أوقفوا الاعتداءات الوحشية على سُكّان الكنابي
تاريخ النشر: 15th, January 2025 GMT
الأكثر بشاعة في هذه الحرب القذِرة، المشتعل أواراها في بلادنا، هو أنّ الشرائح الأضعف من المدنيين هي التي دفعت الثمن الباهظ والأكثر فداحة لها. فالذين يُعتبر النزوح على مرارته ترفاً بالنسبة لهم، والذين لأسباب تاريخية معلومة لكلِّ إنسانٍ مُنصف لم يحظوا بشبكة العلاقات الاجتماعية التي توفِّر لهم ملاذات آمنة تنتشلهم من براثن الحرب، هم الذين أصبحوا فريسة سهلة لسادية حملة السلاح الذين يتساءلون بعُنجُهِية جوفاء عن سبب بقائهم في أماكن سكنهم، ويربطون ذلك بمنطق أخرق بمساندتهم لأحد طرفي الصراع.
إنّ ما تعرّض له سُكّان الكنابي العُزَّل من مقتلة هو وصمة عار في جبيننا جميعاً كسودانيين. ويضرب، بكُلِّ مزاعمنا المُتكرِّرة عن سماحتنا وطيبتنا وحُسن إسلامنا وشخصيتنا السودانية المُتفرِّدة بين الأمم، عُرْض الحائط. وهو وأيّ انتهاك وعدوان مماثل له على المدنيين العُزَّل يجب أن يكون مداناً بأوضح العبارات، وبقلبٍ دامٍ وحسرة كبرى على ما آل إليه الحال في بلادنا.
هذه المقتلة في أحد جوانبها، هي استمرار للظُلم التاريخي الذي حاق بأبناء المُكوِّنات الاجتماعية التي وقع عليها نير الاسترقاق في الماضي، ولإفرازاته العُنصرية كمفهوم "الوجوه الغريبة" التي ظلّت تلاحقهم وتنخر في الجسد السوداني دون أن تكون لدينا الحكمة أو الشجاعة للاعتراف بها ومعالجتها. لم يتوقّف أحد على ما يبدو ليسأل نفسه فيما إذا كان السكن في مثل تلك الأحياء البائسة من سُكّانها اختياراً، فسُكّان الكنابي في معظمهم ينتمون إلى المُكوِّنات المذكورة. وهذا هو الأمر الذي جعل البعض يستسهل انتهاك حقوقهم دون خشية كبيرة من المُحاسبة، وبالطبع دون وازعٍ إنساني داخلي. وقد دلت التجارب التعيسة في هذا العالم المأزوم أنّ تجريد الناس من إنسانيتهم هو على الدوام الخطوة الأولى للفتك بهم.
زعم البعض بأنّ من بينهم من هم ليسوا بسودانيين، وكأنّ ذلك هو التفسير الطبيعي لما يحدث لهم. وهو زعم وَاهٍ وبَيِّن الهشاشة إن لم نقل السخْف، وذلك من وجهين. فمن ناحية، فإنَّ قوانين وأجهزة الدولة الرسمية المُختصّة وليس الأفراد هي التي تُحدِّد من هو السوداني، ومن ناحية أخرى، لا شيء يُبرِّر بأيِّ صورة من الصور قتل المدنيين بغض النظر عن جنسيتهم.
في نطاق إسهامها المحدود أصلاً في تنمية البلد ككل، أهملت الدولة السودانية "المُستقلّة" بالكامل تقريباً القاطنين، من أبناء المكونات الاجتماعية المذكورة، في أطراف المدن، حيث لا كهرباء ولا مياه نظيفة تصلهم ولا مدارس لأبنائهم. ولعل واحداً من أوضح المناظر الموجعة في سودان ما قبل الحرب، والتي لم تُحرِّك ساكناً في أحد، هو رؤية الأطفال الصغار في أطراف معظم هذه المدن وهم يجرجرون أرجلهم كلّ صباح في رحلة مُضنية إلى المدارس المُقامة في الأحياء الأخرى البعيدة عنهم.
قرات، ولا أعلم مدى صِحَّة ذلك، أن أحدهم، في مَعْرِض التحريض على سُكّان الكنابي، قال إنّها فقط محض أماكن لصناعة الخمور. مثل هذا الشخص لا تؤرِّقه على ما يبدو، أفعال القتل والتعذيب والتفريط بأمن وسلامة البلد وأهله وسرقة المال العام والفساد الضارب أطنابه أينما اتّجه النظر، بقدر ما يزعجه قيام البعض بالاستعانة على هذا النوع من الحياة البائسة بما تقع مسؤوليته في الأساس بينه وبين خالقه.
محمد حامد الحاج
melhaj@gmail.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
حريق في قلب الوطن- جرائم الكنابي وتصدع اللحمة الاجتماعية في السودان
جرائم الكنابي وخطورتها على اللحمة الاجتماعية في السودان
فتح السودان صفحة جديدة من الألم والفجيعة، حيث كشفت الأحداث المروعة التي جرت في مدني، وتحديدًا في كمبو خمسة، عن بشاعة تتجاوز حدود التصور. جرائم القتل، الحرق، والتمثيل بالجثث التي ارتُكبت، ليست فقط دليلاً على انهيار منظومة القيم الإنسانية، لكنها أيضًا ناقوس خطر يُهدد اللحمة الاجتماعية في السودان.
جرائم الكنابي.. مأساة الفقراء والمهمشين
شهدت أحداث كمبو خمسة حرقًا للبيوت وقتلاً بدم بارد، وذبحًا للضحايا بطريقة وحشية تفتقد أدنى درجات الإنسانية. هذه الجرائم طالت سكان الكنابي، وهم فئة مهمشة عانت لعقود من التمييز والتهميش داخل السودان. على الرغم من الأدوار المهمة التي يلعبها سكان الكنابي في الزراعة والاقتصاد المحلي، إلا أنهم يعيشون في ظروف بائسة، محرومين من الخدمات الأساسية، ومحاطين بثقافة تنظر إليهم بازدراء.
الثقافة العنصرية وخطرها على النسيج الاجتماعي
ما حدث في مدني يعكس عمق الثقافة العنصرية في السودان، التي لا تقيم وزنًا لقيم التعايش والاحترام المتبادل. هذه الثقافة ليست وليدة اللحظة، بل هي إرث طويل من السياسات التهميشية والتمييز الاجتماعي والاقتصادي، الذي أسس له النظام القديم واستمر بطرق مختلفة حتى اليوم.
تُظهر هذه الجرائم أن السودان بحاجة ماسة إلى مراجعة جذوره الاجتماعية والسياسية لإعادة تأسيس دولة تحترم جميع مواطنيها، بغض النظر عن العرق أو الانتماء الاجتماعي.
الإهمال السياسي والتواطؤ
إن ما جرى في مدني يفضح أيضًا تقاعس القوى السياسية عن أداء دورها. صمت النخب السياسية حيال هذه الجرائم يعكس إما عجزًا أو تواطؤًا مع المنظومة العنصرية التي تستهدف المهمشين.
القوى التي كانت تدعي حمل لواء الثورة، لم تُدن الانتهاكات المروعة في كمبو خمسة بعد دخول الجيش والمليشيات المسلحة. بل أظهرت ازدواجية صادمة عندما وصفت ذلك بأنه "نصر"، متناسيةً أن النصر الحقيقي يكمن في حماية المدنيين وصون كرامتهم.
السودان الجديد هنالك ضرورة التأسيس من جديد
أحداث كمبو خمسة أكدت الحاجة إلى بناء سودان جديد، سودان يتجاوز العنصرية، الجهوية، والاستغلال الطبقي. يجب أن يكون هذا التغيير شاملًا وعميقًا، ويشمل- محاسبة مرتكبي الجرائم لابد وضع العدالة وهي حجر الأساس لإعادة اللحمة الاجتماعية. يجب تقديم مرتكبي جرائم كمبو خمسة إلى المحاكمات العادلة.
إعادة هيكلة الدولة من المهم جدا القضاء على الأنظمة التي تكرّس التمييز والتهميش.
تعزيز التعايش السلمي ومن خلال التعليم والتوعية المجتمعية بأهمية قبول الآخر والتنوع الثقافي.
دعم المناطق المهمشة توفير خدمات التعليم والصحة والبنية التحتية لسكان الكنابي وغيرهم من الفئات المهمشة.
إن السودان أمام مفترق طرق. جرائم الكنابي ليست مجرد حادثة عابرة، بل هي انعكاس لأزمة وطنية تهدد بتمزيق نسيجه الاجتماعي. على المجتمع السوداني أن ينهض لمواجهة هذه التحديات، وأن يعمل على بناء دولة المواطنة التي تُعلي من قيمة الإنسان بغض النظر عن خلفياته.
لقد أثبت التاريخ أن الشعوب القادرة على مواجهة أزماتها بصدق وعدالة هي الشعوب التي تبني مستقبلًا مشرقًا. فهل سيختار السودان طريق العدالة والمصالحة؟ أم سيبقى أسيرًا للعنصرية والانقسام؟
zuhair.osman@aol.com