوكًا مكتسبًا نتيجة البيئة الاجتماعية التي ينشأ فيها الفرد. فعندما تُربي المجتمعات أفرادها على إظهار الطاعة أو التوافق مع المحيط حتى لو كان ذلك على حساب قناعاتهم، يصبح النفاق أداة للتكيف مع الضغوط الاجتماعية.

تأثير النفاق لا يقتصر فقط على الأفراد، بل يمتد ليشكل خطرًا حقيقيًا على المجتمعات بأسرها. فهو يؤدي إلى زعزعة الثقة بين الأفراد، ما يُضعف العلاقات الإنسانية ويُعطل التعاون البناء. كما أن تفشي هذه الظاهرة يُسهم في تراجع القيم الأخلاقية، حيث تُصبح المظاهر الكاذبة هي الأساس الذي تُبنى عليه العلاقات الاجتماعية والمهنية.

وللتعامل مع هذه الظاهرة، يُجمع الخبراء على أهمية تعزيز ثقافة الصدق والشفافية في المجتمع. تبدأ هذه العملية من التربية الأسرية، حيث يجب تعليم الأطفال التعبير عن آرائهم بحرية دون خوف، مع تشجيعهم على الالتزام بقيم الصدق. في المؤسسات التعليمية، يمكن تعزيز قيم النزاهة من خلال تشجيع التفكير النقدي وتقبل التنوع في الآراء.

أما على المستوى الشخصي، فإن الوعي والذكاء الاجتماعي هما المفتاح للتعامل مع الأشخاص الذين يتصفون بازدواجية السلوك. من المهم ألا ينخرط المرء في صراعات مباشرة معهم، بل أن يُظهر لهم فهمه لحقيقتهم بأسلوب غير مباشر. في الوقت نفسه، يُنصح بتجنب الاعتماد على هؤلاء الأشخاص أو الوثوق بهم، لأن النفاق غالبًا ما يرتبط بالخداع والانتهازية.

إن النفاق ظاهرة اجتماعية معقدة تتطلب فحصًا دقيقًا لفهمها ومعالجتها. من خلال تبني قيم الصدق والوضوح في مختلف جوانب الحياة، يمكن للمجتمعات أن تقلل من انتشار هذه السلوكيات السلبية، وتُحقق بيئة أكثر صحة وثقة، تدعم بناء علاقات إنسانية حقيقية.

اللواء الدكتور
سعد معن الموسوي

د. سعد معن

المصدر: شبكة انباء العراق

كلمات دلالية: احتجاجات الانتخابات البرلمانية الجيش الروسي الصدر الكرملين اوكرانيا ايران تشرين تشكيل الحكومة تظاهرات ايران رئيس الوزراء المكلف روسيا غضب الشارع مصطفى الكاظمي مظاهرات وقفات التی ت

إقرأ أيضاً:

الاقتصاد التشاركي

هل تمتلك شقة في مدينة صلالة تؤجّرها طوال العام وخلال جزء من موسم الخريف، بينما تحتفظ بها لعائلتك لمدة شهر لاستخدامها؟ هل أنت صاحب مؤسسة متناهية الصغر أو صغيرة ولا تستطيع استئجار مقر دائم؛ فتقوم باستئجار طاولة صغيرة في أحد مراكز الأعمال المنتشرة في أرجاء مسقط العامرة؟ هل احتجت إلى الذهاب للمطار وبدلًا من استخدام سيارتك أو طلب المساعدة من أحد لجأت إلى أحد التطبيقات أو خدمات التاكسي لحجز وسيلة نقل؟ كل هذه الأمثلة تمثل نماذج لما يُعرَف بـ«الاقتصاد التشاركي»، الذي أصبح شائعًا على نطاق واسع بفضل تطبيقات التقنية الحديثة، وهو نموذج اقتصادي يقوم على مشاركة الأصول والخدمات بين الأفراد عبر منصات رقمية، بدلًا من الامتلاك التقليدي. ببساطة، يتيح هذا النظام للأشخاص تأجير أو مشاركة ممتلكاتهم أو مهاراتهم مع الآخرين مقابل رسوم، مما يعزز الكفاءة ويقلل الحاجة إلى الشراء.

ويعتمد الاقتصاد التشاركي على المنصات الرقمية التي تربط بين الأفراد الذين يمتلكون أصولًا غير مستغلة بالكامل، وأشخاص يحتاجون إليها لفترة قصيرة. ويساهم هذا النموذج في تقليل التكاليف على الأفراد، وتعظيم الاستفادة من الموارد المتاحة، وتوفير فرص دخل جديدة، إضافةً إلى تقليل الهدر من خلال مشاركة الموارد، مما يساعد على خفض الاستهلاك والحفاظ على البيئة.

ورغم مزاياه العديدة، لا يزال الاقتصاد التشاركي يواجه العديد من التحديات؛ إذ لم تحدد بعض الحكومات بعد كيفية التعامل معه من ناحية القوانين والأنظمة، كما أن قضايا الثقة والجودة والأمان تظل مصدر قلق؛ نظرًا لأن التعامل يتم بين أفراد، كما هو الحال في قطاع الاستراحات الذي شهد انتشارًا واسعًا في بلادنا، مُضيفًا قيمة إلى قطاع السياحة. بالإضافة إلى ذلك، يواجه هذا النموذج منافسة مع الشركات التقليدية، حيث تأثرت بعض القطاعات، مثل الفنادق وشركات النقل سلبًا بسبب انتشاره.

ختامًا، يُحدث الاقتصاد التشاركي تحوّلًا في الطريقة التي نستهلك بها الخدمات، عبر تحويل الملكية إلى استخدام مشترك. ومع تطور التكنولوجيا، يزداد الاعتماد عليه في مجالات متعددة، مما يجعله جزءًا أساسيًّا من مستقبل الاقتصاد، سواء على المستوى العالمي أو المحلي.

حمدة الشامسية كاتبة عُمانية في القضايا الاجتماعية

مقالات مشابهة

  • إصابة جندي بجروح خطرة في عملية إطلاق نار جنوب حيفا
  • ساعات خطرة.. شبورة كثيفة ورياح قوية تضرب البلاد في هذا التوقيت
  • ريم عبدالله: أزعل من النفاق ولو كنت شعور راح يكون الإحساس.. فيديو
  • الاقتصاد التشاركي
  • الجيش الإسرائيلى: الهجوم البرى على بيت حانون يهدف لتدمير البنية التحتية لحماس
  • غزة.. مقتل العشرات بقصف إسرائيلي ومشاهد صادمة لتدمير «مسجد» شهير
  • أقدم باب مكتمل في تاريخ اليمن.. نافذة على عظمة الماضي
  • نائب: الأحزاب الشيعية تصاعد من خطاب الكراهية والطائفية لتدمير ما تبقى من العراق
  • بطعنات نافذة..ضبط المتهم بقتـ ل مدير مكتب صحة فرشوط بقنا
  • مؤتمر فلسطين في صنعاء..  نافذة جديدة لفضح جرائم الاحتلال وتأكيد دور المقاومة