هل يمثّل المهاجرون من ذوي المهارات العالية مشكلة؟
تاريخ النشر: 14th, January 2025 GMT
بدأت التصدعات داخل ائتلاف الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، الذي يرفع شعار «لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى» تظهر قبل المتوقع. فبحلول نهاية شهر ديسمبر، كان جناح أصحاب المليارات في قطاع التكنولوجيا يخوض حربا مفتوحة مع جناح «لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى» المناهض للهجرة حول برنامج التأشيرة الأمريكي H-1B، والذي يُـمَـكِّـن الشركات الأمريكية من توظيف نحو 600 ألف أجنبي ماهر سنويا على أساس مؤقت.
متحدثا باسم أصحاب المليارات، يزعم إيلون ماسك، الرئيس التنفيذي لشركة تيسلا (أحد كبار أرباب العمل الذين يمنحون تأشيرة H-1B، أن «نقص المواهب الهندسية الممتازة حالة دائمة. وهو العامل المحدد الأساسي في وادي السيليكون». على نحو مماثل، يزعم فيفيك راماسوامي، وهو ملياردير آخر في قطاع التكنولوجيا يقدم المشورة لترامب، أن الشركات الأمريكية تحتاج إلى عمال برنامج التأشيرة H-1B لأن «ثقافتنا الأمريكية كانت لفترة طويلة للغاية (منذ تسعينيات القرن العشرين على الأقل، وربما لفترة أطول) تبجل الرداءة على التميز». في الرد على هذا، ساق نشطاء من جناح لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى، مثل لورا لومر وستيف بانون ــ ولكن أيضا بعض الاشتراكيين الديمقراطيين مثل بيرني ساندرز ــ حجة مضادة مفادها أن البرنامج يساعد الشركات الأمريكية الكبرى على حساب العمال الأمريكيين. تُـرى أي الجانبين على حق؟ في حين توضح الأبحاث الاقتصادية أن المهاجرين يجلبون المهارات المطلوبة والدينامية الإبداعية والمعرفة النافعة التي تساعد أيضا المبدعين المحليين، فإن هذا لا يعني أن الاعتماد الشديد على تأشيرات H-1B لا يخلو من جانب سلبي. على سبيل المثال، تتجاهل الحجة التي تزعم أن برنامج H-1B يساعد أصحاب العمل في تأمين مهارات «العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات» حقيقة مفادها أن المؤسسات التعليمية الأمريكية كانت لتستشعر قدرا أعظم من الضغوط من جانب الشركات لحملها على تلبية هذه الحاجة في حال غياب مثل هذا البرنامج. تعود فكرة النخب التي تدفع النظام التعليمي إلى إنتاج عمال يتمتعون بمهارات ومواقف مفيدة على الأقل إلى كتاب سام بولز وهيرب جينتيس المؤثر الصادر عام 1976 بعنوان «التعليم المدرسي في أمريكا الرأسمالية». بتطبيق حجتهما على الحاضر، يتوقع المرء أن تُـتَـرجَم حاجة الشركات الأمريكية المتزايدة إلى عمال مهرة في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات إلى الدعوة إلى الاستثمار في تعليم العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات. لكن الإفراط في الاعتماد على برنامج تأشيرات H-1B ربما كسر هذه الصلة وجعل النخب الأمريكية غير مبالية بإخفاقات نظام التعليم الأمريكي المعترف بها على نطاق واسع. بعبارة أخرى، قد لا تكمن المشكلة في التبجيل الثقافي للرداءة، كما زعم راماسوامي، بل في الإهمال من جانب قادة الأعمال، والنخب الفكرية، والسياسيين. هذا مجرد احتمال، بطبيعة الحال. فلا نستطيع أن نجزم بأن الاستجابة من جانب نظام التعليم ستكون كافية حتى لو استشعر مزيدًا من الضغوط من جانب مجتمع الأعمال. ولكن أيا كانت الحال، فمن المؤكد أن صناع السياسات في الولايات المتحدة ينبغي لهم أن يولوا المزيد من الاهتمام للتأثيرات الثانوية التي قد تترتب على هذا البرنامج. تنطبق حجة مماثلة على الاختيارات المرتبطة بالتكنولوجيا. فحتى برغم أن العمال الحاصلين على التأشيرة H-1B يعززون الإبداع، فإن وجودهم قد يؤثر على الاتجاه الذي يتخذه الإبداع. وتُظهِر أعمالي شخصيا (نظريًا وتجريبيًا) أن الاختيارات التكنولوجية تبدأ في تفضيل مثل هؤلاء العمال عندما يزداد المعروض من العمالة الماهرة. على مدار العقود القليلة الأخيرة، تبنت الشركات بشكل متزايد تكنولوجيات تفضل العمال من ذوي المهارات العالية وتعمل على أتمتة المهام (تشغيلها آليا) التي كان يؤديها عمال أقل مهارة في السابق. وفي حين أن هذا الاتجاه ربما كان مدفوعا بعوامل أخرى أيضا، فإن توافر العمال من ذوي المهارات العالية بتكلفة معقولة لصناعة التكنولوجيا ساهم في ذلك بشكل معقول.
مرة أخرى، يعكس هذا التأثير اللامبالاة من جانب قادة الأعمال وصناع السياسات. كما يشير إلى أن صناع السياسات، إذا كانت الولايات المتحدة ستعتمد على العمال من حاملي التأشيرة H-1B، يتعين عليهم النظر في تعديلات أخرى لضمان سعي الاستراتيجيات المؤسسية وتصميمات التكنولوجيات الجديدة إلى الاستفادة من عمال لا يمتلكون مهارات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات أو يحملون شهادات جامعية.
السؤال الأخير ذو الصلة هو ما إذا كانت برامج مثل التأشيرة H-1B من الممكن أن تضر بالدول المصدرة من خلال خلق هجرة العقول. وهذا أيضا مفتوح للنقاش. فقد تكون مثل هذه البرامج مربحة للجانبين إذا كانت اقتصادات الوجهة تمتلك التكنولوجيات والمؤسسات وعمالا مهرة آخرين يكملون بشكل خاص المهاجرين من ذوي المهارات العالية. في هذه الحالة، سيسهم عامل هندي يتمتع بمهارات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات بدرجة أكبر في الناتج العالمي أو الإبداع بوجوده في الولايات المتحدة مقارنة بوجوده في الهند، ويتدفق قدر من المعرفة العلمية والفنية الإضافية المنتجة إلى الوطن. الواقع أن بعض الأدلة تشير إلى أن مثل هذه التبادلات المعرفية تحدث الآن بالفعل من خلال شبكات عِرقية عابرة للحدود.
لكن هذا السيناريو المربح للجانبين لن يحدث إذا غادر كل العمال المهرة والمبدعين تقريبا بلد المصدر، فبهذا لن تتحقق الكتلة الحرجة من العمال المتبقين الذين يمكنهم الاستفادة من تدفقات المعرفة. علاوة على ذلك، لكي يصبح هذا السيناريو المربح للجانبين حقيقة واقعة، يجب ألا يصل تبادل المعرفة حول الإبداعات الجديدة والخبرة الفنية إلى ذلك النطاق أو الوتيرة التي تقوض ميزة أمريكا النسبية (والتي تمتد جذورها إلى الإبداع). في الأدبيات الاقتصادية، تُـسـتَـكـشَف هذه القضية عادة في سياق دورات التكنولوجيا والمنتجات. وفي حين لا نملك حاليا سوى قِـلة من الأدلة حول ما يشكل تدفقا أسرع مما ينبغي للمعلومات، يعتقد بعض المراقبين أن الصين استفادت على نحو غير ملائم في هذا الصدد، حيث عملت على تحسين تكنولوجياتها بسرعة على حساب الشركات الغربية. يعتمد سيناريو الفوز للجميع بالتالي على بقاء أعداد كافية من العمال المهرة في كل بلد مصدر، وعلى الحماية الدولية الكافية لحقوق الملكية الفكرية، حتى يتسنى للمبدعين جني المكافآت من مساهماتهم، لفترة من الوقت على الأقل. يثير النقاش الدائر حول التأشيرة H-1B داخل تحالف «لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى» بقيادة ترامب بعض الأسئلة المهمة حول الكيفية التي ينبغي للولايات المتحدة أن تفكر بها في التعليم والتكنولوجيا في اقتصاد المعرفة العالمي المتزايد الخضوع للعولمة. الواقع أن الأمر ينطوي على تكوينات من الممكن أن تعود بالفائدة في نهاية المطاف على الاقتصادات المتقدمة والبلدان الأكثر فقرا على حد سواء. ولكن يتبقى لنا أن نرى ما إذا كنا لنعثر عليها على مدار السنوات الأربع المقبلة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: العلوم والتکنولوجیا والهندسة والریاضیات الشرکات الأمریکیة من جانب
إقرأ أيضاً:
المهاجرون الأفارقة ومخاطر التوطين في ليبيا
وسط المناكفات السياسية والاتهامات بالتخطيط لتوطين المهارجين الأفارقة في ليبيا، فإن ملف الهجرة غير الشرعية يشكل تحديا كبيرا للدولة والمجتمع الليبي، ليس في ذلك أدنى شك، فأعداد المقيمين في ليبيا من الوافدين الأفارقة يتجاوز المليونين، وهؤلاء جلهم إن لم يكن كلهم دخلوا البلاد بصفة غير قانونية، وبرغم اشتغال الكثير منهم في أعمال السخرة والنشاطات المهنية الضرورية لليبيين، إلا أن أوضاع الكثير منهم ترتب تبعات أمنية واجتماعية كبيرة.
موضوع التوطين حاضر في الذهن الأوروبي، وكان ولا يزال خيارا مطروحا تم التحدث عنه صراحة، وقد قوبل بالرفض القاطع خلال السنوات الماضية من الجانب الليبي، إلا إنه يمكن أن يكون خيار الأمر الواقع في ظل التدافع الراهن والظروف التي تفرضها نفسها وتجعل من "واقعية" التوطين خيارا يراهن عليه الأوروبيون.
منذ التوقيع على مذكرة التفاهم بين إيطاليا وحكومة الوفاق الوطني في مطلع فبراير العام 2017م، وأعداد المهارجين المقيمين في ليبيا في ازدياد، فالاتفاقية تتأسس على تقديم دعم أوروبي لليبيا لتقوم بمهمة منع تسلل المهاجرين غير النظاميين إلى الشواطئ الإيطالية واعتراضهم الزوارق التي تقلهم والعودة بهم إلى الأراضي الليبية، وتقضي مذكرة التفاهم بتأسيس مركز ملاحي تعاوني، وتقديم زوارق ومعدات الاعتراض، والتدريب للفرق الليبية لإتقان هذا العمل.
موضوع التوطين حاضر في الذهن الأوروبي، وكان ولا يزال خيارا مطروحا تم التحدث عنه صراحة، وقد قوبل بالرفض القاطع خلال السنوات الماضية من الجانب الليبي، إلا إنه يمكن أن يكون خيار الأمر الواقع في ظل التدافع الراهن والظروف التي تفرضها نفسها وتجعل من "واقعية" التوطين خيارا يراهن عليه الأوروبيون.المذكرة حققت بعض أهدافها بالنسبة لإيطاليا والاتحاد الأوروبي، ذلك أنه تم اعتراض عشرات الآلاف، وربما أكثر، من المهاجرين، منذ الشروع في تنفيذ الاتفاق، حتى أن المذكرة واجهت انتقادات حادة من المنظمات الحقوقية العالمية التي اتهمت إيطاليا والاتحاد الأوروبي بالمساهمة المباشرة في تعريض المهاجرين لانتهاكات خطيرة تمارس ضدهم في ليبيا من قبل من وصفتهم بالمليشيات والجهات الأمنية المسؤولة عن هذا الملف.
الاتحاد الأوروبي في تصعيد دائم في إجراءاته للحد من وصول المهاجرين إلى شواطئ دول الاتحاد، وطرد من يقيمون هناك بصفة غير قانونية، وتناقش مؤسساته التشريعية والتنفيذية سياسات جديدة غايتها تسريع عملية ترحيل المهاجرين غير النضاميين ومن طلبوا اللجوء في دول الاتحاد وتم رفض طلباتهم. المقترح الذي يتم تداوله في أروقة الاتحاد هو فتح المجال لـمراكز الإرجاع "return hubs" للبلد الثالث، وإلزام جميع الدول بمضامينه، حتى أن أمر ترحيل صادر عن إحدى دول الاتحاد الـ 27 يلزم جميعها بتنفيذه، واعتماد هذا المتقرح سيعزز تكديس المهارجين في بلد مثل ليبيا والاتجاه إلى توطينهم بأي شكل من الأشكال، وذلك أمام الفشل في نقلهم إلى بلدانهم، والإخفاق في وقف التدفق الهائل صوب أوروبا عبر الأراضي الليبية.
أمام هذا التوجه الأوروبي، ومستوى الاستجابة والامتثال الليبي، فإن النتيجة هي تضاعف أعداد المهاجرين في الأراضي الليبية، فالسلطات الليبية ليست لها إدارة فاعلة تركز على إعادة المهاجرين غير النظاميين إلى بلدانهم، بل إن الجهود متواضعة جدا حتى في حصرهم وتحديد ظروفهم العامة بما في ذلك أوضاعهم الصحية، وتحديد مناطق وجودهم وإقامتهم، والانتقال بمن ترغب السلطات في بقائهم إلى وضع أفضل وتحويلهم إلى فئة العمالة الوافدة من خلال تقنين أوضاعهم.
ولهذا فالتحدي خطره في ازدياد، خاصة في ظل الظروف السياسية والأمنية التي تحد من سلطة الدولة الليبية وهيبتها، ومع الضغوط والسياسات غير المقبولة التي يفرضها الاتحاد الأوروبي، والمعاملة القاسية التي واجهها الكثير منهم على يدي من توروطوا في استغلالهم ممن يحسبون على السلطات المعنية بإدارة الملف، فإن المهارجين غير النظاميين قد يتحولوا إلى قنبلة موقوتة.
الجديد المقلق هو تطور موقف بعض من يحسبون على النخب والمتدخلين الأفارقة في هذه القضية، إحياء للقومية القائمة على العرق الأفريقي، والدعوة لاستعادة بلدان شمال القارة من قبل ذوي البشرة السمراء، وهذا برغم أنه موقف محدود إلا أنه قد يكون الشرارة التي تلهب الوضغ، وقد يؤسس لسلوك عنفي مؤدلج، وهنا قد تتحول الاضطرابات التي تجددت في مناطق عدة في تونس وليبيا من قبل المهاجرين غير النظاميين الأفارقة إلى ما هو أخطر.
المطلوب أن لا تتحول قضية المهارجين إلى ورقة سياسية محلية للتكسب وتعزيز النفوذ أو أن تكون مادة للنيل من الخصوم، وأن يتم التعامل معها بحزم وفاعلية ضمن رؤية وخطة تأخذ في الاعتبار كل المعطيات الحاضرة والتداعيات المستقبلية، وغير ذلك فإن "الهم الليبي" سيتعاظم أكثر بتعاظم أزمة المهاجرين غير النظاميين في البلاد.