مضامين خطاب جلالته: الحفاظ على المكتسبات والتمسك بالهوية الوطنية
تاريخ النشر: 15th, January 2025 GMT
في خطاب جلالة السلطان هيثم بن طارق ـ حفظه الله ـ في ذكرى مرور 5 أعوام على تولي جلالته مقاليد الحكم، استهل - أعزه الله - هذا الخطاب المهم بسعادته عما تحقق من إنجازات عديدة على مختلف الأصعدة، على الأرض العمانية خلال هذه السنوات، التي عمت كافة المحافظات ، سواء في الجانب الاقتصادي أو الاجتماعي، أو في مجال التنمية الاجتماعية، إلى جانب استثمارات مهمة في الطرق والمشاريع في البنية الأساسية في العديد من الولايات، والمسيرة منطلقة إلى آفاق رحبة ومتجددة، في النهوض بالتنمية، وتأسيس الكثير من النظم والقوانين التي تكون سياجا لحركة العمل وانسيابها في كل المناشط والفعاليات التي يتم استحداثها، وأهمها تنمية الإنسان العماني في تعليمه وتأهيله وتدريبه على أسس علمية صحيحة مع كل جديد في العلم والتكنولوجيا.
وأشاد جلالته بالدور الذي لعبه الأجداد الأفذاذ في فترة تاريخهم التليد، الذين حافظوا على مكانة عُمان واستقلالها كدولة ذات سيادة ، يشار إليها بالبنان بين دول العالم في عصور متعددة، بما تمثله هذه الدولة التاريخية العريقة، من مكانة حضارية وقوة لها تقديرها واحترامها بين دول العالم، وهذا لم يتأت إلا بالجهد والبذل والعطاء، وذكر المؤرخون ما كانت تتمتع به عُمان من قوة عسكرية ضاربة، وإرث تاريخي ممتد الجذور في الجزيرة العربية، وامتدادها في النفوذ إلى مناطق أخرى، وقال جلالته حفظه الله في هذا الصدد: «لقد حافظتْ بلادُنَا العزيزةُ على كَيْنُونَتِها كدولةٍ مستقلةٍ ذاتَ سِيادةٍ عبرَ العصور وقد تعاقبتْ عليها أنماطُ حُكمٍ عديدةٍ أدَّى كلٌّ منها دورَهُ الحضاريّ وأمانتَــهُ التاريخيّةَ وإننا نستذكرُ في هذا اليومِ الأغرِّ قادةَ عُمانَ الأفذاذ على مر التاريخ، قادةً حملوا رايةَ هذا الوطنِ ووحَّدوا أُمَّتَه وصانُوا أرضَه الطاهرةَ ودافعوا عن سيادتِه، ونحمِلُها من بعدهِم على الطريقِ ذاتِـه، معاهدينَ الله عزّ وجــل ألا يُـثـنـيـنــــا عــن عزمِنــــا عــــزمٌ ولا تُشغِلُنا عن مصلحةِ وطنِنا مصلحةٌ، تعضُدُنا في ذلك أمّةٌ مباركةٌ بفضلِ اللهِ مشرَّفَةٌ بدعاءِ نـبـيِّهِ الـكـريـم. إنّهُ لمن دواعي سُرورِنا وتكريمًا لأسلافِنا من السلاطين واستحضارًا ليومٍ مجيدٍ من تاريخِ عمانَ الحافلِ بالأيامِ المشرقةِ أن نُعْلِنَ في هذا المقام بأن يكونَ يومُ العشرينَ من نوفمبر من كلِّ عامٍ يومًا وطنيًّا لسلطنةِ عُمان وهو اليومُ الذي تشرَّفتْ فيه الأسرةُ البوسعيديّة بخدمةِ هذا الوطنِ العزيز منذُ عامِ (1744) ألفٍ وسبعمائةٍ وأربعةٍ وأربعينَ للميلاد على يدِ الإمامِ المؤسّسِ السّيِّد أحمدَ بنِ سعيدٍ البوسعيدي الذي وحَّدَ رايةَ الأمَّــةِ العُمانيــةِ وقـادَ نضالَهـا وتضحياتِهـا الجليلةِ في سبيلِ السّيادةِ الكاملةِ على أرضِ عُمان والحريّةِ والكرامةِ لأبنائِها الكرام وجاءَ من بعدِهِ سلاطينٌ عِظام حملوا رايَتَها بكلِ شجاعةٍ واِقتدار وأكملُوا مسيرَتَها الظافرة بكلِ عزمٍ وإصرار». وتطرق جلالته ـ أعزه الله ـ إلى أهمية هذا الاحتفال، أو الوقفة أو المحطة للاستذكار والفهم العميق لما وضعه الأجداد في سيرتهم المجيدة، وما تركوه من مآثر ناصعة تستحق تخليدها والأخذ من قيمها وسلوكها في العطاء في تلك العصور من تحولات وتغيرات، وكيف تعاملوا مع كل ما يخالف ثقافتهم وقيمهم، وفي الوقت نفسه، أدى أسلوب التعامل الحضاري دورا إيجابيا في قبولهم لما هو جدير بالأخذ والاستيعاب، وأسلم الآلاف من الشعوب بسبب التعامل الراقي، لكن الأخذ بسيرتهم لا يعني أن نكون كما كانوا في حياتهم وطرق معيشتهم، وإنما نستلهم القيم والمبادئ التي ساروا عليها والمثل الجليلة التي تمسكوا بها، وحققوا تقدما ونهضة وردعا للأعداء للدفاع عن استقلالهم، وهذا ما ينبغي الاستفادة منه من أجيالنا الحالية والمستقبلية»، وقال جلالته في هذا الخطاب عن تخليد سير الأسلاف من الأجداد: «إن احتفاءَنا بهذا اليومِ إنما هو تخليدٌ لسِيَرِهم النبيلة ومآثرِهم الجليلة والتزامٌ أكيدٌ منّا بالمبادئ والقِيَمِ التي شَكَّلتْ نسيجَ أُمَّتِنا العُمانية نصونُ وحدَتَها وتماسكَها ونسهرُ على رعايةِ مصالحِ أبنائِها رافضينَ أيَّ مساسٍ بثوابتِها ومقدَّساتِها».
ولا شك أن «رؤية 2040»، التي تم تطبيقها منذ سنوات قليلة، بمقاييس الخطط والبرامج، حققت الكثير من الإنجازات التي وُضعت لها سواء ضمن الخطط الخمسية المنضوية تحتها، أو الخطط كاملة كما حُدد لها، وهي الرؤية التي شارك فيها العمانيون بأنفسهم ومن خلال أفكارهم وأطروحاتهم، وهذا من المقومات اللازمة للنجاح، والعمل مستمر لتحقيق الأهداف التي تسعى إليها الدولة ضمن الخطط والبرامج... وقال جلالته ـ حفظه الله: «شهدت الأعـوامُ المـاضيةُ انطلاقةَ «رؤيةِ عُمان 2040» رؤيةِ العُمانيين جميعًا وطريقِهم الواضحِ نحو المستقبل ولقد حققنا- بحمدِ الله وتوفيقه- أهدافَ هذه المرحلةِ من عُمرِ النهضةِ المتجدِّدة حيث شهدنا- بفضله تعالى- التحسُّنَ المستمرَّ في العديدِ من المـؤشّراتِ الوطنيةِ والدولية التي ما كانت لتتحقّقَ لولا تكاتُفُ الجميعِ ومساندةُ أبناءِ هذا الوطنِ جميعًا لجهودِ الحكومةِ ومساعيها. وسنعمل على مواصلةِ هذا التقدمِ في الأعوامِ القادمةِ- بإذن الله تعالى- بما يُحسِّنُ الخدماتِ المقدّمةِ للمواطنين لتصبحَ في مستوى الجودةِ والكفاءةِ التي يتطلّعون إليها وبما يتيحُ لهم المجال للإسهامِ في تطويرِ منظومةِ الخدماتِ العامة التي نريدُ لها أن تكونَ مجالًا حيويًّا للتميُّزِ الحكومي وركيزةً من ركائزِ التنافسيةِ، وقـد حَرصْنَــا على أنْ يترافقَ هذا التحسّنُ مع التوسّعِ في خدمات البنيةِ الأساسيةِ والمرافقِ الصحيةِ والتعليميةِ وتطويرِ المدنِ المتكاملةِ والمشاريـعِ الاستثماريـةِ الكبرى كلما أتاحتْ لنا الإمكانياتُ الماليةُ ذلك، كما وضعنا الأسسَ لنظامِ إدارةٍ محليّة يُسهِمُ في تسريعِ تنميةِ المحافظات وبناءِ قاعدةٍ اقتصاديّةٍ واعدةٍ فيها وتطويرِ شراكةٍ شـاملةٍ مع الـمجتمع». وأشاد جلالته في هذا الخطاب، بما تحقق من إنجازات وبرامج في المحافظات، منها مشروعات عديدة ونشاطات في مجال التنمية الاجتماعية والاقتصادية وغيرها من الأهداف التي تم اتخاذها ضمن الأولويات لكل محافظة، وأن جلالته كما جاء في هذا الخطاب أكد العزم على منح المحافظات المزيد من الصلاحيات، كما أشاد جلالته بالدور الذي تقوم به الحكومة في مجال التنمية وفتح المجال أمام طاقات الشباب، ومجال الاستثمار وتحريك الأنشطة الاقتصادية والتنموية، وغيرها من الأهداف ، وقال جلالته ـ حفظه الله: «إننا إذ نُشيدُ بما تحقّقَ في هذه المحافظاتِ من مشاريعَ تنمويّة وحَراكٍ اقتصاديٍّ واجتماعيٍّ لنؤكّدُ عَزْمَنا على مواصلةِ منحِ المحافظاتِ المزيدَ من الصلاحيّاتِ والدّعمِ في مختلفِ القطاعاتِ لتصبحَ مراكزَ اقتصاديّةً تقُودُ النموَّ الاقتصاديّ بالبلادِ، كما أرسينا منظومةً شاملةً للحمايةِ الاجتماعيةِ والتي باشرتْ حكومتُنا العملَ بها ووجّهنا بأن تَتِمَّ مراجعةُ آلياتِها وبرامجِها بين فترةٍ وأخرى لينعمَ الجميعُ بالعيشِ الكريمِ ولتحقيقِ العدالةِ المنشودةِ منها. كما تابعْنا خلالَ الفترةِ المـاضيـة جهودَ الحكومةِ الراميةِ لاستيعابِ طاقاتِ أبنائِنا الشبابِ وفتحِ آفاقِ العملِ والإبداعِ أمامهم، ووجّهْنا مؤسساتِ الدولةِ المعنيةِ بمراجعةِ منظومةِ التشغيلِ وربطِها بالقطاعاتِ الاقـتصــاديةِ والاجتماعيةِ، كما أكّدنا على الحكومةِ بالعملِ الحثيثِ على مواءمةِ مسارِ التنميةِ الاقتصادية في البلادِ وأنظمةِ التعليمِ والتدريبِ مع متطلّباتِ الشّبابِ وتهيئَتِهِم لفرصِ العملِ المناسبةِ لهم بما يخدمُ حاضرَهُم ومستقبلَهُم».
وأشار جلالته في خطابه إلى أهمية تطوير البيئة الاستثمارية والتجارية، باعتبارهما من الضرورات لتحريك الاقتصاد، كما قال جلالته بهدف تهيئة مناخ دافع للتنمية وتعزيزها، وهذا ما سوف تقوم به الدولة وقال جلالته في هذا الصدد: «إِنّ تطويرَ البيئةِ الاستثماريةِ والتجاريةِ تُعدُّ ضرورةً أساسيّةً لدفعِ عجلةِ التنميةِ بالبلاد ولذلك فقد وجّهنا الحكومةَ بتقديمِ المزيدِ من التسهيلاتِ اللازمة والحوافزِ التنافسية والبيئةِ الداعمةِ للاستثمار بما يسهل ممارسةَ الأعمالِ التجاريةِ لضمانِ تنويعِ اقتصادِنا الوطنيِ وتحقيقِ نموٍّ مستدامٍ ولتوفيرِ المزيدِ من فرصِ العملِ في القطاعاتِ الاقتصاديّةِ والخدميّةِ المـختلفة وبما يجعلُ البلادَ وجهةً استثماريّةً جاذبةً وأكثرَ اندماجـًا في منظومةِ الاقتصادِ العالمي ولتحقيقِ هذا الاندماجِ فقد سعتْ حكومتُنا لبناءِ شبكةٍ واسعةٍ من المـوانئ والمناطقِ الحرّةِ والمناطقِ الاقتصاديةِ الخاصةِ والمناطقِ الصناعيةِ المتكاملةِ وتقديمِ الدّعمِ لبرامجِ الابتكارِ وريادةِ الأعمال وصناديقِ الاستثمار الوطنيةِ منها والمشتركة مـع الدولِ الشّقيقةِ والصّديقـة». وتحدث جلالته عن التحديات التي نعيشها ويعيشها العالم في عصرنا الراهن، وتحتم الإدراك الذاتي والصمود أمام هذه التحديات لتعزيز القدرات والإمكانيات للمواجهة وقال جلالته: «إن إدراكَنا لحجمِ التحدّياتِ المحليَّةِ والعالميّة ومعرفتَنا بخارطةِ الصراعاتِ والمصالحِ في العالم وفهمِ طبيعتِها وحدودِ تأثيرِها يُعزِّزُ قدرتَنـا على التّعاملِ معها كفرصٍ مواتيةٍ لتبنِّي سياساتٍ فاعلةٍ لإرساءِ السّلامِ وتنميةِ الاقتصادِ وتعميقِ الشراكاتِ الاستراتيجيةِ القائمةِ على التعاونِ والتكاملِ الاقتصاديِ انطلاقًا من ثوابتِنا ومصالِحنا الـوطنية العُليا. ومِنْ هذا المنطلقِ فإننا ندعو كافةَ دولِ العالم للتضافرِ من أجلِ بناءِ عَالَمٍ تسودُهُ قيمُ الإنسانيةِ والعدالةِ، تُحترَمُ فيهِ مُقدَّساتُ كـلِّ أمَّةٍ وهُويَّتُها ودينُها ومعتقداتُها وأخلاقُها، وكرامةُ الإنسانِ فيه مُصانةٌ وحقوقُهُ مكفولةٌ في عالَمٍ ينشأُ شبابُه في توازنٍ وانسجامٍ بين أساسهِ الروحيِ ومتطلّباتِهِ المـاديـّةِ، وفي هذا الجانبِ فإنّنا نولي أبنـاءَنا مــن الأطفالِ والناشئةِ والشبابِ العنايةَ الكاملةَ والاهـتمامَ المـتـواصلَ».
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: جلالته فی هذا فی هذا الخطاب هذا الوطن حفظه الله مجال ا
إقرأ أيضاً:
FT: كيف أباد الاحتلال جباليا البلد التي كان يسكنها 200 ألف نسمة؟
نشرت صحيفة فايننشال تايمز تقريرا، للصحفيين مهول سريفاستافا٬ وهبة صالح٬ وملاكة كنانة تابر٬ وأديتي بهانداري٬ معزّزا بالصور والخرائط وصور الأقمار الصناعية والفيديو، تُبرز فيه كيف قام الاحتلال الإسرائيلي بتدمير مدينة ومخيم جباليا٬ وتروي فيه قصص بعض سكان المخيم.
وجاء في التقرير الذي ترجمته "عربي21" أنه: "في اليوم الذي نفد فيه الدقيق أخيرا، ولم يعد سقف منزلهم المنهار المكون من طابقين قادرا على صد الأمطار، حملت عائلة عبد الله أبو سيف الجد البالغ من العمر 82 عاما برفق على عربة يجرها حمار وفرّت من جباليا".
وتابع: "بعد أن أصابه الجوع والصمم بسبب شهور من الغارات الجوية، وإدراكه أنه قد لا يعود أبدا، طلب أبو سيف من أصغر أحفاده أن يسنده. كان يريد أن يرى للمرة الأخيرة معالم حياته: قاعة الزفاف حيث تزوج أربعة من أبنائه؛ والمدرسة التي درس فيها، ثم درّس فيها؛ والمقبرة التي دفن فيها والداه".
ولكن في ذلك اليوم من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي "لم يكن هناك ما يمكن رؤيته ــ لم يتبق شيء، فقط الأنقاض والحطام. لقد تم محو حياته بالكامل. كل ما تبقى هو ذكرياته". بحسب ما قاله ابنه إبراهيم.
وتقول الصحيفة إنه: "لم يسلم أي مكان في غزة من القوة التدميرية للجيش الإسرائيلي وقصفه العنيف، منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023. فيما يعتقد الوسطاء أنهم على وشك إبرام اتفاق لوقف إطلاق النار لإنهاء القتال وتأمين إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين المحتجزين في القطاع".
في السياق نفسه، أردف التقرير: "لكن لم يتعرض أي مكان للدمار بشكل أكثر اكتمالا من جباليا، وهي مدينة قديمة أعطت اسمها بعد احتلال فلسطين عام 1948 لمخيم اللاجئين القريب. ومع الوقت أصبح المخيم واحدا من أكبر المخيمات في الأراضي الفلسطينية".
"يعيش في جباليا والشوارع المحيطة بها ما يقدّر بنحو 200 ألف شخصا -بما في ذلك أكثر من 100 ألف لاجئا سجّلت أسماؤهم رسميا، وفقا للأمم المتحدة والمسؤولين المحليين. إذ وُلد المخيم في نهاية حرب ودمر في أخرى؛ ليصبح مقبرة للذكريات غير المرتبطة بالمعالم التي كانت تحافظ عليها في مكانها ذات يوم" أوضح التقرير.
واسترسل: "لم يصف أحد مدينة جباليا بأنها جميلة، وخاصة المخيم نفسه. ولكن كان هناك دائما جزء صاخب ونابض بالحياة الفلسطينية: الصلاة في مسجد العودة، والاحتجاجات مع وجبة جانبية من الشاورما في دوار الشهداء الستة، والأعراس في قاعة بغداد للأفراح القريبة٬ وكان المتسوقون يسافرون من جميع أنحاء غزة إلى سوق المخيم المزدحم، منجذبين بأسعاره الرّخيصة، وكذلك الآيس كريم والكعك من متجر الزيتون الشهير، في قلب السوق".
وتابع: "كان مبنى القاضي "الحلويات الشرقية" التاريخي المكون من ثلاثة طوابق، والذي يبيع المعجنات بما في ذلك البقلاوة المحشوة بالفستق، بمثابة عامل جذب آخر. كان السكان المحليون يتجمعون لحفلات أعياد الميلاد في قاعته، بينما كان الآلاف من الناس يطلبون مسبقا أطباق المعجنات للاحتفال بنتائج امتحانات الثانوية العامة".
ويضيف التقرير في وصف المخيم: "كان نادي جباليا الرياضي الخدمي مركزا لهوس غزة بكرة القدم، حيث استضاف مباريات محلية بينما عرض مقهى "رابعة" القريب مباريات تتراوح من دوري أبطال أوروبا إلى الدوري المصري الممتاز. وكان الفنانون يغنون ويعزفون على العود في ليالي الموسيقى في المقهى".
وتصف هجوم الاحتلال الإسرائيلي بأنه كان: "بلا هوادة، وكان التدمير شاملا ــ ليس فقط في جباليا، بل وأيضا في بيت لاهيا وبيت حانون المجاورتين ــ إلى الحد الذي جعل وزير دفاع إسرائيلي سابق، أواخر العام الماضي، يصف تصرفات الجيش في شمال غزة بأنها "تطهير عرقي".
وقال موشيه يعلون لقناة تلفزيونية محلية: "لم تعد هناك بيت حانون. ولا توجد بيت لاهيا. إنهم [الجيش الإسرائيلي] يعملون حاليا في جباليا، وهم في الأساس ينظفون المنطقة من العرب". وبعد إدانته بسبب تعليقاته، عزّز موقفه، وقال لمحاور ثان إن: "هذا تطهير عرقي ــ ولا توجد كلمة أخرى لوصفه".
كذلك، تصف الصحيفة جباليا: "تحوّل مخيم اللاجئين إلى مساحات من الأنقاض على مدى الرؤية التي تستطيع المسيرات رؤيتها، وشوارعه التي كانت تعج بالسكان ذات يوم مدفونة تحت أنقاض عشرات الآلاف من المنازل. وفي مختلف أنحاء القطاع، قتل أكثر من 46 ألف فلسطينيا، وفقا لمسؤولين محليين".
وقال إبراهيم الخرابيشي، وهو محام رفض المغادرة، إن المشهد من الأرض مرعبا ولا يمكن تصوره. خلال الغارات الإسرائيلية. اختبأ هو وزوجته وأطفاله الأربعة في زاوية من منزلهم. وهو يتفادى الطائرات الرباعية المروحية الإسرائيلية عندما يخرج خفية للحصول على الطعام للبقاء على قيد الحياة.
وأضاف: "نرى جثثا لا يجرؤ أحد على إزالتها على مدى الرؤية. نسمع الجرحى ينادون طلبا للمساعدة ويموت بعضهم. كل من يشعر بالشجاعة الكافية للذهاب لنجدتهم يسقط بجانبهم ثم نسمع صوتين يصرخان طلبا للمساعدة بدلا من صوت واحد".
ونشأ الشاعر مصعب أبو توهة، في بيت لاهيا القريبة. فرّ أولا إلى مصر، ثم إلى سيراكيوز، نيويورك. كل ما تبقى له لينقله إلى أطفاله هو القصص. لقد دمرت الغارات الجوية الإسرائيلية مكتبته التي تضم عدة آلاف من الكتب. وكتب في قصيدة: "أترك باب غرفتي مفتوحا، حتى تتمكن الكلمات في كتبي من الفرار عندما تسمع القنابل".
وقال إن هذه هي مأساة تجربة اللاجئين الفلسطينيين منذ عام 1948: النزوح القسري المتكرر أثناء الصراع، حتى من المنازل المؤقتة في مخيمات اللاجئين في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وكل ذلك مع التمسك بالأمل في العودة إلى منازل الأجداد في يافا أو حيفا أو الرملة.
وتابع: "نحن ندفع بعيدا أكثر فأكثر عن وطننا والذكريات التي يجب أن نحافظ عليها. بالنسبة لنا، الآن بعد تدمير هذا المخيم، فإن هذا يعني أيضا تدمير تاريخ اللاجئين الذي دام حوالي 76 عاما".
ويحتل مخيم جباليا مكانة كبيرة في قصص كل من الإسرائيليين والفلسطينيين. اندلعت الانتفاضة الأولى من أزقته المزدحمة في عام 1987 بعد أن صدم سائق شاحنة إسرائيلي، ثلاثة فلسطينيين من المخيم وقتلهم، ما أدّى إلى إطلاق العنان لعقود من الغضب العارم تجاه الاحتلال الإسرائيلي للقطاع.
ولكن نموه الكثيف جعله من مخيم مؤقت بعد حرب عام 1948 إلى ما يوصف بـ"غابة خرسانية" لا تزيد مساحتها عن كيلومترين مربعين، أبرز أيضا مشكلة مستعصية في قلب الصراع الإسرائيلي الفلسطيني: حق العودة للفلسطينيين الذين فروا من ديارهم فيما أصبح في النهاية دولة الاحتلال الإسرائيلي، وأجيال من أحفادهم.
وبحلول الوقت الذي ولد فيه الحاج عليان فارس، في عام 1955، بدأ المخيم في التبلور. قامت وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) ببناء منازل صغيرة من الأسمنت وألواح الزينكو، بغرف لا يزيد حجمها عن ثلاثة أمتار مربعة. كانت العائلات بأكملها تتجمع فيها. لم تكن المنازل بها مراحيض وكان السكان مضطرين إلى نقل المياه من صنابير بعيدة.
والآن بعد أن نزح إلى أنقاض مخيم آخر، أصبح لدى فارس (69 عاما) حلم واحد: إذا انسحبت قوات الاحتلال الإسرائيلي يوما ما، فسوف ينصب خيمة فوق أنقاض منزله ويعيش هناك حتى يتم إعادة بناء جباليا. وقال فارس بصوت يكاد يغرق في صوت مسيّرة إسرائيلية: "مخيم جباليا مدينتي، إنه مسقط رأسي. كل ما يخصني موجود في جباليا. سأشعر بالغربة في أي مكان خارج جباليا".
لقد كان سماح الاحتلال الإسرائيلي لمئات الآلاف من المواطنين الذين فروا من شمال غزة٬ بالعودة أم لا يشكل عقبة حاسمة في مفاوضات وقف إطلاق النار. فكل من يعود سوف يعود إلى مشهد حطمته غارات جيش الاحتلال الإسرائيلي، بما فيه: العملية الحالية، التي يقول الاحتلال إنها تهدف إلى منع المقاومة من إعادة تجميع صفوفها. وقد قُتل أكثر من 50 جنديا إسرائيليا في العملية الشمالية.
إلى ذلك، سجّلت وزارة الصحة بغزة 2,500 شهيد حتى الآن في العملية الشمالية، ولكن مع ترك العديد من الجثث لتتعفن في الشوارع -بعضها أكلتها الكلاب الضالة- فيما يعتقد المسؤولون المحليون أن العدد الحقيقي للشهداء ضعف هذا الرقم. وقال الأطباء إن المرفق الطبي الوحيد الذي لا يزال يعمل، وهو المستشفى الإندونيسي، بالكاد يعمل.
ولأكثر من ثلاثة أشهر، سمح الاحتلال بدخول القليل من الطعام. وقال كبير مسؤولي الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة، توم فليتشر، على قناة "إكس" التلفزيونية إن: وكالات الإغاثة قامت في الفترة من تشرين الأول/ أكتوبر إلى نهاية كانون الأول/ ديسمبر الماضي٬ بـ 140 محاولة للوصول إلى المدنيين المحاصرين، ولكن "الوصول كان شبه معدوم".
ونفى جيش الاحتلال أنه ينفذ ما يسمى "خطة الجنرالات"، التي اقترحها مستشار الأمن القومي السابق جيورا إيلاند، والتي تنطوي على إخلاء شمال غزة بالقوة ومنع المساعدات الإنسانية. ولكن مسؤولا إسرائيليا كبيرا قال إن شمال غزة "لن يعود إلى سابق عهده أبدا".
وقال المسؤول: "يمكنك أن تسميها منطقة عازلة، ويمكنك أن تسميها أرضا زراعية، ويمكنك أن تسميها ما شئت، ولكن سيكون هناك فصل مادي أكبر بين المجتمعات الإسرائيلية والمدن الفلسطينية".
وبحسب التقرير: "يقول عمال الإغاثة إنه لا يمكن أن يبقى أكثر من بضعة آلاف من الناس. ويرفض البعض بعناد طردهم من أراضيهم. والبعض الآخر فقراء للغاية أو مرضى لدرجة أنهم لا يستطيعون التحرك. ويتنقل البعض بين المستشفيات التي بالكاد تعمل، على أمل أن يوفر وضعهم المحمي بموجب القانون الدولي بعض الأمان الضئيل".
كان عبد أبو غسان، يحتمي في مدرسة بالقرب من المستشفى الإندونيسي. وطوال اليوم كان يسمع المدفعية والانفجارات بينما يدمر سلاح المهندسين الإسرائيلي حزاما تلو الآخر من المنازل، ونشر العديد منهم مقاطع الفيديو على الإنترنت في لقطات حاولت القوات الإسرائيلية السيطرة عليها.
وفي بعض مقاطع الفيديو، يضحك الجنود الإسرائيليون ويعزفون الموسيقى ويرقصون بينما تدمر عمليات الهدم المتحكم فيها المنازل. واستنكرت جماعات حقوق الإنسان، بما في ذلك منظمة العفو الدولية وخبراء الأمم المتحدة، تدمير الاحتلال للممتلكات المدنية.
وقالت جماعات حقوق الإنسان: ما لم يخدم هذا غرضا عسكريا واضحا، فإن هذه الأفعال قد تنتهك القانون الدولي. وقال جيش الاحتلال إن أفعاله في غزة وجباليا "كانت ضرورية من أجل تنفيذ خطة دفاعية من شأنها أن توفر أمنا أفضل في جنوب إسرائيل".
وزعم أن عملياته في جباليا ركزت على القضاء على ألوية حماس في شمال غزة، وقال البيان: "إن الجيش الإسرائيلي يتخذ الاحتياطات الممكنة لتقليل الأضرار التي تلحق بالبنية التحتية المدنية والسكان المدنيين والإخلاء في الحالات ذات الصلة"، مدعيا أن قواته واجهت أحياء تحولت إلى "مجمعات قتالية تستخدم للكمائن".
ومن داخل جباليا، يتضاعف الرعب بسبب المستوى الكبير للتدمير. وقال أبو غسان إن: أحياء بأكملها سويت بالأرض: الفاخورة والفلوجة وأبو شريف، وقال وسط الانفجارات: "بقيت على الرغم من المجاعة. نحن أهل الشمال نحب هذا المكان، ولكن الوضع أصبح كارثيا: المجاعة والخوف وتدمير كل مبنى".
بعد عشرة أيام من حديثه إلى "فايننشال تايمز"، قالت عائلته إن أبو غسان: استشهد في بلدته الحبيبة بيت لاهيا بغارة جوية إسرائيلية، بين أنقاض شمال غزة الذي رفض التخلي عنها.