ركن البادية رحلة إلى الأصالة والتراث في ليالي مسقط بمتنزه العامرات
تاريخ النشر: 15th, January 2025 GMT
يبرز "ركن البادية" ضمن فعاليات مهرجان "ليالي مسقط" في إحدى زوايا متنزه العامرات، ليأخذك في رحلة إلى جانب من حياة الأصالة والتراث، حيث تفوح رائحة القهوة العمانية التقليدية التي يصنعها صاحب العزبة صالح بن ناصر السنيدي بمهارة وإتقان، حين يُحمّص البن والهيل على نار هادئة، وسط إشعال الضوء أو النار، مما يضيف جمالاً ودفئاً على المكان لافتةً أنظار الزوار والسياح، حيث تجد البعض يتذوق القهوة بشغف، بينما ينشغل آخرون بتوثيق المشهد البدوي الساحر بالكاميرات، مستمتعين بأجواء المجلس -الذي يعكس كرم الضيافة العمانية- ولشدو الفنون الشعبية العمانية التي يتغنى بها أهل البادية، مستطربين بلحن الربابة الحزين.
كما شهد "ركن البادية" حضورًا لافتًا للمجلس الأدبي للشعر والموروث الشعبي، حيث قدم أبرز الشعراء الشعبين والفنانين لوحات فنية تراثية عكست جمال الموروث العماني، فقد تألق الشاعر محمد بن حميد الحارثي بفن التغرود، بينما أبدع عبيد بن ناصر الحجري في فن الطارج والنشدان (وهو جمع نشيد)، وشارك عبدالله بن عامر الغنيمي بفن الرزحة والتغرود، ليضيفوا أجواء من الحماس والحياة إلى المكان، أما القصائد الشعبية، فقد كان لها حضور مميز بصوت سليم بن مبارك الحارثي، فيما قدم طلال بن سالم الخنجري فن الميدان.
أدار جلسة الشعر والموروث الشعبي الشاعر أحمد بن خلفان الغسيني، الذي ربط بين الفنون التراثية المختلفة، مضيفًا براعته في حفظ الكثير من القصائد التي اقترحها على الشعراء ليستذكروها جميعا وتطرب أذن الحضور.
وأكد ربيع بن ملاح الهديفي، نائب رئيس المجلس الأدبي للشعر والموروث الشعبي، أن المجلس تأسس في عام 2022 وتم إشهاره رسميًا في مارس 2023، ويضم أكثر من 30 عضوًا من الشعراء والإداريين من مختلف ولايات ومحافظات سلطنة عمان الذين يسعون جاهدين لتنظيم وتسيير أنشطة المجلس بما يخدم الموروث العماني ويعزز حضوره.
وأشار الهديفي إلى أن المجلس قد نظم العديد من الملتقيات والفعاليات في معظم ولايات السلطنة، إضافة إلى عقد جلسات شهرية تتناول شروحات موسعة حول العادات والتقاليد والسنن والأعراف العمانية، مما يعكس اهتمام المجلس بالحفاظ على الهُوية الثقافية العمانية، كما يحرص المجلس على جذب جميع الفئات العمرية، حيث تحضر الجلسات الأسر والعائلات من كبار السن والشباب والصغار، بهدف تبادل المعرفة والاستفادة المتبادلة.
وأوضح الهديفي أن من أبرز أهداف المجلس هو إبراز الفنون الشعرية والتراثية العمانية بما فيها الألعاب الشعبية، والبحث عن الشعراء الشعبيين، إضافة إلى التعمق في أعمال الشعراء القدامى بهدف حفظ إرثهم الأدبي، موضحاً أن المجلس يهدف إلى إصدار كتب توثق هذا الموروث الثقافي، لتفادي اندثاره وضمان نقل هذا التراث الثمين إلى الأجيال القادمة.
فمشهد "ركن البادية" في "ليالي مسقط" لا يقتصر على كونه عرضًا ثقافيًا للتراث، بل محطة يوجد فيها الزائر نفسه لصناعة مشهد من الذكريات التي عاشها الآباء والأجداد وتعكس روح الثقافة العمانية الأصيلة.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
صلاح بن البادية- سيرة رائد الحداثة الروحية في الأغنية السودانية
زهير عثمان
صوتٌ يرقص بين الروح والوطن
في فضاء الأغنية السودانية، حيث تتداخل الألحان الأفريقية مع الإيقاعات العربية، وتنحت الكلماتُ مشاعرَ الشعبِ بين ألمِ الحروبِ وبهجةِ الترابِ، يظلُّ اسم صلاح بن البادية علامةً فارقة. لم يكن مجردَ فنانٍ، بل كان ظاهرةً فنيةً جمعت بين العمقِ الروحيِّ والحداثةِ الفنيةِ، فخلقتْ لنفسها مسارًا خاصًا في ذاكرةِ السودانيين. رحلَ الجسدُ، لكن صوته ما زال يُردِّدُ في الأسماعِ: "سالَ من شعرِها الذهبُ... فتدلّى وما انسكبُ".
البدايات: من قرى الجزيرة إلى عرشِ الأغنيةِ
وُلد صلاح بن البادية في منطقة الدبيبة بولاية الجزيرة، حيثُ النيلُ ينسابُ بين الحقولِ الخضراءِ، وحيثُ تُورِقُ الأغاني الشعبيةُ كأشجارِ الطلحِ. نشأ في بيئةٍ تتنفسُ التصوفَ والمدائحَ النبويةَ، فتعلَّمَ من تراتيلِ الزوايا والصوفيةِ كيف تكون الموسيقى صلاةً. انتقلَ إلى أم درمان ليكملَ تعليمَه، وهناكَ بدأتْ موهبتهُ تتفجرُ بين جدرانِ المدارسِ والأحياءِ الشعبيةِ.
في ستينيات القرن الماضي، خطا أولى خطواته الفنية، حاملًا معه روحَ الريفِ السودانيِّ ونبضَ المدينةِ. لم يكن صوته مجردَ آلةٍ موسيقيةٍ، بل كان جسرًا بين التراثِ والحداثةِ، بين الفصحى والعاميةِ، بين الصوفيةِ والعاطفةِ الإنسانيةِ.
"سال من شعرها الذهب": حين يُولد اللحنُ من إيقاعِ القطارِ
لا يمكن ذكر صلاح بن البادية دون التوقف عند تحفته الخالدة "سال من شعرها الذهب"، التي كتبها الشاعرُ أبو آمنة حامد بلغةٍ فصيحةٍ نادرةٍ في الأغنية السودانية، ولحنها الموسيقارُ عبد اللطيف خضر الحاوي (ود الحاوي).
القصةُ التي حيكت حول اللحنِ تُجسِّدُ سحرَ الإبداعِ: في رحلةٍ بالقطارِ من بورتسودان إلى الخرطوم، استوحى ود الحاوي الإيقاعَ من دندنةِ عجلاتِ القطارِ، فسجلَّ اللحنَ على عجلٍ في منزل بن البادية فجرًا، خوفًا من أن يطيرَ الإلهامُ مع أولِ خيطِ شمسٍ.
الأغنيةُ، التي غناها بن البادية بصوتهِ الجهوريِّ الممزوجِ بالحنينِ، تحولت إلى أيقونةٍ. كلماتُها تصفُ جمالَ المرأةِ بلغةٍ شعريةٍ مدهشةٍ:
"سالَ من شعرِها الذهبُ... فتدلّى وما انسكبُ
كلما عبثتْ به نسمةٌ... ماجَ واضطربُ".
لكنها أيضًا كانت قصيدةً في حبِّ السودانِ، حيثُ الذهبُ رمزٌ لثراءِ الأرضِ، والنسيمُ إشارةٌ إلى شوقِ المغتربين.
الحداثة الروحية: حين يصيرُ الغناءُ ابتهالًا
تميز بن البادية بقدرتهِ على تحويلِ الأغنيةِ العاطفيةِ إلى تجربةٍ روحيةٍ. في أعمالٍ مثل "يا زهرة الروض الظليل" و"وا أسفاي"، مزجَ بين الغناءِ الصوفيِ والعاطفةِ الإنسانيةِ، فكان صوتهُ يُشبهُ الدعاءَ.
أسلوبُه اعتمد على:
الانتقاء الشعري الراقي: تعاون مع شعراء كبار مثل أبو آمنة حامد والتجاني حاج موسى، واختار قصائدَ تحملُ طبقاتٍ من المعنى.
التلحين الهادئ العميق: فضلَ الألحانَ التي تتنفسُ برويةٍ، كأنها تيارٌ نهرِيٌّ يلامسُ الشواطئَ.
الأداء المسرحيِّ الوقور: على المسرح، كان يرتدي الجلبابَ الأبيضَ، ويحركُ يديهِ كأنه يُناجي السماءَ.
أغنياتٌ صارت عيونًا: بصماتٌ لا تُنسى
من أبرز أعماله التي شكلت "عيون الأغنية السودانية":
"ليالي الخير": احتفاليةٌ بالأملِ، لحنٌ يرقصُ بين الفرحِ والطمأنينةِ.
"كسلا": قصيدةٌ في حبِّ المدينةِ، غناها وكأنها معشوقةٌ تستحقُ التمجيدَ.
"ردي النضارة": حوارٌ مع الذاتِ عن فقدانِ البراءةِ في زمنِ الحربِ.
في كلِّ أغنيةٍ، كان بن البادية يحفرُ في الذاكرةِ الجمعيةِ للسودانيينَ، ليتركَ نقشًا يقولُ: "هنا مرَّ فنانٌ رأى الجمالَ حتى في جراحِ الوطنِ".
الجدلُ الفنيُّ: عندما اختلفَ العمالقةُ
أثارتْ أغنيةُ "سال من شعرها الذهب" غضبَ الفنانِ الكبيرِ إبراهيم عوض، الذي اعتبر أن ود الحاوي كان يجب أن يمنحَ اللحنَ لهُ بعد تعاونهما الناجحِ في أغانٍ مثل "المصير". لكن التاريخَ أثبتَ أن اختيارَ ود الحاوي لبن البادية كانَ صائبًا، فقد حوّلَ الصوتُ القويُّ والروحُ التأمليةُ الأغنيةَ إلى تحفةٍ خالدةٍ.
الإرثُ: ما بعد الرحيلِ
رحل صلاح بن البادية تاركًا وراءه إرثًا غنائيًا يُدرسُ في كلياتِ الموسيقى، وصوتًا ما زالَ يُعيدُ للسودانيينَ ذكرياتِ زمنٍ كان الفنُّ فيهِ رسالةً وليسَ سلعةً. اليومَ، تُعيدُ الأجيالُ الجديدةُ اكتشافَ أغانيهِ، لا كتراثٍ فحسب، بل كدليلٍ على أن الفنَّ الحقيقيَّ لا يموتُ.
في زمنِ الانقساماتِ، يظلُّ بن البادية رمزًا لوحدةِ السودانِ الثقافيةِ، حيثُ لا فرقَ بين شمالٍ وجنوبٍ، إلا في تنوعِ الإيقاعاتِ التي تجتمعُ تحتَ سماءِ أغانيهِ.
النغمةُ التي صارتْ ترابًا
عندما يُذكر صلاح بن البادية، يُذكر السودانُ بكلِّ تناقضاتِه: جمالُ الأرضِ وقسوةُ الحروبِ، غنى الثقافةِ وفقرُ السياسةِ. كانَ صوتُه مرآةً لهذا التناقضِ، لكنه اختارَ أن يُغني للجمالِ رغمَ الجراحِ. اليومَ، وبعد رحيلِه، صارتْ أغانيهِ جزءًا من ترابِ السودانِ، تُنبِتُ كلما مرَّ عليها مطرُ الذاكرةِ.
رحم الله صلاح بن البادية، فقد كان نغمةً صادقةً في سماءِ الفنِّ السودانيِّ.
zuhair.osman@aol.com