لجريدة عمان:
2025-01-15@03:20:08 GMT

استشراف التكنولوجيا وضرورات صناعة المستقبل

تاريخ النشر: 14th, January 2025 GMT

كشفت استطلاعات الرأي لخبراء التكنولوجيا في نهاية العام الماضي (2024م) بأن هناك أربع تقنيات سوف تقود العالم، وترسم معالم التنمية الاقتصادية، والحياة الاجتماعية على مدى العقد القادم، وهي: الذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمومية، وسلاسل الكتل، والبيولوجيا الاصطناعية، والتقانة الأخيرة تمثل نقطة فارقة؛ فالتقنيات الأخرى تبدو بديهية مع صعود الذكاء الاصطناعي، وابتكارات البيانات والحواسيب، ولكن وجود البيولوجيا الاصطناعية في طليعة التقنيات الواعدة يعكس نشوء اتجاهات جديدة في حدود مستقبل التكنولوجيا والابتكار، وهذا ما برهنت عليه النجاحات المتواصلة التي حققتها الشركات العلمية القائمة على البيولوجيا الاصطناعية مؤخرًا، والتي جعلت منها واحدة من أسرع الابتكارات نموًا، وأوفرها حظًا من التمويل في مجال التكنولوجيا الحيوية التجارية، فهل حان الوقت لتوظيف الاستشراف التكنولوجي كأداة ضرورية في صناعة مستقبل الاستثمار في التطوير التكنولوجي؟

في البدء، تعالوا نتوقف عند أهم محطات نشوء الاستشراف التكنولوجي في دوائر التخطيط الاستراتيجي، وصناعة القرارات المتعلقة بمجالات العلوم والتكنولوجيا والابتكار، سنجد أن اليابان قد بادرت في سبعينيات القرن العشرين إلى وضع نظام مؤسسي لتحليل الفرص التي تواجه العلوم والتكنولوجيا والابتكار على المستوى الوطني، والتي عرفت آنذاك باسم «برنامج توقعات التكنولوجيا»، وقد كان الهدف منها تعزيز مكانة اليابان اقتصاديًا وصناعيًا عبر التحول من مجرد مقلد للابتكارات الغربية إلى اقتصاد رائد، وخاصة في مجال توظيف ابتكارات تكنولوجية في الإلكترونيات، والصناعات ذات الصلة بالتقنيات المتقدمة، وقد كان لبرنامج توقعات المستقبل أثره الإيجابي في صناعة السياسات الصناعية طويلة الأمد، وكذلك في توليد الوعي الجماعي بشأن إمكانيات المعرفة والابتكار في تعزيز تموضع الصناعة اليابانية، وإكسابها القيادة المبتكرة على المستوى الدولي، وبالفعل تم استنساخ التجربة اليابانية في ثمانينيات القرن الماضي، وتم تطوير وإطلاق برامج وطنية طموحة مماثلة في كندا والعديد من الدول الأوروبية التي كانت اقتصاداتها تعد فعليًا متأخرة عن الولايات المتحدة الأمريكية المتربعة على عرش التطوير التكنولوجي، ومنذ نهاية التسعينيات، تم استخدام مصطلح استشراف التكنولوجيا للإشارة إلى مجموعة الأدوات والمنهجيات المتعلقة بالتخطيط والاستشراف المستقبلي، والتي يتم توظيفها لدعم عملية اتخاذ القرارات المتعلقة بأولويات تطوير المعرفة العلمية، واغتنام الفرص التكنولوجية.

وإذا عدنا إلى التكنولوجيات الأربع التي سوف توجه ابتكارات المستقبل، وأخذنا البيولوجيا الاصطناعية كمثال، سنجد أن مواكبة هذه التكنولوجيا وتطبيقاتها الكثيرة في قطاعات الاقتصاد القائم على العلوم الحيوية بحاجة إلى وجود الأطر الفاعلة لدعم التحول في الاهتمام والتركيز الاستراتيجي نحو بناء الكفاءات العلمية في التخصصات الهندسية ومجالات التقنية الحيوية، وتمويل الجهود البحثية والتطويرية المتعلقة بالمعرفة والتقانة التطبيقية، وتعزيز جاهزية القطاعات الإنتاجية والصناعية ورفع قدرتها على استيعاب مخرجات الابتكار في البيولوجيا التركيبية والجزيئية، ثم توجيه الاستثمار فيها كأولوية في الاختيار بين عدد من الخيارات التكنولوجية الأخرى، وهنا تظهر أهمية تطوير وإطلاق برامج الاستشراف التكنولوجي لدعم منظومات الابتكار الوطنية، حيث إن التغييرات التكنولوجية المتسارعة قد نقلت الكثير من الأدوار التقليدية لبرامج الاستشراف التكنولوجي على المستوى الوطني، وأصبح استشراف مستقبل الاتجاهات التكنولوجية متاحًا عبر جهود المجتمع العلمي الدولي، وبقيت مجموعة أخرى من الأدوار المهمة التي يجب أن تضطلع بها البرامج الوطنية لاستشراف التكنولوجيا.

فمن الناحية العملية، يمثل الاستشراف الاستراتيجي للتكنولوجيا جزءًا لا يتجزأ من علوم المستقبل، وهو بذلك يعد أحد أهم مسرعات بناء الميزة النسبية لمنظومات الابتكار الوطنية، حيث يمكن أن تساهم مخرجات الاستشراف في تعريف نقاط الضعف الجوهرية في أداء منظومة الابتكار، وتمكين نقاط القوة فيها، وبناء مسارات متوازية لمواكبة المستجدات العلمية العالمية، ورفع الأداء مع الاحتفاظ بالمزايا التنافسية المحلية، وذلك من أجل ضمان التحول المتوازن في توظيف التكنولوجيات الرائدة دون وجود احتمالات التقليد البحت لأفضل الممارسات، وعلى نحو مماثل، فإن التطور الكبير في منهجيات الاستشراف الاستراتيجي قد ساهم في تعظيم فرص الاستفادة من المدخلات والمؤشرات والتحليلات التي يمكنها إتاحة رؤى أكثر عمقًا في اتجاهات المستقبل، وهذا ما عزز من أهمية إطلاق برامج الاستشراف التي تقوم على خلق نقاط القوة الوطنية في منظومات الابتكار، وذلك عبر مواءمة الاستثمار في منظومات الابتكار الوطنية مع الأجندة الوطنية الأوسع.

وفي سياقات النمو الاقتصادي الرامي إلى تحقيق التوازن بين قوى جذب السوق خارجياً، وقوى الدفع الداخلية التي تفرضها الابتكارات التكنولوجية الناتجة عن الجهود التطويرية المستمرة للمؤسسات المنتجة للمعرفة والتقانة، وهنا يأتي الدور الأساسي لبرامج الاستشراف الوطنية وهو تحديد أولويات البحث والتطوير والابتكار ذات المدى الطويل، وتعريف التقنيات المبتكرة التي يمكن أن تشكل مستقبل الاقتصاد، وعلى الرغم من أن منهجيات الاستشراف الاستراتيجي في الأساس هي تنبؤية وتحليلية، إلا أن مخرجاتها تمثل أهم أدوات توجيه عملية اتخاذ القرارات الحاسمة، ومع إدماج الأساليب الكمية التي تعتمد على البيانات الضخمة، وكذلك أدوات النمذجة والمحاكاة، فقد أصبح من الممكن الآن تحليل عدد براءات الاختراع العلمية، وكذلك المنشورات، والشركات الناشئة التي تركز على تقنيات محددة، بالإضافة إلى آراء الخبراء لتعزيز الفهم الشامل للفرص الاستراتيجية على المستوى الوطني والإقليمي.

إن استشراف التكنولوجيا هو الجزء الأكثر أهمية في إنتاج وتطوير التكنولوجيات الحاسمة لدعم الجهود التنموية، وتشكيل سياسات التعليم، والتدريب، والتصنيع، ودعم القطاعات الاقتصادية الوطنية عبر المسارات الأوسع نطاقًا من مجرد التنبؤ بالاتجاهات الكبرى، أو الابتكارات الرائدة، وإنما بتحديد التطورات التكنولوجية التدريجية التي يمكنها معالجة تحديات الأجندات الاستراتيجية، وتلبية الاحتياجات الآنية والمستقبلية، ويفرض ذلك وجود برامج وطنية لتوجيه عملية استشراف التكنولوجيا، بحيث لا تهدف بشكل أساسي إلى الاستفادة من التقنيات المبتكرة لتحقيق الميزة النسبية كغاية في حد ذاتها، إذ تمتد أهدافها المحورية لتشمل المحافظة على التركيز الاستراتيجي للاستثمار طويل الأمد في البحث العلمي والتطوير التكنولوجي والابتكار، حيث يتعلق الأمر كذلك بتعريف المجالات التي يجب عدم هدر الموارد في الاستثمار فيها، ولذلك صارت عملية استشراف التكنولوجيا أكثر أهمية من أي وقت مضى، وأصبح التقدم التكنولوجي يُنظر إليه على أنه عملية استراتيجية يمكن صناعتها بالتخطيط السليم والمتوازن، وليست نتاجًا لجهود غير متوقعة من عباقرة العلوم والتكنولوجيا.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الاستثمار فی على المستوى

إقرأ أيضاً:

الإسلام الوسطي.. يرفد معاني الابتكار والإبداع

كان لزاماً علينا كأمة عظيمة ترسيخ ثقافة الإبداع والابتكار واحتضان المواهب وخلق بيئة نموذجية، واستثارتها وتحفيزها وتشجيعها، كي تبرز مقدرتها على البذل والعطاء للوطن، بغية تعزيز مكانتها بين الأمم، ونفض الغبار عن معانٍ خلاقة في حضارتنا. طريقة تديننا المعتدلة خبت وتلاشت، ونحتاج إلى إحيائها بحيث تعيد أمجادنا، وتضعنا في الصدارة، لخلق عصر ذهبي ثانٍ من الابتكارات والإنجازات، وتحفيز الآخرين الاهتداء بمسلكها.

البشريّة مدينة إلى حدٍّ كبير للإسلام

وأدركت حكومتنا الرشيدة أنّ "الريادة والتميز" في الابتكار والاختراع والاكتشاف، لا غنى عنهما لحياة الإنسان المعاصر، ولا بُد منهما عند التخطيط للحاضر والمُستقبل، عبر حزمة من الأفكار الخلّاقة تحرّك الماء الراكد لمفهوم الابتكار الإسلامي الذى كان يوماً ما مصدراً تقتات منه أوروبا. وكان الإسلام- الوسطي- ومازال يرفد معاني الابتكار وقيمه من خلال مناهل الثقافة الإسلامية الخصبة، وكان محرّكاً قويّاً للابتكار العلمي، فالبشريّة مدينة إلى حدٍّ كبير للإسلام، والبحث الجاد في مختلف جوانبها وميادينها، ما أفضى إلى ظهور مجموعة من الاختراعات الهائلة. وكانت أمّتنا منذ بزوغ حضارتنا في عهد نهضتها الفكرية والعلمية قد ترسخت فيها قيم القرآن في البحث والتفكر والتأمل والتبصر والاعتبار الخ، فإذن كيف لا تصبح أمّة (اقرأ والقلم) مبتكرة ومبدعة؟! أضحت معارف المسلمين وعلومهم تتماشى مع قيم الإسلام وإيمانياته في النفع العام للبشرية، لاسيما أن التاريخ مليء بالإنجازات الحافلة بالنابغين والمخترعين، على سبيل المثال لا الحصر، علماء الكيمياء "جابر بن حيان" والطبيعة "الحسن بن الهيثم" والطب "الرازي والزهري" وعالم الرياضيات وعالم الفلك "الخوارزمي " والهندسة والتصميم، وإنشاء المباني العالية المهندس المعماري "العثماني سنان" وفي مجالات النقد والتاريخ والعلوم الفكرية والفلسفة والمنطق، فكان هناك ابن رشد وابن سينا والكندي والفارابي، والجاحظ وغيرهم، وكانت بغداد العاصمة الإسلامية تحت الخلافة العباسية (750-1258)، تعدّ بمنزلة المركز العالمي للعلماء، وأخيراً وليس آخراً عدّت القمة العالمية للاقتصاد الإسلامي 2013 بمنزلة ابتكار عالمي.

دولة الإمارات العربية المتحدة حينما ترسخ قيم الاكتشاف والبحث إنما تريد بذلك أن ترسّخ مبدأ يقوم في جوهره على فكرة شغف الدولة قيادة وحكومة وشعباً بـ"الرياده والتميز"، وتعزيز المركز التنافسي في الأسواق العالمية، وخلق خدمات حكومية نوعيّة ومبتكرة، هذا ما تؤكّده كثافة البرامج والمبادرات التي أطلقتها مؤسّسات اتحاديّة ومحليّة وذات نفع عام، حيث اعتمدت على الحلول الإبداعية والمبتكرة في نطاقات عملها الحكومي كلّها انسجاماً مع الاستراتيجية الوطنية للابتكار، وإحياء أفكار ذات ألمعيّة فذّة أطلقها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله.

فالإمارات تعيد حضارة الإسلام في الابتكار، من خلال تبنّي خطط ومشروعات متكاملة لتحفيز الأفكار والمقترحات الإبداعية وتطبيقها، وتهدف إلى أن تكون من أكثر الدول ابتكاراً في العالم، من خلال العمل المبدع الذى يسبقه تفكير مبتكر، وتبنّي منهجيّة للابتكار، لتصبح رؤيتها الجديدة «مؤسسات الدولة في المجالات كلّها: مستدامة ومبتكِرة على مستوى عالمي»، لا يوجد نموذج واحد للابتكار الذي لا يقتصر مفهومه أو تعاطيه على الجهات المختصة بالعلوم الطبيعية والاقتصاد والتكنولوجيا أو التقنية إلخ، وتماشياً مع الخلق والإبداع اهتمت المحافل والوزارات الثقافية كلّها في تفعيل الأدوار الإبداعية الخصبة في مجالات الرواية والشعر النثر ..الخ ، بغية تفعيل أفضل المعايير والممارسات العالمية في مجالات الابتكار، والوصول إلى تطبيق استراتيجية الدولة، لأنّ المعطيات الحضاريّة والقدرات الجبارة للأمم لا يمكن أن تبرز في مناخ يخيم عليه الروتين والتقليد والنمطية في التفكير، فكلّها آفات تسهم بالتدريج في نخر بنيان النهضة والعمران..

في هذا السياق، لا بد من الاعتراف بأنّ ثقافة الاختراع والابتكار لا يمكن أن تنجح وتُقدم ما هو مرجوّ منها، إلّا إذا عمّت الحرية واستتب الأمن والأمان في الأوطان، ما كان يحدث هذا الإنجاز لولا أهمية الدور الذي تقوم به دولة الإمارات العربية المتحدة وقيادتها الرشيدة ونجاح تجربتها في محاربة الإرهاب، ومجابهة للفكر الديني الضال وتطويقه، وقمع التطرّف والتشدد، ودعم المؤسسات الدينية الوسطية، والخطاب المعتدل الذي به لا بغيره أصبحت دولتنا الحبيبة في مصاف أفضل دول العالم المتقدم.

مقالات مشابهة

  • «صناعة النواب» تناقش طلبات إحاطة بشأن إزالة المعوقات أمام الصناعة الوطنية وزيادة الإنتاج
  • "القومي للمرأة" ينظم الاجتماع الوزاري الاستراتيجي للشراكة بين مصر والأمم المتحدة
  • صناعة النواب تفتح ملف إزالة المعوقات أمام الصناعة الوطنية وزيادة الإنتاج
  • الإسلام الوسطي.. يرفد معاني الابتكار والإبداع
  • عضو الغرفة التجارية بكفر الشيخ: المخزون الاستراتيجي من القمح يكفي 4 أشهر
  • تعزيز الابتكار واستكشاف الفرص الواعدة في قطاع التعدين
  • صناعة النواب تناقش غدًا الإجراءات القانونية لحماية الصناعة الوطنية
  • 200 طالب وطالبة يتنافسون في ملتقى الابتكار الأول بالشرقية
  • خبيران: صنّاع المحتوى المستقلون قادة المستقبل