من قلعة نزوى لقصر العلم.. لقاء إعلامي يبرز ملامح تطور سلطنة عمان
تاريخ النشر: 14th, January 2025 GMT
اختتم سلطنة عمان أمس الاثنين اللقاء الإعلامي الذي يحمل عنوان "عُمان والعالم"، والذي نظمته وزارة الإعلام، احتفالا بالذكرى الخامسة لتولي السلطان هيثم بن طارق مقاليد الحكم. وكانت للمشاركين في اللقاء جولة عبر معالم بارزة في السلطنة.
وجمع اللقاء الإعلامي بين نخبة من الصحفيين والإعلاميين من مختلف دول العالم، وذلك ضمن الجهود المستمرة لتعزيز التفاعل الثقافي والإعلامي بين السلطنة والدول الأخرى، وإبراز الإنجازات الوطنية والتراث العريق الذي تمتاز به عمان.
وخلال اللقاء قدمت السلطات العمانية رؤية شاملة حول التطورات التي تشهدها البلاد في مختلف المجالات، مع تسليط الضوء على المشروعات الوطنية الكبرى والجهود الرامية لتحقيق التنمية المستدامة وفق رؤية عمان 2040. كما كان من أهداف الفعالية لتعزيز الشراكات الإعلامية مع المؤسسات الدولية.
ويقول رئيس تحرير مؤسسة الأهرام المصرية ماجد منير إن عمان "تشهد نقلة نوعية في جهودها التنموية"، مشيرًا إلى "البيئة الجاذبة التي تخلقها السلطنة للاستثمارات في القطاعات الواعدة"، وأضاف منير أن السياسة الخارجية العمانية "تُعبر عن التزامها بالسلام والاستقرار والعلاقات الإيجابية مع مختلف دول العالم".
جانب من لقاء عدد من الإعلاميين مع مسؤولين في الحكومة العمانية (الجزيرة)وبعد يومين من اللقاء الإعلامي المفتوح بين كبار المسؤولين العُمانيين ونخبة من الصحفيين العالميين داخل أروقة القاعات، انطلق المشاركون للقيام بزيارات ميدانية وحضور فعاليات ثقافية تسلط الضوء على أهم المعالم التاريخية والحضارية في عمان، ما منح الزوار تجربة تعكس عمق التراث والتقدم الحضاري الذي حققته للسلطنة.
إعلان استكشاف التراثوشملت الجولة مدينة نزوى التاريخية، التي تُعتبر رمزًا للإرث الثقافي العماني. يزور الإعلاميون قلعة نزوى الشهيرة التي تعكس القوة الدفاعية والهندسة المعمارية العمانية التقليدية وبراعتها.
وتُعد قلعة نزوى إحدى أبرز المعالم التاريخية والثقافية في سلطنة عمان، بُنيت في القرن السابع عشر الميلادي على يد الإمام سلطان بن سيف اليعربي، لتكون رمزًا للقوة والدفاع، ومركزًا للحكم والإدارة خلال فترة الإمامة اليعربية.
وتتميز القلعة بتصميمها الفريد الذي يعكس الطراز المعماري العماني التقليدي، وأبرز ما يميزها برجها الدائري الضخم، الذي يُعد الأكبر من نوعه في عمان، حيث يبلغ ارتفاعه حوالي 24 مترًا وقطره 43 مترًا. ويتميز البرج بجدرانه السميكة التي صُممت لتحمل الهجمات، مع فتحات لرمي السهام والماء المغلي.
جانب من قلعة نزوى من أبرز المعالم التاريخية والثقافية في السلطنة (غيتي)وكانت القلعة تُستخدم لأغراض دفاعية وعسكرية، حيث شكّلت خط الدفاع الأول للمدينة ضد الغزوات. كما كانت مركزا إداريا وسياسيا يُدير شؤون المنطقة، وتضم غرفا للإمام والمسؤولين، بالإضافة إلى مخازن للمؤن والأسلحة.
سوق نزوىبُنيت القلعة بالقرب من سوق نزوى ومسجد نزوى الكبير، ما يعكس أهميتها في حماية النشاط التجاري والديني للمدينة. كما يُوفر موقعها المرتفع رؤية بانورامية للمدينة والمناطق المحيطة بها، مما يجعلها نقطة مراقبة استراتيجية.
كما تتضمن الزيارة سوق نزوى التقليدي الذي يقع بجانب قلعة نزوى التاريخية، حيث تتاح للصحفيين فرصة لاستكشاف الحرف اليدوية العمانية والمنتجات المحلية مثل الفضيات، النسيج، والفخار. ويُعد سوق نزوى واحدًا من أبرز الأسواق التقليدية في سلطنة عمان، يتميز السوق بطابعه المعماري التقليدي الذي يعكس الهوية الثقافية والتراثية للمنطقة، ويُعد نافذة حية على الماضي العماني.
سوق مطرح القديم يوصف بأنه من أجمل الأسواق الشعبية في البلاد (غيتي)ويجمع السوق بين أروقة واسعة وأزقة ضيقة تضج بالحياة، حيث تعرض فيه منتجات متنوعة تشمل الحرف اليدوية العمانية مثل الخناجر المزخرفة والمجوهرات الفضية والفخار المصنوع يدويًا، إلى جانب المنتجات الغذائية المحلية كالتمور والعسل.
إعلانكما يشتهر السوق بقسمه الخاص لبيع المواشي والأسماك، مما يعكس دوره كمركز اقتصادي محلي. ويشهد سوق نزوى اهتمامًا كبيرًا من أبناء الولاية الذين يحرصون على الحفاظ على نشاطه وتراثه، ليبقى رمزًا للتجارة التقليدية ومصدرا للفخر الثقافي العماني.
متحف تاريخيواستمرت الجولة بزيارة متحف "عمان عبر الزمان"، الذي يقدم تجربة تفاعلية مميزة تسرد تاريخ السلطنة عبر عصورها المختلفة. ويُعد المتحف الواقع في ولاية منح بمحافظة الداخلية، إضافة مميزة للمشهد الثقافي العماني، حيث يسلط الضوء على تاريخ السلطنة الممتد عبر العصور بأسلوب تفاعلي ومبتكر. افتُتح المتحف في عام 2023 ليكون جسرًا بين الماضي والحاضر، ووجهة تعليمية وثقافية بارزة.
ويمتاز المتحف بتصميمه العصري المستوحى من البيئة العمانية، ويضم قاعات متعددة تعرض مختلف مراحل تاريخ السلطنة، بدءًا من عصور ما قبل التاريخ، مرورا بالفترة الإسلامية، وصولًا إلى العصر الحديث، ويعتمد المتحف على تقنيات متقدمة، مثل العروض ثلاثية الأبعاد والواقع الافتراضي، مما يوفر تجربة فريدة للزوار.
دار الأوبرا السلطانية معلم بارز في مسقط ويجمع بين الفنون العالمية والتراث العماني (غيتي)في اليوم الرابع من اللقاء الإعلامي، تتحول الأنشطة إلى محور الفنون والثقافة. يزور المشاركون دار الأوبرا السلطانية مسقط، التي تُعد تحفة فنية تعكس تزاوجًا فريدًا بين الفنون العالمية والتراث العماني. يستمتع الإعلاميون بجولة داخل الدار للتعرف على تصميمها المعماري والأنشطة الفنية التي تقدمها.
وفي المساء، يحضر الصحفيون والإعلاميون الحفل الطلابي الوطني بمناسبة مرور خمس سنوات على تولي السلطان هيثم مقاليد الحكم بحضور السلطان نفسه، و يبرز إبداعات الشباب العماني في مجالات الفنون. ويشكل مناسبة للاحتفاء بالمواهب العمانية الشابة وتعزيز روح الابتكار والإبداع.
إعلان استكشاف المعالمويستكمل البرنامج لزيارة المعالم الدينية والسياسية البارزة في مسقط. تتضمن الجولة زيارة جامع السلطان قابوس الأكبر، الذي يُعد رمزا للفن المعماري الإسلامي، ويتميز بتصميمه الفريد وسجادته الضخمة التي تُعد واحدة من أكبر السجاجيد اليدوية في العالم.
الواجهة البحرية لقصر العلم الذي يمثل رمزا للسيادة في سلطنة عمان (غيتي)بعد ذلك، انتقل الإعلاميون إلى قصر العلم، الذي يمثل أحد أبرز المعالم السياسية في السلطنة، واستمتع الزوار بجولة في الساحة الخارجية للقصر، حيث تعرفوا على دلالاته الرمزية كواجهة تمثل القوة والسيادة العمانية.
وفي اليوم السادس من أيام اللقاء الإعلامي، اتجهت الأنشطة لاستكشاف التراث البحري والتاريخي لعمان، إذ زار الصحفيون سوق مطرح التراثي، الذي يُعد مركزا حيويا يعكس الحياة التجارية التقليدية في مسقط، كما شملت الجولة زيارات إلى قلعتَي مطرح والميراني، اللتين تجسدان الحقبة التاريخية البحرية لعمان.
قلعة الميراني مرتبط بالتاريخ البحري الذي عرفت به سلطنة عمان في القرون الماضية (غيتي)واختتمت الأنشطة بوجبة عشاء تقليدية في مطعم "روزنة"، حيث تذوق الصحفيون الأطباق العمانية الأصيلة في أجواء مستوحاة من التراث المحلي.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات اللقاء الإعلامی سلطنة عمان قلعة نزوى سوق نزوى الذی ی نزوى ا التی ت
إقرأ أيضاً:
السياسة الخارجية العمانية.. بين ضرورات الجغرافيا وحقائق التاريخ
في سبتمبر من عام 2013 كنت برفقة وفد رسمي يقوم بزيارة إلى إيران، وهي زيارة جاءت بعد أقل من شهرين من الزيارة التاريخية التي قام بها السلطان الراحل قابوس بن سعيد، طيب الله ثراه، إلى إيران. كان على متن الطائرة الصغيرة التي تتسع لثمانية ركاب فقط سفير سلطنة عُمان في طهران في ذلك الوقت يحيى آل فنة، وكان حينها ينهي إجراءات عودته إلى مسقط بعد أن انتهت مهام عمله في إيران. وَبِحِسٍّ صحفي وعبر أسئلة كثيرة ومتداخلة لم تخلُ من «الخبث» الصحفي، حاولت أن أعرف أهم الملفات التي ناقشها السلطان قابوس مع الرئيس الإيراني حسن روحاني أو مع المرشد الأعلى علي خامنئي. كانت الطائرة أضيق من أن يدور فيها حوار ثنائي بهذا المستوى من السرية والخطورة. وكان السفير عنيدا جدا ومتحفظا إلى أبعد الحدود، ولم أستطع الحصول على أي تفاصيل ذات قيمة إلى قرب نهاية الرحلة، حينها قال همسا: إن الزيارة كانت «تاريخية»، وسيبقى ما دار فيها محل نقاش لسنوات طويلة جدا، وسيؤكد موضوعها تفوق السياسة الخارجية العمانية التي ستبقى محل إشادة عالمية وليست إقليمية فقط.
كانت هذه الكلمات الهامسة القصيرة تحمل تأكيدا لما كان يدور في الكواليس، الضيقة على الأقل، في ذلك الوقت من أن سلطنة عمان تقود جهودا دبلوماسية لوضع نهاية للخلاف الغربي الإيراني حول الملف النووي. ولكن لم يكن أحد ليتصور، في ذلك الوقت، أن يستطيع أحد جمع إيران والغرب على طاولة مفاوضات واحدة يكون كل منهم حريصا على نجاح اللقاء وما يتبعه من لقاءات؛ لكن ذلك حدث بالفعل وسط تفاصيل كثيرة كشف الكثير منها وبقي البعض الآخر في انتظار الزمن المناسب كشفه وتم توقيع «خطة العمل الشاملة المشتركة» في عام 2015 قبل أن يأتي الرئيس الأمريكي ترامب وينقضها في عام 2018.
ثبات الدبلوماسية
لم تُرضِ الوساطة العمانية، التي أنتجت الاتفاق النووي بين الغرب وإيران، الجميع في الإقليم، رغم أنها منعت حربا طاحنة كانت على وشك أن تندلع في أي وقت بين أمريكا وإيران. وتساءل الكثيرون عن مصلحة سلطنة عمان في ذلك الوقت من تلك الوساطة، بالقدر نفسه الذي تساءلوا فيه عن قوة دبلوماسيتها التي نجحت في التقريب بين أشد الأعداء.
شغلت هذه الأسئلة وسائل الإعلام العربية والغربية لسنوات طويلة، رغم أن الملف النووي الإيراني لم يكن النجاح الوحيد الذي أنجزته الدبلوماسية العمانية، رغم أنه كان الأبرز، فطوال العقود الأربعة الماضية استخدمت سلطنة عُمان قوة وثبات دبلوماسيتها لحل الكثير من الخلافات في منطقة الخليج العربي والإقليم المحيط، وجنّبت المنطقة الكثير من الحروب أو إنها احتوت خلافات عربية - عربية كانت مرشحة أن تتحول إلى نزاعات ثنائية أو حروب إقليمية.
ولو عدنا بعقارب الزمن على الوراء قليلا وتذكرنا التوترات التي حدثت في المنطقة في أعقاب الثورة الإيرانية عام 1979، حيث وصلت التوترات في الخليج إلى نقطة اللاعودة حينما اشتعلت الحرب العراقية الإيرانية وأدخلت منطقة الخليج العربي في حالة طويلة من غياب الاستقرار؛ برزت الدبلوماسية العمانية في تلك المرحلة المبكرة بنهجها المدروس وقدرتها على قراءة المستقبل في ضوء المعطيات الماثلة على أرض الأحداث، وعلى النقيض من الكثير من دول المنطقة الذين انحازوا بقوة إلى معسكر أو آخر، التزمت سلطنة عُمان بمبدأ الحياد والحوار، وهو القرار الذي تشكل عبر فهم عميق وراء تجارب تاريخية وضرورات جغرافية.
السير وسط حقول الألغام
بهذا المعنى سمحت السياسة الخارجية العمانية لعُمان التنقل وسط عقود طويلة من الاضطرابات الإقليمية مع الحفاظ على الاستقرار الداخلي وتعزيز السمعة الدولية كوسيط موثوق به، ولم ينشأ هذا التوجه الدبلوماسي في فراغ؛ بل هو نتاج مزيج فريد من الاستمرارية التاريخية والضرورة الجغرافية والقيادة القادرة على فهم ديناميكيات الأقليم والأطماع العالمية به ومسار الأحداث بناء على كل ذلك.
كانت عُمان عبر التاريخ ملتقى للحضارات، وباعتبارها إمبراطورية بحرية خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، سيطرت على طرق تجارية حيوية تمتد من شرق إفريقيا إلى جنوب آسيا، ومنح هذا التاريخ عُمان فهما عميقا للتعددية الثقافية وفن التفاوض، كان هذا الفهم أساسيا للحفاظ على استقلال عُمان أمام أطماع الكثير من القوى العالمية عبر التاريخ أمثال الأطماع الاستعمارية البرتغالية والهولندية والأسبانية والبريطانية.
كانت هذه التجارب وما بها من مخاضات سياسية وعسكرية مريرة أحيانا تشكل السياسة الخارجية العمانية؛ فهي كما يتضح نتاج قرون طويلة من التفاعلات الثقافية والحضارية والأيديولوجية والعسكرية بين الجغرافيا العمانية والجغرافيا الإقليمية والعالمية وحوارات ونقاشات مع الآخر كانت تحدث عبر التفاعل الحضاري، وهي أيضا نتاج فهم حقيقي وعميق لمعنى التفاعل بين الجغرافيا والتاريخ، وإذا كان ابن خلدون يقول إن الجغرافيا هي التي تصنع التاريخ، فإن التاريخ العماني كان على الدوام نتاج تفاعل حقيقي مع الجغرافيا.
تفهم سلطنة عُمان الإقليم الجغرافي الذي تعيش فيه أكثر من غيرها، ومَكّنها هذا من صناعة تاريخها على النحو المشرق الذي نقرأه، كما ساعدها في تحقيق نجاحات سياسية ودبلوماسية يُنظرُ إلى الكثير منها بأنه استثنائي، نظرا لما تنطوي عليه من تعقيدات كبيرة جدا، ويعود الأمر إلى اعتبارات كثيرة تشكلت عبر التاريخ ربما أهمها أنها الكيان السياسي الأقدم في المنطقة، الذي عايش وأسهم وتفاعل مع التحولات الكبرى التي حدثت في منطقة الجزيرة العربية والإقليم المحيط بها، ليس منذ قرنين فقط ولكن منذ أكثر من خمسة آلاف سنة، عندما كانت الأمة في عُمان قد شكلت دولة على مبادئ سياسية وحضاري، فيما كانت الكثير من الدول التي نراها اليوم في الإقليم مجرد قبائل متصارعة في أفضل الأحوال. كان التراكم السياسي والفهم العميق لثقافات المنطقة وطموحاتها وأيديولوجياتها وأنظمتها الحاكمة أحد أهم العوامل التي أسهمت في نجاحات السياسة العمانية، وفي الحقيقة، في تشكل ركائزها وفي قدرتها على الإسهام في حل التحديات الإقليمية.
تتصالح سلطنة عمان مع الجغرافيا المحيطة بها ولم تضعها في يوم من الأيام في خانة التحديات بل بقيت على الدوام ميزة لا بد من الاستفادة منها.
لا نختار الجغرافيا
وكان سلاطين عمان يرددون دائما مقولة «إننا لا نختار الجغرافيا ولا نختار الدول التي تكون في جوارنا»، وهذا يعني أن علينا أن نتصالح معهم ونتكامل، وأن نبني سياساتنا واستراتيجياتنا وفق الواقع الذي تفرضه الجغرافيا.
والجغرافيا عامل حاسم جدا في تشكيل السياسة الخارجية العمانية، إذ تقع سلطنة عمان عند تقاطع طرق بحرية مهمة، وفي مقدمتها مضيق هرمز الذي يمر من خلاله الجزء الأكبر من إمدادات النفط العالمية، كما أنها مطلة على المحيط الهندي ومن ورائه الكتلة الآسيوية بكل ثقافاتها وتطلعاتها وتاريخها، وفي الشمال تطل على إيران بحضارتها الفارسية العريقة وتطلعاتها المستقبلية وما يصاحب ذلك من تحديات كبيرة، وإلى الغرب تطلّ على السعودية وبقية دول الخليج العربي، وإلى الجنوب على اليمن بكل صراعاته التي عاشها عبر التاريخ، كل هذه الكتل الجغرافية غنية بالمتغيرات وبالتطلعات والتحديات بل والصراعات التي لا تنتهي، الأمر الذي يجعلها كتلًا متحركة غير ثابتة.
وعبر التاريخ كان لعُمان الكثير من الصلات مع هذه الكتل الجغرافية، والتفاعل الذي انعكس إيجابا ليس على عُمان وحدها ولكن على الإقليم بأكمله. كانت مسقط وصحار وصور وصلالة وخصب مراكز تجارية مهمة في المنطقة، واستطاعت أن تبني صلات حضارية مع الكثير من المدن والشعوب المحيطة والبعيد، مثل الهند وشرق أفريقيا والجزيرة العربية ومصر والعراق والصين، هذا الأمر وجه اهتمام سلطنة عُمان للحفاظ على استقرار المنطقة وبناء تعاون أمني وثيق مع جميع الدول المحيطة بها لضمان أمن الملاحة البحرية.
ورغم الصراع الكبير الذي تشهده اليمن، ليس فقط خلال العقد الماضي ولكن عبر أكثر من قرن من الزمن، حافظت عُمان على استقرار حدودها الجنوبية مع اليمن، وبقيت تدعم الجهود الدبلوماسية لحل القضايا اليمنية، بل إنها في الكثير من الأوقات كانت هي التي تتبنى الجهود الدبلوماسية وتهيئ لها الظروف الجيدة للحوار، إضافة إلى تنشيط دبلوماسية المساعدات الإنسانية في طريق استقرار اليمن.
هذا الفهم العميق لدور الجغرافيا في بناء الركائز السياسية في عُمان عبر التاريخ جعلها قادرة على القيام بالكثير من الأدوار في حل النزاعات الخليجية والإقليمية، وقدمت سلطنة عمان باعتبارها الطرف الإقليمي الأكثر قدرة على فهم المنطقة والأكثر قدرة على القيام بأدوار سياسية في اللحظات الصعبة، التي تعادل فيها الدبلوماسية الحكيمة الحياة أو الموت، كما هو الحال في الملف النووي الإيراني، الذي عاد إلى الواجهة العالمية مرة أخرى بعد أن أشعلت دولة الاحتلال الإسرائيلي حرب إبادة لا نهاية لها في قطاع غزة، وبما قامت به من أدوار تاريخية في حقن الدماء اليمنية بعد سنوات من الحرب الطاحنة.
بوعي تام بكل التشابكات الحضارية الناتجة عن التفاعل بين الجغرافيا وبين المعطيات السياسية والاقتصادية والأيديولوجية والثقافية، كانت عُمان تضع أسس وقيم ومبادئ سياستها الخارجية التي اتسمت بالتوازن والانفتاح والتعاون مع الجميع.
نصنع استقرار الإقليم
لكن هذا التوازن الدبلوماسي الذي يتكئ على فهم الجغرافيا وضروراتها لم يكن يوما خاليا في التحديات؛ فقد أثار حياد سلطنة عُمان في بعض الأحيان، وربما في كثيرها، انتقادات الآخرين الذين اعتبروا حياد عُمان نوعا من غياب التضامن معها! ولكن عُمان كانت تؤكد على الدوام أن سياستها ودبلوماسيتها تخدم المصالح الأوسع للاستقرار الإقليمي، وهذا الطرح يدعمه سجل سلطنة عُمان في الحد من التوترات في منطقة الخليج والعالم العربي.
هناك أمر آخر مهم في هذا السياق وهو أن سلطنة عُمان عرفت منذ وقت مبكر أن التنمية وجلب استثمارات أجنبية لا يمكن أن يستقيم إلا في بيئة مستقرة بعيدة عن اضطرابات هذا الفهم، أيضا، فرض على عُمان أن تكون سياستها الخارجية متبنية للحياد وبعيدة عن الأجندات وأن تتسم بكثير من الثبات وعدم التلون وفقا للمتغيرات السريعة، ولذلك يمكن القول إن السياسة الخارجية العمانية هي ضرورة اقتصادية بقدر ما هي استراتيجية سياسية.
كان البعض يعتقد أن السياسة الخارجية العمانية ستتغير بعد وصول حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق إلى عرش عمان في يناير 2020، لكن الحقيقة أن هذه السياسة بقيت كما كانت عليه من قبل ولم تشهد انحرافات تذكر عن المبادئ التي كانت تتحرك وفقها؛ فبقي السلطان هيثم، حفظه الله، ملتزما بالحياد والحوار واحترام سيادة الآخرين ومحافظا على سيادة عُمان وعلى قرارها السياسي من أي تأثير خارجي حتى في اللحظات الصعبة التي مر بها العالم خلال أزمة كورونا وما صاحبها من أزمة مالية خانقة.
نموذج يحتذى
وهذه التجربة في الحياد الإيجابي وفي التمسك بالمبادئ والقيم الدبلوماسية في منطقة مضطربة على الدوام تقدم نموذجا بديلا يعطي الأولوية للاستقرار والاحترام المتبادل، وهذا النهج ينسجم مع المصالح المشتركة التي يمكن أن يقبل بها العالم خاصة في ظل التمتع بالمصداقية، وهذا النهج أيضا يسمح للمواطنين، عمانيين أو في أي مكان آخر، أن يتمتعوا بمستوى كبير من الأمن والاستقرار والازدهار، وفي هذا الكثير من الدروس القيمة للكثير من الدول الإقليمية التي تسعى بشكل حثيث لبناء سياسات خارجية تتسم بالمرونة وتبعد الدولة عن المخاطر المحيطة بها، ورغم أن هذا الأمر ليس بالسهولة التي يعتقدها البعض؛ لأن سياسة عمان مستمدة من تاريخها الطويلة ومن فهم لحقيقة التاريخ وحقيقة الجغرافيا لكن فهم الدول لتاريخها باستخدام هذه المعطيات يمكنها من بناء سياسة خارجية تعود عليها بالاستقرار.
لكن لا بد من الإشارة هنا أن احتفاء عُمان بالجغرافيا في بناء سياستها الخارجية لم تمنعها يوما، عبر التاريخ، من الانحياز للقضايا العربية والقضايا الدولية العادلة، الأمر الذي أتاح لعُمان الكثير من المرونة في التعامل مع القضايا العربية والإنسانية ويمكن العودة إلى الكثير من الأحداث التي تحفظها كتب التاريخ العماني والعربي وإلى الوثائق السياسية الغربية ليفهم بشكل عميق دور عُمان الإيجابي في تلك القضايا، وهو دور يشعر العمانيين اليوم بكثير من الفخر وهو مساهم أساسي في بناء الشخصية العمانية المستقرة والمتصالحة مع ذاتها ومع الآخر وهذا بدوره ينعكس على استمرارية السياسة الخارجية العمانية على المبادئ والقيم نفسها.
عاصم الشيدي
كاتب ورئيس تحرير جريدة عمان