ظهر رئيس النيجر المعزول محمد بازوم رفقة وفد من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا "إيكواس"، خلال لقاء بالعاصمة نيامي السبت.

وبدا بازوم المحتجز من قبل قادة الانقلاب، سعيدا بلقاء وفد "إيكواس"، بعدما أمضى طيلة الفترة الماضية محتجزا في أحد السجون.

واستقبل المجلس العسكري الذي نفذ الانقلاب، وفدا من "إيكواس" رغم أن الأخيرة أعلنت تحديدا موعدا غير معلن، لبدء هجوم عسكري على نيامي بهدف إعادة بازوم إلى السلطة.



والتقى بازوم بالوفد الذي ترأسه القائد العسكري النيجيري السابق عبد السلام أبو بكر وضم رئيس مفوضية إيكواس عمر توراي.

وكتب عبد السلام أبو بكر على منصة إكس، (تويتر سابقا)، "بعد الاجتماع.... مع (قائد المجلس العسكري) الجنرال عبد الرحمن تياني، زار وفد إيكواس أيضا الرئيس محمد بازوم في النيجر هذا المساء". ولم يفصح عن تفاصيل المحادثات ولا نتائجها.

Former Nigeria’s Military Head of State, Gen Abdulsalami Abubakar has said that ousted Niger President Mohamed Bazoum told the delegation of the Economic Community of West African States delegation the challenges he has faced since he was detained by the military junta led by… pic.twitter.com/faXV3GzzNJ — Imran Muhammad (@Imranmuhdz) August 20, 2023 VIDEO: ECOWAS Delegation Meets Imprisoned President Bazoum In Niamey pic.twitter.com/O2CutbMkqn — Intel Region (@IntelRegion) August 20, 2023
انفتاح على الحوار
برغم عدم إصدار المجلس العسكري أي تعليق حتى الآن على زيارة وفد "إيكواس"، ولقائهم بالرئيس بازوم، إلا أن قائد المجلس عبدالرحمن تياني أبى انفتاحا على الحوار.

وقال تياني في خطاب تلفزيوني إنه لا قادة الانقلاب ولا "شعب النيجر يريدون الحرب ويظلون منفتحين على الحوار".

وحذر من أن النيجر مستعدة للدفاع عن نفسها إذا تطلب الأمر. وأضاف "إذا تم شن عدوان ضدنا، فالأمر لن يكون مثل النزهة في الحديقة كما يعتقد البعض".

في الوقت نفسه قال تياني إن المجلس العسكري يطبق أجندته الخاصة وسيطلق حوارا وطنيا للتشاور حول الانتقال إلى الديمقراطية وهو "ما لا ينبغي أن يستغرق أكثر من ثلاثة أعوام".

موقف الجزائر
قدمت الجزائر موقفها مجددا بشأن الانقلاب في النيجر، إذ قالت إنها على قناعة بأن "الحل التفاوضي السياسي لا يزال ممكنا لاستعادة النظام الدستوري والديمقراطي في النيجر".

جاء في ذلك بيان لوزارة الخارجية نقله التلفزيون الرسمي، عقب إعلان قادة جيوش المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا "إيكواس"، المجتمعين الخميس والجمعة، في غانا، تحديد موعد التدخل العسكري في النيجر، دون الكشف عنه.

وقال البيان: "في الوقت الذي تزداد فيه ملامح التدخل العسكري في النيجر وضوحا، تأسف الجزائر بشدة لإعطاء الأسبقية للجوء إلى العنف عوض مسار الحل السياسي والتفاوضي الذي يسمح باستعادة النظام الدستوري والديمقراطي بشكل سلمي في هذا البلد الشقيق والجار" .

وأضاف أن "الجزائر تظل فعلياً على قناعة قوية بأن هذا الحل السياسي التفاوضي لا يزال ممكناً، وبأن السبل التي يمكن أن تؤدي إليه لم تُسْلك كلها بعد، وبأن كل فرصه لم تُسْتَنْفَد بعد".

واستدلت الخارجية الجزائرية على رفضها للتدخل العسكري بـ "تاريخ المنطقة الذي يشهد بصفة قطعية أن التدخلات العسكرية قد جلبت المزيد من المشاكل بدلاً من الحلول، وأنها شكلت عوامل إضافية لتغذية الصدامات والانقسامات عوض نشر الأمن والاستقرار".

ومنذ 26 تموز/يوليو الماضي، يحجز ما يسمى المجلس للوطني لحماية الوطن بالنيجر الرئيس بازوم وأفرادا من عائلته بعد عزله عن الحكم وتعليق العمل بالدستور.

وكرد على تلويح مجموعة "إيكواس" بالتدخل العسكري، أعلن قادة الانقلاب في النيجر، التجنيد التطوعي لمواطني البلاد.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة مقابلات النيجر بازوم إيكواس النيجر نيجيريا إيكواس بازوم سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة المجلس العسکری على الحوار

إقرأ أيضاً:

17نوفمبر 1958 وبروش البكا: ثورة الجهادية على الملكية (3-3)

في إعادة النظر في عقيدة أن انقلاب 17 نوفمبر 1958 كان تسليماً من عبد الله خليل واستلاماً من الفريق عبود

17نوفمبر 1958 وبروش البكا: ثورة الجهادية على الملكية (3-3)

عبد الله علي إبراهيم

(أعيد هنا نشر ثلاثة فصول من كتابي ". . . ومنصور خالد" (2018) أعدت فيها النظر في ذائعة أن انقلاب 17 نوفمبر 1958 كان مجرد عملية "تسليم وتسلم" بين عبد الله خليل رئيس الوزراء (أو حزبه) للجيش. وهي ذائعة أفسدت ذوقنا في تحليل ذلك الانقلاب، بل تعدى ذلك إلى بؤس تحليلنا لما بعده من انقلابات. وساق هذا إلى نظريات في الانقلاب غاية في الكآبة و"قدر ظروفك". اطلعت في هذا النظر المجدد إلى أدبيات مجهولة أو مهملة. منها "تقرير لجنة تقصي الحقائق عن انقلاب 17 نوفمبر"، وكتابات الرفيقة روث فيرست عن ذلك الانقلاب في كتابها عن الانقلاب في أفريقيا، وكتاب ب بختولد في السياسة السودانية، وكتاب وليد الأعظمي عن الوثائق البريطانية عن السودان، وكتابات لجعفر حامد البشير قريب الصلة باللواء، وأخرى لمحمد أدروب وعصام ميرغني. وسعيت لدار الوثائق الأمريكية بماريلاند لأتحقق من ذائعة أن الأمريكان من كانوا من وراء الانقلاب التي هي رواية الشيوعيين).

للفريق عبود، مذكرات نشرها في كتاب الوعد ببيروت في 1959 روى فيها كيف ترعرع الانقلاب في جوانح نفسه. يريد به إنقاذ الشعب الذي رنا لقواته المسلحة من تخبّط الأحزاب وفوضاها. وقال فيها إن قادة الجيش، الذين أزعجهم تهافت الاستقلال، أخذوا يجتمعون بصورة سرية للعثور على حل، لتردي البلاد في الفوضى. وذكر يوماً حاسماً من تلك الأيام هو 16 مارس 1958 اجتمع فيه بمنزله بالضباط وحلفوا المصحف ألّا يبوح أحدهم بسِرِّ ما انطووا عليه. وكان في ذلك اللقاء ميلاد المجلس الأعلى للقوات المسلحة كأداة الحكم المرتقب للعساكر. وتوالت اجتماعات الضباط بمكتبه ليلاً، مرتين في الأسبوع، لتدارس الأوضاع السياسية وتدبير سبل خلاص للشعب من سوء الحكم. وقال إن لقاء المكاتب أفضل من لقاءات البيوت المثير للشبهة. فمفهوم أن يكون القادة بمكاتبهم متى شاءوا. وقال عبود إن خبرته في الصيد قد علمته أن من مكمنه يؤتى الحَذِر. وقال إنه كان يسمع شكاوى الناس من الحكام وهو، الذي أضمر لهم الخير، صامتٌ، لا يطلعهم على مكنونه قائلاً في نفسه: "إننا سننقذكم، إننا لن نترككم: إنني لا أطمع في حكم، ولا أريد مركزاً. كل ما أريده سعادة شعب ونهضة أمة". وقال إن انقلاب 17 نوفمبر وليد تلك الاجتماعات.
تشوب هذه المذكرات، كما لا يخفى، لغة الإعلام التي يكتسب فيها القادة المتجبرون حين خلا لهم الجو مزايا بالتقادم وادّعاءات المنتصر. ولكنها تدعونا لمراجعة تسليمنا الورع بأن البِيْه أو الساسة هم الذين أوحوا للضباط "المحترفين الزاهدين" في السياسة بانقلاب 17 نوفمبر. فقد اتفق لنا أن الجيش كان خلواً من السياسة حتى وسوس له وسواس الساسة في أذنه بها. ومن القائلين بنظرية خلو الجيش من السياسية، عصام الدين مرغني في كتابه “الجيش السوداني والسياسة" (2002). فهو يرى أنه، بخلاف تمرد الفرقة الجنوبية في 1955، كان الجيش احترافياً قائماً بما أمره به الدستور. وأنه لم ترصد أي جهة وجود نشاط سياسي أو عمل تنظيمي سري يهدف إلى التدخل ضد النظام الديمقراطي الشرعي والاستيلاء على السلطة. ولكنه عاد لاحقاً، وبسرعة، في الكتاب لينقض غزله عن براءة الجيش عن السياسة. فلم يكن بوسعه بالطبع تجاوز مشروع الرائد يعقوب كبيده الانقلابي في1957 في سياق السياسة المصرية الوحدوية، ولقاءات الصاغ صلاح سالم، عضو مجلس قيادة الثورة المصرية، به. وقد جرى تعقُّب كبيدة والقبض على عناصر انقلابه قبل وقوعه. وقد جرى التحقيق في الملابسات وتمت إحالة كبيدة وجعفر نميري ومحمود حسيب وعوض أحمد خليفة للاستيداع.
من المؤمنين بنظرية براءة الجيش من السياسة هذه الصحافي عثمان ميرغني. فقد قال مستنكراً من يزعم أن الفريق عبود انتزع السلطة بانقلاب عسكري. فالساسة، في قول عثمان، هم الذين ذهبوا إليه في القيادة العامة في غمرة نزوات صراعهم السياسي، ورجوه، وبكوا له، وقالوا له من أجل الوطن خُذ السلطة. فلم يكن عبود سياسياً ولا طالباً للسلطة. وعليه لم يكن الجيش لما تولى السلطة خائناً لقسم بلاده ولا صياداً للسلطة بما أنعم اللهُ عليه من عافية القوات المسلحة. وتخلّق مثل شاطحة عثمان السياسية هذه وأصبحت حدوته خرافية عذبة على يد الروائي الطيب صالح بما رزقه الله من الخيال الطليق. قال الطيب: "كان عبود على سِنِّ التقاعد يريد أن يقضى بقية العمر يتعبّد ويأنس بصحبة الرجال من سِنِّه. فجاءه الضباط وقالوا له نعمل ثورة، وأنت قائدها. وقال لهم الله يهديكم أنا وصلت سِنّ المعاش. وقَبِل على مضض، وحكم البلد بلا نفس؛ شغل روتين. وكان يلقي بعض الخُطب بلا قناعة ولا حماسة ترد فيها. مثل إننا سنضرب بيدٍ من حديد. ويوم سمع "يسقط عبود الطاغية" جمع جماعته وقال لقد قلتم لي إن الشعب معنا وما هو معنا كما هو واضح. وتحسّر على سنوات ضاعت لم يقضِها في هناءة المعاش يحكم من ظنهم معه وهم ليسوا معه. وانزوى. وقام ضابط آخر بثورة، فهتف الناس في الأسواق "يعيش عبود البطل". الشعوب أمرها عجيب، وهذا الشعب من أعجب الشعوب". وربما احتجنا للعلم الدقيق بانقلاب عبود لأجل أن نهبط من حالق الطيب صالح إلى حقائق التاريخ. فعبود (أو مَنْ دبَّج له سيرته الرئاسية آنفة الذكر) متفق مع الطيب في جانب أنه لم يكن يطمع في الحكم. ويختلف مع الطيب في أنه لبَّى نداء الوطن أصالة عن نفسه، لا وكالة عن غيره. لم ينهض بالأمر بعد استجداء الضباط بل قاد الضباط لإنقاذ الوطن من براثن الساسة.
كنتُ حدستُ في كلمةٍ سبقت أن انقلاب الضباط على عبد الله خليل البِيْه في اجتماعهم يوم 18 نوفمبر ربما دلَّ على أنهم استقوا خطة الانقلاب من عدة مصادر. ولم تكن دعوته لهم للاستيلاء على الحكم سوى سانحة لم يفرطوا فيها. وقارئ تقرير لجنة التحقيق في الانقلاب الصادر في 1965 يجد بسهولة أنه كان هناك مشروعان لصورة الحكم تنافسا في سياق الانقلاب. فقد كان البِيْه يريد بالانقلاب أن يملي على منافسيه المدنيين شروطه للحكومة القومية التي اتجهت الأنظار إليها كالحَلِّ الأمثَل لمأزق الحكم في أواخر 1958. فقد خطط البِيْه ليفرض الجيش مجلس سيادة ومجلس وزراء بقوائم متفق بها معه. وكان سيناريو الضباط، من الجهة الأخرى، أن يعسكروا الانقلاب جملة واحدة. فحتى خلال حوار الضباط مع البِيْه، أو بين أنفسهم قبل الانقلاب، وضح أنهم يميلون إلى استلام السلطة كاملة حتى لا يُدمَغوا بالحزبية. وقد كانت الخطتان موضع مدارسة اجتماع 18 نوفمبر. وحسم الضباط الأمر بإنشاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة بديلاً عن مجلس السيادة. وعينوا مدنيين بالوزارة لم يراعوا فيهم خيارات البِيْه. وعدَّ البِيْه هذا غدراً من الضباط، وظل يذكره لهم حتى مماته.
مكرُ الجهاديين هذا على الملكيين دليلٌ على أن رغبتهم لحكم البلاد لم تنشأ بإيحاء البِيْه وحده كما جرى الاعتقاد. فلم يكن بوسع الجيش ألّا يختلط بنابل السياسة. ولم يكن بوسع ضباطه أن يصمُّوا آذانهم عن جاهها وسلطانها منحاً ومنعاً. فقد أقلقَ الجهادية من مَلَكية الحركة الوطنية، الذين تولوا الحكم الذاتي في 1954، أشياء بدا لهم بها أنهم ربما ظلموا الجيش أو تجاهلوه في قسمة السلطان. فقد روى الأستاذ جعفر حامد البشير طرفاً من هذا الصراع الملكي الجهادي. وكان لجعفر علاقة باللواء أحمد عبد الوهاب منذ الأربعينات ببندر-قرية الدامر ثم الخرطوم. وقد وصفه بأنه ممن يستمتع بالحوار ويشارك فيه متى انعقد المجلس. وقد تحدث جعفر إليه في الجنوب بعد أن أخمد تمرد 1955. وشكا اللواء لجعفر انصراف الحكومة الوطنية عن العناية بوضع الجيش ومخصصاته وتوفيق أوضاع ضباطه من حيث المرتب والسكن والمكاتب. وقال إنهم يجدون أنفسهم في الكفة الخاسرة متى قارنوا أنفسهم بضباط الجيوش العربية الذين احتكوا بهم. وقال لجعفر إنهم سينقلون مظالمهم لمجلس السيادة والوزراء عن طريق وزير الدفاع. لكنهم بحاجة إلى دعم من الصحافة. وقد وقف جعفر، المحرر بصوت السودان، مع مطلب الضباط بمقالات كان اللواء قد زوده بنقاطها المهمة. وقد وجدت اهتمام الحكومة وأسعدت الضباط وعلى رأسهم عبود الذي اتّصل بجعفر وشكره لأن الحكومة سرعان ما استجابت لهم.
ولا يستبعد المرء أن تكون ثقة الضباط في كفاءة الملكية في الحكم قد تدنَّت بعد الحوادث العنيفة الدموية التي عصفت بالبلاد خلال فترة الحكم الذاتي. مثل حادثة "تمرد" الأنصار في مارس 1954 وتمرد الفرقة الجنوبية في 1955. وهي مواجهات استدعت استنفار الجيش أو ألقت به في المعمعة. وقال الأستاذ محمد أدروب أوهاج إن اللواء محمد نصر عثمان حدَّثه فقال إن الضباط استشعروا عجز الحكومة المدنية منذ 1955 وهو عام أحداث الجنوب، وراودتهم أفكار أن يحكموا البلد هم. وقد حظي اللواء أحمد عبد الوهاب بقصيدة "فتى الدامر" من البروفسير عبد الله الطيب لدوره المشهود في إخماد تمرد 1955:
ألا حي فتى الدامر ليث الغابة الشهما
وفتيان الدفاع الغاسلين العار والضيما
ألا قل لنساء الحيِّ زغردن ولا إثما
تبرجن كما شئتن إنّ النصر قد لاحا
وهي من ديوانه الأول أصداء النيل (1957). وقد أزعجت الناس شائبة العنصرية في بعض لغته. وكتب المرحوم جوزيف قرنق كلمة عنها في جريدة "الميدان". وقد أعاد عبد الله الطيب النظر في أجزاء منها في الطبعة الثانية.
انتقال الضباط من حومة الوغى إلى حومة البرلمان والحكومة طريق سالك جربناه مراراً وتكراراً خلال سني حرب الجنوب الأهلية. ولهذه الهجرة مشابه حتى في النظم الديمقراطية الثابتة. فقد ترشح دانتي فاسيل للكونغرس الأمريكي وفاز وأصبح رئيس لجنة العلاقات الخارجية به من 1984 إلى 1992. وكان فاسيل قد حارب في جبهة شمال أفريقيا في الحرب العالمية الثانية. ولما سألوه لماذا يريد أن يصبح نائباً بالكونغرس قال: " إذا كان قدر الرجال الأمريكيين أن يُبعث بهم إلى الحرب فأنا أريد أعرف جلية الأمر من وراء هذا المبعث وأن أكون جزءاً من عملية اتخاذ مثل هذا القرار."
ما يستحق أن نأخذه بشيء من الجد هو أن هؤلاء الضباط كانت لهم ذاتية سياسية بدرجة ربما غابت منا لشدة سيطرة فكرة "التسليم والتسلم" علينا. ولا أجد تبريراً لانقلابهم على البِيْه، الذي نزعم أنه وليُّ فكرتهم، في الساعات الأولي لذلك الانقلاب إلا احتمال أن كان لهؤلاء الضباط تدبيرٌ طارف أو تليد للاستيلاء على الحكم. ولا تتفق الروايات على متى بدأ الضباط العظام في التفكير في الانقلاب. فالعميد أحمد مجذوب البحاري يقول "إن تفاكرهم حول الانقلاب اتخذ شكل دردشة مع القائد العام ورفاقه في زيارة قام بها للخرطوم قبل أغسطس 1958". وقال العميد أحمد عبد الله حامد "إن العقيد حسين على كرار جاءه في الأبيض وجس نبضه عن الانقلاب". ومن الجدير بالذكر أن حسين كان قد عاد لتوه من بعثة من مصر. وربما ألهمته الخلطة بعسكر مصر وصولجانهم شيئاً عن الجيش والحكم. ودور حسين في انقلاب 17 نوفمبر يستحق نظراً مستقلاً. فعلاوة على ما سبق، عيَّنوه بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة وسكرتيراً له بلا أقدمية فأثار حفيظة العميد عبد الرحيم شنان والعميد محي الدين أحمد عبد الله كما سنرى في الفصل القادم.
كان في حكم المستحيل ألا تدرك الضباطَ السياسةُ في وقتٍ كانت السياسة قد اقتحمت عليهم صحن الثكنات. فقد أزعجَ الضباط الكبار خاصة تحركات صغارهم للاستيلاء على الحكم. فقد قال حسين على كرار للجنة التحقيق في الانقلاب إن السياسة كانت قد تمكنت من الجيش وكان الانقلاب هاجساً للكل. وبدا أن الجميع متفقون أنه مما لابد منه. وقد شرع الصاغ كبيدة فيه لولا أنه كُشف. ولكن ما انقسم الضباط حوله حقاً هو من الأولى بالقيام بالانقلاب. فالصاغات (الرواد) من جهة أرادوا أن يقوموا هم به بينما كانت الرتب الأعلى تريد أن يكون التحرك بأمر القائد. وشعر كبار الضباط كأنهم في حالة سباق مع صغارهم لبلوغ السلطة بالانقلاب. وورد في تحقيق اللجنة أنه إذا ما عملوها الكبار سيعملها الصغار. وكان أشد ما يدفع الرتب العليا لفكرة الانقلاب واستلام السلطة لوقت معلوم هو منع صغار الضباط من عملها. وكان أحمد عبد الوهاب في شهادته أمام لجنة التحقيق شديد الاقتناع بأن الخطر هو بالحق في الضباط الصغار. فقد بلغته، وهو قائد حامية أم درمان، وشاية من صف ضابط عن تحركات انقلابية باكرة لكبيده في 1957. فتعقبه وألقى عليه القبض وقدمه للمحاكمة. ولم يكف صغار الضباط من التفكير في الانقلاب. وكانت تصِل لجنة الأمن تقارير مخابراتية ودبلوماسية عن خطط مصرية لانقلاب تدارستها مع عبد الله خليل البِيْه.
وربما استقى الضباط وحي الانقلاب من سياسية بروش البكاء. وهي سياسة للشكوى والطنطنة وتَمَنِّي الخلاص. وهذه البروش ساحة لسياسة يسودها شبقٌ إلى العنف. فأنت تسمع من يقول: "والله لو حكمت البلد دي ساعة واحدة ما أخلي فيها سياسي حايم". وغالباً ما انتهى التفريج النفسي فيها بقولهم: "الله يولي من يصلح غايتو"؛ ولم يكن ثمة حاجز بين الضباط وعامة الناس يحول بينهم وبين هذا الضجر بكساد الديمقراطية والشوق للعدل. وأطلَّت بيوت البكيات برأسها حتى في سياق أقوال عسكر 17 نوفمبر. ففي تقرير لجنة التحقيق القصير نسبياً قال اللواء أحمد عبد الوهاب "إنه كان هناك من يسألونه في مثل هذه اللقاءات، أين جيش البلاد من هذه الفوضى الضاربة في البلد؟" وقال اللواء حسن بشير إن النداء للانقلاب ترعرع في "تذمر الشوارع وبيوت البكيات". وكان الناس يريدون لبلدهم طائفة من الإنجازات تلك التي سمعوا أن الانقلابات في بلاد أخرى قد عادت بها للشعب. وقد رد عصام الدين ميرغني هذه التوقعات من الجيش إلى "بريق الانقلابات الأفريقية والعربية". فقد قال حسين على كرار إنه جاء من بعثة من مصر ووجد مناخاً للانقلاب يريد به الناس تدخُّل الجيش لينعموا منه بما نعم به شعب مصر في عهد حكم الجيش. وهذا هو العميد كرار مشغول بالانقلاب للمرة الثانية.
ربما كُنَّا قد بسَّطنا مسألة انقلاب 17 نوفمبر كثيراً بنظرية التسليم والتسلم. وبدا السياسيون الملكيون بها أنهم هم من همس بالانقلاب لجهاديين محترفين لا شاغل لهم بالسياسة. ومن أفدح ما ترتب على هذا التبسيط التاريخي أن راجت فكرة أن الانقلاب هو ثمرة مريرة لإفسادنا الديمقراطية. وعليه، فالديكتاتورية العسكرية، هي الحكومة التي استحققناها بجدارة كما في تحليل الدكتور منصور خالد لانقلاب 17 نوفمبر كما سنرى.

ibrahima@missouri.edu  

مقالات مشابهة

  • المجلس العسكري في مالي يعين رئيسا جديدا للوزراء.. من يكون؟
  • مالي في أزمة.. المجلس العسكري يفشل في الالتزام بخطة انتقال السلطة
  • لم يتحملوا الانتقادات.. المجلس العسكري في مالي يقيل رئيس الوزراء
  • لم يتحملوا الانتقادات.. المجلس العسكري في مالي يقيل الرئيس شوغل كوكالا مايغا
  • انتقد الجيش.. المجلس العسكري في مالي يقيل رئيس الوزراء
  • محافظ الجيزة وقائد قوات الدفاع العسكري يشهدان الندوة التثقيفية الـ 16 للمدارس
  • 1 ديسمبر.. مجلس الكنائس العالمي يعقد جلسة في جنيف لمناقشة تعزيز الحوار بين الأديان
  • 17نوفمبر 1958 وبروش البكا: ثورة الجهادية على الملكية (3-3)
  • شاهد بالفيديو.. قائد بارز بالدعم السريع يشغل منصب رئيس القطاع العسكري يظهر وهو مرعوب ومتوتر ومدققون يؤكدون بتر يده
  • 17 نوفمبر 1958: بالأصالة أم بالوكالة (2-3)