عندما تكون النجاة أسوأ من الموت.. كيف عاش الغزّيون سنة تحت الأنقاض؟
تاريخ النشر: 15th, January 2025 GMT
نشرت مجلة "ذا نيشن" الأمريكية، مقالًا، للصحفي محمد مهاوش، يسلّط فيه الضوء على تجربته المريرة إثر قصف منزل عائلته في غزة من طائرات الاحتلال الإسرائيلي في 7 كانون الأول/ ديسمبر 2023، واصفاً لحظات الرعب التي عاشها عند الانفجار الذي دمر منزله.
وقال الكاتب، في هذا التقرير الذي ترجمته "عربي21"، إنه: ظل محاصراً تحت الأنقاض مع زوجته وطفله، وعانى من آلام بدنية ونفسية شديدة لا زالت مستمرة رغم مرور أكثر من سنة على الحادثة.
وتابع أنه: في حوالي الساعة 7:30 من صباح يوم 7 كانون الأول/ ديسمبر 2023، كان صدى خطوات ابنه الصغيرة تتردّد في الرّدهة بينما كان يرتشف كوب الشاي؛ حيث قرر العودة للمنزل في الليلة السابقة، بعد أسبوع من العمل، بعيدًا عن المنزل، وكان يحاول أن يضفي شعورًا بالهدوء بعيدًا عن الفوضى والرعب التي في الخارج، لكن الأمر لم يدم طويلًا.
كان الصوت لا يشبه أي شيء سمعه الكاتب من قبل، انفجار ممزّق ومدوٍ أدى إلى انهيار كل شيء في أجزاء من الثانية؛ لم ير تصدّع السقف أو انهيار الجدران، ولكنه شعر فقط بالوزن الساحق المفاجئ فوقه، لم يكن الأمر أشبه بالسقوط، بل كان أشبه بالاختناق في الأرض، انكمش جسده تحت الحطام، كانت ذراعاه عالقتان وساقاه محاصرتان، وأضلاعه تتحطّم تحت الحواف الحادة.
حاول الكاتب أن يصرخ، لكن صرخته خرجت على شكل حشرجة، شهقة مختنقة مثيرة للشفقة ابتلعها الظلام، احترق صدره من الجهد الذي بذله، لكنه صرخ مرة أخرى مناديًا زوجته وابنه البالغ من العمر سنتين ووالده.
نادى على ابنه: "رفيق!"، وظن لوهلة أنه سمع صوته الخافت الصغير يخترق الظلام: "بابا"، واختلطت مشاعر الارتياح والرعب في صدره. لقد كان ابنه حيًا، لكنه في مكان ما بعيدًا عنه، مدفونًا مثله في الأعماق.
فقد الشعور بالوقت في ضباب من الألم والإرهاق، وامتدت الدقائق إلى ساعات، وتضاءل الهواء، واستقر الغبار في رئتيه، أراد أن يبكي ويصرخ ويشق طريقه لابنه، لكن جسده كان محبوسًا في حالة سكون مؤلمة.
كانت هناك ضوضاء خافتة في مكان ما في الأعلى، صخور تتفتّت وأصوات مكتومة، ربما كان رجال الإنقاذ أو الجيران الذين يحاولون إنقاذهم، كان كل صوت يجلب الأمل واليأس بنفس القدر؛ ماذا لو وصلوا بعد فوات الأوان؟ ماذا لو لم يصلوا على الإطلاق؟.
تسابقت إلى ذهنه صور رهيبة: جسد ابنه الصغير المسحوق تحت الركام، وزوجته المحاصرة وحدها، وكلهم منسيون تحت الأنقاض، ثم غاب عن الوعي.
يروي الكاتب أنه عندما تمكن رجال الإنقاذ من الوصول إليه أخيرًا، كان الضوء ساطعًا يعمي الأبصار، ويخترق الظلام الذي كان مدفونًا فيه لساعات، امتدت إليه الأيدي، وشعر بالأنقاض تتساقط عن جسده كطبقات من الجلد، وكان الألم مبرحًا.
كان أول ما رآه الكاتب هو وجه ابنه، كانت عيناه الواسعتان المليئتان بالدموع تنظران إلى وجه أبيه برعب لم يره من قبل، وكان جسده الصغير مغطى بالغبار، وشعره مغطى بالعرق والأوساخ، لم يكن يبكي بعد الآن؛ فقد كان خائفًا جدًا ويتألم لدرجة أنه لم يكن قادرًا على فعل ذلك.
أراد الكاتب أن يضمه بين ذراعيه حتى لا يشعر أي منهم بالخوف مرة أخرى، لكنه لم يستطع؛ فقد انهارت ذراعاه وساقاه وجسده بأكمله.
حمل المنقذون الطفل ووضعوه بين ذراعي أبيه، الذي شعر بقلبه الصغير يتسارع كقلب طائر محاصر؛ وهمس باسمه محاولًا طمأنته: "بابا هنا"، رغم أن صوته خرج منكسرًا.
لم يكن الكاتب حاضرًا بكامل وعيه في تلك اللحظة، كان جزء منه لا يزال تحت الأنقاض، يختنق في ذلك الظلام اللامتناهي.
نظر الكاتب حوله بحثًا عن زوجته، كان رجال الإنقاذ يحملونها ووجهها ملطخ بالدماء، كانت على قيد الحياة، لكن عيناها كانتا تحدقان دون أن ترمش في المنزل الذي كان يضم ضحكاتهم ونقاشاتهم وخططهم المستقبلية، ولم يبق منه الآن سوى خرسانة محطمة وفولاذ معوج، كانت تبحث عن نفس الشيء الذي كان يبحث عنه الكاتب: الشعور بالأمان.
رفض الكاتب الذهاب حتى يتأكد أنهم وجدوا الجميع، جلس لساعات على الأرض، غير قادر على الحركة، يراقبهم وهم يحفرون بين الأنقاض، ويستخرجون جثثًا هامدة وألعابًا ملطخة بالدماء وقطع أثاث ممزقة، وكأن كل قطعة وجدوها كانت قطعة أخرى يتم انتزاعها منه.
نُقل الكاتب للمستشفى في النهاية، إذ يتذكر همسات الأطباء ووجوههم المتجهمة وهم يعدّدون الكسور، والنزيف الداخلي، والكدمات التي ستستغرق شهورًا حتى تختفي، لكن الضرر الحقيقي لم يكن شيئًا يمكنهم رؤيته أو علاجه.
عانى الكاتب في الأيام التي تلت ذلك ليتحدث ويأكل وينام، وفي كل مرة كان يغمض عينيه، كان يعود إلى تحت الأنقاض، ويختنق بالغبار، ويسمع صرخات ابنه الخافتة، وتوقف عن الكلام تمامًا، ليس لأنه لا يملك الكلمات، ولكن لأنها لم تعد تكفي لاستيعاب ما يشعر به، فكيف تصف شعورك وأنت تشاهد كل ما تحبه يتحول إلى رماد؟.
بعد مرور سنة، غادر الكاتب الآن غزة إلى القاهرة، بعيدًا عن القنابل، لكنه لا زال يسمع صوت الانفجار في أحلامه، وما زال يستيقظ وهو يتصبّب عرقًا، ويحاول التأكد من أن ابني يتنفس بجانبه. لقد شُفيت معظم الندوب الجسدية، لكن الندوب العاطفية لا تزال حية كما كانت يوم حدوثها، يخبره الناس أنه يجب أن يكون ممتنًا، وهو ممتن بالفعل، لكن النجاة ليست كالحياة.
لقد نجا الكاتب وأسرته في ذلك الصباح، لكن العديد من أفراد عائلته الممتدة الذين لجأوا إليهم، وجيرانه الذين عاشوا في شارعه لعقود، والمارة الذين تصادف وجودهم بالقرب من الانفجار: جميعهم سحقهم الانفجار، وتم انتشال جثثهم من تحت الأنقاض بعد ساعات بلا حياة، وأسماؤهم ووجوههم وأصواتهم لا تفارق الكاتب كل يوم، إنهم معه في كل زاوية من عقله.
لم يعد الكاتب يعيش في بيئة مشوّهة بسبب الحرب، لكنه لا زال عالقًا في أنقاض ذلك الصباح، الهواء أنقى، والشوارع أهدأ، لكنه ما زال يستيقظ وهو يلهث كما لو أنه تحت الأنقاض، لا يرتجف الناس حوله من الأصوات العالية، لكنه يرتجف، ومع ذلك يبدو البقاء هنا وكأنه عذاب من نوع خاص؛ حيث تتفقد الأخبار كل صباح، خائفًا من رؤية وجوه مألوفة أو قراءة أسماء مألوفة.
وختم الكاتب مقاله بأن يوم 7 كانون الأول/ ديسمبر الماضي صادف مرور سنة على قصف الاحتلال الإسرائيلي لمنزله، لكنّها ذكرى جُرح لا يزال ينزف في كل مرة يتذكر فيها ذلك الصباح.
واستطرد المقال، يتوقع العالم من الفلسطينيين أن يمضوا قدمًا، وأن يعيدوا البناء، لكنه لا يفهم أن بعض الأشياء لا يمكن إعادة بنائها، وأن بعض الخسائر كبيرة جدًا، وبعض الآلام عميقة جدًا.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة سياسة عربية مقابلات حقوق وحريات سياسة دولية سياسة دولية غزة الاحتلال غزة قطاع غزة الاحتلال المزيد في سياسة سياسة دولية سياسة دولية سياسة دولية سياسة دولية سياسة دولية سياسة دولية سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تحت الأنقاض بعید ا عن لم یکن
إقرأ أيضاً:
إدراج الكاتب محمود الطوخي في مشروع «عاش هنا»
أدرج الجهاز القومي للتنسيق الحضاري برئاسة المهندس محمد أبو سعدة اسم الكاتب محمود الطوخي في مشروع «عاش هنا»، الذي يهدف للاحتفاء برموز مصر الراحلين من المبدعين والمفكرين، وعلق لافتة على منزله الكائن في 59 شارع 3 - سموحة – الإسكندرية.
مسيرة محمود الطوخيووفقا لجهاز التنسيق الحضاري، ولد محمود الطوخي في مدينة الزقازيق وكان والده يعمل إداريا بوزارة الصحة، حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة، انتقل وأسرته إلي القاهرة، حصل على ليسانس الآداب قسم اللغة الإنجليزية من جامعة عين شمس عام 1965.
عمل بالسد العالي في أسوان وهناك شارك في تأسيس فرقة أسوان المسرحية، التحق بالمعهد العالي للفنون المسرحية عام 1968 قسم التمثيل والإخراج، سافر إلى سوريا عام 1969 وهناك أخرج ثمن الحرية لفرقة محافظة السويداء ثم انضم إلى ورشة مسرح الشوك السورية وشارك بالكتابة في أول عروضها الذي يعتبر تاريخيا أول عروض الكباريه السياسي في المسرح العربي.
في عام 1970 حضر إلى الإسكندرية مدعوا من فرقة المسرح الجامعي وقدم من تأليفه وإخراجه عرض (سبرتو على جروح بلدنا)، سافر إلى لندن عام 1972، وأمضى هناك 14 عاما درس خلالها إدارة الفرق المسرحية والإنتاج الفني بأكاديمية ويبردوجلاس، ثم التحق بورشة السيناريست العالمي بادى تشايفسكي لمدة عامين.
عمل معدا ومقدما إذاعيا بالقسم العربي بالبي بي سي كما عمل صحفيا بمجلة الحوادث اللبنانية بعد هجرتها للندن ليصل إلى موقع مساعد رئيس التحرير، في عام 1986 عاد إلى القاهرة والتحق بالمسرح القومي المصري وبدأ يمارس الكتابة بالمسرح والسينما والتليفزيون.
شغل عضو نقابة المهن التمثيلية منذ عام 1981 شعبة التمثيل والتأليف، عضو نقابة المهن السينمائية منذ عام 1987 شعبة السيناريو، تقاعد من عضوية المسرح القومي في مارس 2005 .
مؤلفات محمود الطوخي«غيبوبة»، و«أنا والبنت حبيبتي» و«حظ نواعم»، ومن مؤلفاته في الدراما التليفزيونية: «حكايات زوج معاصر، بنات X بنات، رجل طموح وأيام الحب والشقاوة».