أصداء الخطاب السامي (1)
تاريخ النشر: 14th, January 2025 GMT
د. خالد بن علي الخوالدي
يلفت انتباه أي متابع للخطابات السامية لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- منذ توليه مقاليد الحكم قبل خمس سنوات، اهتمامه البالغ والمستمر وحرصه على تحقيق الهوية الوطنية العُمانية، والحفاظ على الموروث الأخلاقي والقيمي والسلوكي للمجتمع العُماني، وهذا يأتي من إدراك جلالته- أعزه الله- بأنَّ انطلاق أي أمة لا بُد أن يكون مبنياً على أساس أخلاقي وقيمي قوي وأساس متين؛ فالدول التي تعتمد على أسس غير أخلاقية لا بُد وأنها ستنهار يومًا ما.
وتأتي توجيهات جلالته السامية في إطار تبني سياسات وبرامج تعزز القيم الأخلاقية والانتماء الوطني والتي لا بُد أن تكون عملية مشتركة بين المؤسسات جميعها وليس جهة مُعينة دون غيرها خاصة مؤسسات المجتمع المدني والأسرة والمسجد والمدرسة وغيرها من المؤسسات التي يفترض عليها واجب أخلاقي وقيمي يتم إيصاله إلى الأجيال الحالية والمُستقبلية.
والهوية الوطنية العُمانية تُمثل مزيجًا فريدًا من القيم والتقاليد والمبادئ التي ورثها العُمانيون عبر الأجيال والتي تتجسد في عاداتهم وتقاليدهم وأفكارهم الراسخة، وقد أدرك جلالة السلطان هيثم أهمية هذا الأمر، فبرزت من خلال خطاباته السامية إشارة واضحة إلى التحديات التي تُواجه المجتمع العُماني، والتي تتعلق بالهوية والأخلاق والتربية والبنية الاجتماعية المتماسكة، ويبدو أنَّ هذه التحديات ليست فريدة لعُمان، بل هي سمة مشتركة بين المجتمعات التي تواجه متغيرات العصر الحديث.
إنَّ الخطاب السامي في يوم 11 يناير 2025، يبرز ضرورة خلق توازن بين المحافظة على الموروث الاجتماعي والانفتاح على العالم، وأن هذا التوازن لا يعني التفريط في الهوية أو الشخصية العُمانية، بل يُعزز من قدرة المجتمع على التفاعل مع التغيرات العالمية دون المساس بجوهره، وهذا التوجه يعد ضروريًا في عالم يتجه نحو العولمة؛ حيث يتعين على المجتمعات الحفاظ على خصوصياتها الثقافية في ظل الانفتاح على الثقافات الأخرى.
وحقيقة أننا كعُمانيين نمتلك الكثير من المعطيات التي تؤهلنا للحفاظ على الهوية العُمانية ومن ضمن هذه المعطيات وجود تراث مادي وشفوي وتاريخي كبير يجعلنا نملك القدوات السامقة والعالية، فيكفينا مثلًا رواية قصص الشخصيات التاريخية العُمانية وإنجازاتها لتعزيز الهوية الوطنية من الجانب التاريخي؛ إذ إن وجود القدوات والشخصيات البارزة يغرس في نفوس الشباب روح الطموح والإلهام ويحفز الشباب على المساهمة في الحفاظ على تراثهم والعمل على تطويره، دون فقدان أصالته، فالموروث الثقافي والتاريخي ليس مجرد إرث للماضي، بل هو مصدر إلهام للحاضر والمستقبل فهو يُعزز الروابط الاجتماعية، ويوفر للأفراد شعورا بالاستقرار النفسي والأمان الاجتماعي.
إنَّ الهوية الوطنية العُمانية ليست مجرد مفهوم يدرس في الكتب، وليست مجرد تاريخ يروى ويحكى، بل هي مستقبل يبنيه أبناء كل وطن وواقع يعاش ويمارس بشكل يومي، وفي ظل التحديات المعاصرة، يبقى الإصرار على تعزيز الهوية والتمسك بالقيم الأصيلة هو السبيل للحفاظ على النسيج الاجتماعي المتماسك، كلما نجح العُمانيون في التمسك بهويتهم، زادت قدرتهم على مواجهة التحديات والمساهمة في بناء مُستقبل مشرق لعُمان.
إنَّ الحفاظ على هذا الإرث العُماني والحضاري والاعتزاز به هو واجب على كل عُماني، لضمان استمرارية القيم والمبادئ التي شكلت أساس المجتمع العُماني المتماسك، وتحت قيادة جلالة السلطان المُفدّى يبدو المستقبل واعدًا؛ حيث يجتمع الماضي والحاضر لخلق غدٍ أفضل لعُمان.
ودُمتم ودامت عُمان بخيرٍ.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
شواطئ.. الخطاب الروائي في أدب جمال الغيطاني (2)
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
تتابع الباحثة عتاب عادل فى كتاب "الخطاب الروائي في دفتر التدوين لجمال الغيطانى" والصادر حديثا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بقولها: ليست المرأة فقط هي التي استعملها الكاتب في إلهاب أمرة، بل ما ألهبة أكثر، شعوره، بدنو الأجل، الذي كثيرًا ما تحدث عنه، يقول: "أيقنت أن ما تبقى سينقضي كندف الغمام إذ تذروها الرياح، لهذا شرعت، خطوة المرء قوامها ساقان، واحدة إلى الوراء، والأخرى إلى الأمام، الأولى انقضت، أم يمت إلى ذلك الحال المهيمن منذ أمد بدنوى من تمام وقتي ؟ ما أثقل الشعور بالنهايات، ما أشقة على الروح، على البيوت، على الأماكن التي اعتدناها، ثمة تغيير مع التقدم فى العمر والوعي بدنو المراحل الأخيرة".
ومن الاسترجاعات التكرارية الشديدة الوقع في نفس الغيطانى حادثة القتل التي تمت في مركز سمالوط بمحافظة المنيا، التي أقام بها عامًا بعد نقلة القسرى من العمل "ما أصغيت إليه طارئ، غامض، قمت حذرًا متجهًا إلى النافذة ثلاثة أو أربعة، يصعب التحديد، كانوا يحملون لفافة ضخمة موثقة بحبال، مع التدقيق أيقنت أن الملفوف آدمي.. في النهاية تحركوا، خطوات قليلة باتجاه الترعة، جهد هائل لإخراس الحياة المجهولة.. ثم عاد ليذكر نفس الحدث في "نوافذ النوافذ" الدفتر الرابع، يقول "أربعة هكذا بدا في اللحظات الأولى، اثنان طويلا القامة، آخران قصيران مدكوكا البنية لا.. إنهم خمسة، الخامس محمول، يمسك به أحدهم من جهة واثنان من الناحية الأخرى، لا أتمكن من الملامح.. فواقعة توديع والدة له في أول مرة يسافر بمفردة، وكذلك واقعة القتل وكذلك واقعة اعقتالة وغيرها كثير من الوقائع الشديدة الوقع على نفس الغيطانى.
إحدى صور المكان النفسي في "دفاتر التدوين" إنها صورة فوتوغرافية أو لوحة معلقة على جدار الدفاتر، منها وصف الغيطانى لهذه المحطة " حقول على الجانبين، أعمدة التلغراف المحاذية، سماء زرقاء صافية، هذا الأزرق الصافي الحلمى، رصيف يتسع لوقوف سريع مفتخر، لكن البناء صغير، مجرد مكتب داخل غرفة وحيدة جدرانها من طوب أحمر معتق نوافذها مستطيلة من خشب أخضر، مغلقة باستمرار، لا يعلم أحد آخر مرة فتحت، لافتة رمادية، حروف سوداء متآكلة باهتة..
هي صورة التقطت لمحطة قديمة توقف العمل بها، وهذا ما يثير شجن الكاتب على تلك المحطات التي لم تشيد إلا للحاجة إليها، وكثيرًا ما توقفت بها قطارات، ولكنها تمر بها الآن وهى مكتملة الطاقة، إن الصورة الفوتوغرافية ليست بجديدة على الكتابات الإبداعية، ولكن الجديد في صورة الغيطانى هو القدرة على التقاط جوهر اللحظة المعيشة، وهنا تتشعب هذه اللحظة إلى: إن هذه المحطة كم عبرها ركاب، بائعون كثيرون، جائلون أو مقيمون، حتى الشحاذون، هي كانت يوما عامرة مثل بقية المحطات، ولكنها اليوم منسية، حزينة، وحتى ما ظهر في اللوحة من هذا الأزرق الصافي الحلمى هي بمثابة ضغطة من الريشة المحملة باللون الأزرق الصافي ليظهر صفوة مما يضيء سماء المحطة ليثير حزن الراوي أكثر عليها، وكذلك قولة " لا يعلم أحد أخر مرة فتحت " هو كناية بوضح كم الأتربة العالقة على نوافذها مما يدل على عدم فتحها منذ أمد، وكذلك عدم الاعتناء بهذه المحطة فهي تحوى " لافتة رمادية " حروف سوداء متآكلة باهتة " .
لا يقتصر البعد السياسي على العلاقة التي تربط بين السلطة والشعب فقط، بل " يتداخل الاجتماعي والسياسي بطبيعة الحال، حيث تبدأ من " الأب " و" العمدة " أو رئيس المدينة، انتهاء بالسلطة السياسية العامة والمباشرة وهى التي نتحدث عنها الآن فغالبا ما تكون على غير ما يرام، نرصد ذلك من خلال هذا المثال " ركبناه ظهرًا من طهطا، طالت وقفته عند محطة ملوي، ثم تحرك ولكن إلى جهة لم تعهدها من قبل، إلى خط حديدي فرعى لا رصيف له، نرى من خلال النوافذ أرصفة الذهاب والإياب ولنبلغها، قال والدي بعد أن تأكد من صحة الخبر.. " الملك سمير ".. ياة.. الملك مرة واحدة ؟
يمر راكبا القطار الملكي فوق خط السكة الحديد عينة، لكن من أجله يجب التنحي تماما، الخروج عن الخط بالكلية، وإحاطة العربات بالحراس الذين تبدو عليهم شراسة مغايرة، صماء.. بدأ التراخي يسرى إلى وقفة الحراس الأشداء، استند أحدهم إلى بندقيته، واقترب آخر من صاحبة، ثم افترشوا الأرض بعد أن بسطوا ملاءات أو فرشا رمادية تحمل زخارف حمراء.
يَهِنُ ضوء النهار.. حوالي العاشرة ليلًا جاء أحدهم بكلوب، علقة في منتصف العربة.. وبدأ الزحام أمام دورة المياه، وبكى طفل بإصرار.. استيقظت على زغرودة طويلة، قال جارنا إن أحدهم تبادل الحوار مع راكب يجلس إلى جواره.. طلب الثاني يد أوسطهن، وافق الآخر، قرأ الفاتحة. وأشهدا الشيخ المعمم، وحق للعربة أن تفرح.. حوالي الخامسة بعد الفجر، دوى أزيز مكتوم، أول من أصغى إلية الممتدون فوق الأرضية المنبسطة.. تعلق النوافذ في لحظة واحدة.. مجرد ُلَحيظة، سرعان ما يختفي أثرة...
إن أماكن الدفاتر حقيقية ومسماة بأسمائها، إذ أن الدفاتر تنتمي إلى الكتابة الذاتية، وهى التي تروى أحداثا واقعية، وبالتالي فلابد أن تكون الأماكن كذلك، وهنا نرصد مفارقة عجيبة ن فعلى الرغم من هذه الواقعية التي تتسم بها أماكن الدفاتر، فإنها غير حقيقية ! ونعنى بالحقيقة هنا، تحقق المكان داخل النص، أي بوجوده الفعلي وتحرك الشخصيات فيه وتبادل التأثير فيما بينهما، ولكن جميع أماكن الدفاتر مستحضرة عبر ذاكرة الكاتب، وهو ما يؤطر الدفاتر بإطار زمني واحد هو الماضي من خلال عملية " الاسترجاع " وفى هذا الصدد يقول محمود نسيم عن المكان:" يتشكل المكان المسرحي في رأس المملوك جابر " من مستويين، واقعي، وهو المقهى الذي تجلس علية مجموعة من الزبائن أو المتفرجين داخل النص، وخيالي وهو مكان الحكاية المستحضرة.
لا تخلوا أعمال الغيطانى جميعها من البعد الصوفي من هذا الحس الصوفي الناتج عن نشأة الغيطانى بحي الحسين وتردد والدة به على أضرحة أولياء الله الصالحين، حتى أن الباحثة فاطمة محمود عبرت عن ذلك في رسالة بعنوان " الرؤية الصوفية عند الغيطانى " هذا العنوان تدخل تحت ظلة دفاتر التدوين " أيضا لما احتوت علية من مثل هذه الفقرات " ألوذ بأماكن معينة، متقنة، قائمة منذ زمن طويل، أتدثر بظلالها وأصدائها، وإني لمغرم بالقباب، بقدر ما تحويني، وتطلعني على استدارة الكون بقدر ما تفك أسرى، وتعتق ما تبقى من وثاق أويت إلى قبلة الإمام الشافعي المصوغة من خشب عطر الرائحة، قبة قايتباى، قبة برقوق، قبة مولانا وسيدنا الإمام الحسين، ولزمت قبة سيدي عمر بن الفارض المتقشفة، الزاهدة، في إستانبول، سمقت بى قبة الجامع الأزرق، وتحت قبة صغيرة مضمومة، مؤثرة في جامع القرويين بفاس، امتثلت وأصغيت، داخل قبة قلاوون، ركني المتين في القاهرة العتيقة.. وكذلك " كنت مشوفا لرؤية مقام سيدي الجزولى، والد سيدي حبيب خادم وإمام المصلين به، باب دارة يفضى إلى المسجد مباشرة، كذلك مقام وضريح سيدي أبى العباس السبتى".