تفكير المؤلف المبدع بالسينوغرافيا
تاريخ النشر: 14th, January 2025 GMT
فـي سياق إقامة الدورة الخامسة عشرة لمهرجان الهيئة العربية للمسرح بالسلطنة، ووجود عروض مسرحية عربية (الملجأ، ذاكرة صفراء، المؤسسة، سيرك، هاجّة (بوابة 52) ماكبث المصنع، البخارة، عد عكسي، بين قلبين، هُم، نساء لوركا، كيف نسامحنا؟، ريش، وغصة عبور)، وعرض عماني واحد هو (أسطورة شجرة اللبان)، تسير العروض جميعها فـي مسارين؛ الأول تتنافس فـيه على جائزة صاحب السمو الشيخ سلطان بن محمد القاسمي لأفضل عرض مسرحي، والمسار الثاني خارج التنافس، تنافست العروض على تقديم رؤى إخراجية بصرية جاذبة، راهنت على بقاء المتفرج طيلة العرض، بينما أصاب بعض العروض الترّهل والفوضى الإخراجية والبصرية.
شغلني هذا السؤال: كيف يُفكر المؤلف الدرامي المسرحي فـي السينوغرافـيا؟ أين مكانه فـي جوهر هذا الاشتغال؟ جرت العادة فـي البداية أن التفكير فـي السينوغرافـيا هو شأن يخصّ مخرج العرض المسرحي. وهذا صحيح إلى حد كبير. أما سؤالي السابق فلا يناقش، وذلك انطلاقا من جدلية ثابتة أن علاقة المؤلف مع نصّه تنتهي بمجرد وصول النص إلى المخرج. وعلى ذلك الأساس يتمحوّر اشتغال المخرج مع مصمم السينوغرافـيا والدراماتورغ لتقديم رؤية فنية تشكيلية وبصرية فـي فضاء العرض المسرحي وغيرها من الفضاءات.
إن السينوغرافـيا علمٌ وفنٌ قوامه تبئير فنون عدة هي: الديكور والإضاءة والزّي والإكسسوار والأقنعة والمؤثرات الخاصة من إضاءة ومؤثرات سمعية وبصرية فـي رؤية زمكانية وفلسفـية وصوفـية للعالم. وأقصد بالرؤية الزمكانية هي (الآن-هنا)، أما الرؤية الفلسفـية فهي مجموع تصورات النصّ الدرامي المسرحي ومنطلقاته الفكرية وأسئلته حول العلاقات الإنسانية المعقدة، أما الرؤية الصوفـية فهي السير بالصورة المشهدية إلى جماليات يتجلى من خلالها الإخراج المسرحي كتلة واحدة لفضاء العرض الدرامي.
تنبع فعالية السينوغرافـيا وقيمتها الأساسية كما يعرّفها المعجم المسرحي من قيامها ببحث «علاقة الإنسان (الممثل والمخرج) بالفضاء المسرحي. وعلاقة العناصر المسرحية بعضها ببعض بما فـيها الخشبة والصالة». وانطلاقا من هذا فإن المؤلف المبدع يعتبر السينوغرافـيا عنصرًا مهما من عناصر العرض المسرحي، وأهميتها لا تقل عن أهمية القيم الدراماتيكية للنصّ الدرامي.
المؤلف المبدع يَبني نصه الدرامي بالكلمات، وكل كلمة لها دلالات متعددة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى السينوغرافـيا لها دلالات كثيرة، إنها توسع من ملفوظ الحوارات لتمنح فضاء العرض أبعادا جمالية للكشف عن طبيعة الشخصيات والصراع والزمان والمكان. بهذا المعنى فالسينوغرافـيا «تعمل على استثمار الفضاء المسرحي كفراغ من أجل إعطاء المسرح بعدا شعريا».
المؤلف المبدع الذي يهتم بفكرة نصّه الدرامي عليه أن يواكب التطور الحاصل فـي السينوغرافـيا وتنوعها من حيث قدرة السينوغرافـي على تكوين الصورة البصرية بأرقى المعاني الجمالية، ويتحقق ذلك عن طريق جسد الممثل فـي الفراغ، واللعب بالألوان والإضاءة والمؤثرات جميعها وخطوط العرض والطول والظل.
يعود الفضل إلى التطور الحاصل فـي سينوغرافـيا العرض المسرحي إلى ثورة التكنولوجيا بدءا مع المخرج فـيسفولد ميرهولد الذي «قدم نظرية بنائية على تناغم الخطوط الأفقية والعمودية فـي فراغ الخشبة للتوصل إلى شكل عرض يقوم على رفض الإيهام». والعبقري جوردون كريغ الذي كان «يحلم بذرات مضيئة تملأ الفراغ المسرحي، وتصطدم ببعضها لتحقق أشكالا وآلافا من النقاط الملونة»، وأدولف آبيا، وصولا إلى السينوغراف التشيكي جوزيف زفوبودا «وتصوره للصورة المسقطة على الشاشات والمسطحات»، والسينوغراف جوزيف شاينا، والمخرج روبرت ولسون «وابتكاره للمسرح البصري المعتمد على التقنيات الحديثة لإسقاط الصورة على خشبة المسرح»، وساحر المسرح روبرت ليباج.
وجود المؤلف المبدع يفترض جدلا وجود المخرج المبدع «الذي قد يستخدم المِقصّ الحّاد لقص مفردات النصّ ليفرض رؤاه الإخراجية على كل صغيرة فـي العملِ أو كبيرة». ولا شك فـي أن وجود المخرج المبدع يَفترض بالضرورة وجود السينوغراف المتطوّر الذي يُجيد التعامل مع الخشبة، وإلا فإنّ جزءا من الفشلِ أو الخَلل سَوف يؤدي إلى إصابة العرض المسرحي بالترّهل واللا انسجام وفقد الإيقاع.
الممثل المسرحي فـي أثناء تأديته للشخصية الدرامية على الخشبة تكون وسيلته هي الفعل والحوار. أما المخرجون والسينوغرافـيون والدراماتورجيون المعاصرون فإنهم -يجيدون فـي عصر هيمنة الآلة والتكنولوجيا والرقميات وعلوم البرمجيات- التضحية بالكلمة وجعلها فـي مرتبة ثانية. إنهم مؤمنون بقدرتهم على خلق عالم جديد أو مغاير لعالم النص الدرامي، ولكلمات المؤلف المسرحي. فتجدهم يؤثثون الخشبة بلغات حركية وتشكيلات ديناميكية وأصوات بشرية وموسيقية غائرة فـي العمق، يطمحون من ورائها إلى تثبيت رؤية معاصرة تصل بين زمنيّ الماضي والحاضر، وبين بعثيِّ الميلاد والموت، وبين شهقتيّ القدوم إلى الحياة أو مغادرتها.
أين هو إذن موقع المؤلف المبدع؟
إن الجهد الذي يبذله العاملون على الخشبة لإخراج العرض المسرحي المبدع، ينطلق من بذرة النص الدرامي الخلاّق. من خلال تجربتي فـي تأليف النص المسرحي وممارسة البحث النقدي، أجد أن النقطة التي ينطلق منها الكاتب المسرحي، وهو يفكر بالسينوغرافـيا يبدأ من اللغة وحوار الشخصيات وتمتع السينوغراف بتأويل الكلمات إلى معاني بصرية.
فـي تجربتي لكتابة مسرحيتي (البئر-1997م) التي أخرجها الكاتب المخرج محمد خلفان، تكوّن النصّ من ثماني شخصيات ومجموعة أطفال متفاوتي الأعمار وأغان تراثية مستوحاة من البيئة والألعاب الشعبية الظفارية فـي جنوب عُمان ولافتات كُتب عليها إرشادات بخط طفولي. يغوص النص فـي أبعاد سحيقة للميثولوجيا والتراث الحكائي للمجتمع المحلي. شخصيات المسرحية تعيش فـي عالمين متناقضين، العالم الأول يتكون مما يراه الناس، ويصطلحون عليه كشكل اجتماعي تقليدي بسيط. فالرجال يعملون فـي البحر والنساء يعملن فـي صناعة الخبز وبيعه، وفـي لحظة استعادة الرجال والنساء لماضيهم يتذكرون أنهم كانوا أطفالا يلعبون ويكبرون ويتزوجون فنسوا الغِناء. ويتكون العالم الثاني الباطني من الإيمان العميق بالطقوس والغيبيات والسحر.
انبنى الطموح السينوغرافـي لعرض المسرحية من خلال فضاء خشبة عارية بتعبير بيتر بروك، وممثلين يرتدون قمصانا بيضاء وبناطيل سوداء. كان هناك قماش أبيض بلغ طوله (12- 12) مترا. وَظف المخرج من خلاله شفافـية الأصوات القادمة من البئر: طفولة الماضي، السحرة، الألعاب الشعبية وأغاني الأطفال، والبئر التي سقط فـيها القمر. رغم فداحة مصير الشخصيات وحالات انفصالها عن الواقع واتصالها مع الميثولوجيا، إلا أن الدرس الجمالي للمخرج والسينوغرافـيا جعل الشعور النفسي بالعرض المسرحي متوترا، ومنقادًا إلى نهاية مفجعة.
أما بالنسبة إلى (البئر) فـي المسرحية، فكانت تتمدد فـي الزمان، وفـي الأغاني والأصوات الدالة على بيئات متعددة كاليابسة والبحر، ومجموعة من الأوهام والطقوس التي ستودي بحياة الشخصيات إلى الفقد والبكاء، أو إلى التجمع العائلي والفرح.
إن نغمة ذلك الغناء بنبراته الحزينة يُماثل عمق البياض الذي ظلت تبحث عنه شخصيات مسرحية (البئر)، وهو صوت النغمة التي طغت على أحداث المسرحية، إنها نغمة الأسر أو السجن.
كنتُ أفكر كيف سيحوّل المخرج ومصمم السينوغرافـيا كلمات النص إلى مجاز من الأصوات والظلال والتشكيلات الجسدية والأداءات الدرامية والرموز التعبيرية الدالة على الميثولوجيا. بإيجاز، كيف يجعل السينوغرافـي أعماق (البئر) الإنساني ساحرًا؟ وكيف يتحول هذا السحر إلى مكان واقعي سهل التخيّل؟
فـي (البئر) استخدمتُ كلمات حقيقية، دون أن يحيط بها شيء من الالتباس أو الألغاز. إن للكلمات ذاكرة. إن كل معنى يطلع على خشبة المسرح تكشف عنه جماليات السينوغرافـيا ككل، سواء فـي الإضاءة المتطورة أو المنظور العام، إنما هو ذاكرة الكلمات التي صاغها المؤلف المسرحي؛ كلمات تحتفظ بقوتها التعبيرية المكثفة.
إن الكاتب المسرحي، عندما يكتب مشهده الأول بالكلمات، يعمل على فتح بوابة المسرح/ أو العالم على الأبدية، وعلى الفضاء الحُّر الواسع الممتد اللانهائي، كما يقوم بغلقه. وما على المخرج ومصمم السينوغرافـيا والدراماتورغ سوى البحث فـي علاقة الكلمة وأحوالها الحقيقية أو المجازية فـي معاني الإبداع المسرحي الممكنة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: العرض المسرحی المبدع ی
إقرأ أيضاً:
الحكومةُ الموازيةُ هي بدايةُ المخرج.. ولكن لمن؟!
طالعت مقالا متداول للدكتور النور حمد بعنوان (الحكومةُ الموازيةُ هي بدايةُ المخرج)، ود. النور من طلائع المثقفين في البلاد، وتجدني اتفق معه كثيرا فيما يقدم من طرح، ولكني اجد اني اختلف معه بصورة كبيرة في مقاله هذا، ولكن دعني ابدأ بنقطة اتفاق بيننا وردت في المقال، وهي أن الكيزان يحددون هدفهم بوضوح، ويسعون لتحقيقه بشتى السبل، وهو صحيح، ولكن ذلك ليس السبب الوحيد لبقائهم في الحكم طوال الست وثلاثون عاما الماضية، او لتحكمهم في الأنظمة السابقة، وفي الشارع السوداني، فإضافة لوضوح الهدف، والتصميم، فهم يعرفون كيف يسخروننا لخدمة أهدافهم، عن طريق ابتزازنا العاطفي، ودغدغة مشاعرنا، او اثارة الحنق، والكراهية في نفوسنا، فالشعب السوداني بالنسبة اليهم كوادر في التنظيم الشيطاني، ويطلقون عليهم (م. ن.) وهي اختصار لمغفل نافع.. وهي كوادر يستغلونها عن طريق تضليلها لغير مصلحتها (مغفل)، وانما لمصلحتهم هم (نافع)، وقد مارسوا ذلك معنا مرات يحصيها العد، ولكن اذكر منها ما تعودوا على فعله في الحكومات السابقة من خلق ضائقة معيشية عن طريق تخزين، او اتلاف السلع لخلق ندرة وغلاء، وقد فعلوه خلال الفترة الانتقالية مصحوبا بحالة من انعدام الامن صنعوها بمهارة، يضاف اليها حملة تشويه للمكون المدني (قحت في وقتها)، ليحركوا قطاعات ثورية معينة لتنادي معهم بإسقاط حكومة الفترة الانتقالية، وقد استغلوا نفس الفئات للتنديد بالاتفاق الإطاري، وبشيطنة القوى المدنية والدعم السريع بعد اندلاع الحرب، ثم قاموا خلال فترة الحرب بالعديد من الممارسات لدفعنا دفعا للارتماء في أحضان الدعم السريع، والذي رغم انتهاكاته، كان يبدو افضل خيار (ان اضطررنا للاختيار بين الصنوين المختصمين)، بل روجوا لتلك العلاقة غير الشرعية قبل ان يبرز في الساحة من ينادون بها علنا!! فوضوح الهدف عند الكيزان، والتصميم على نيله، لا يكفي وحده للسيطرة علينا، ان تحلينا بالفطنة والوعي الكافيين، وقدمنا مصلحة البلاد على مصالحنا، مما يجعل من الصعب عليهم تغفيلنا واستغلالنا.
لا اعتقد ان هروب البرهان بحكومته لبورتسودان يشير الى ضعضعة تماسكهم المعنوي كما استنتج د. النور، فلا يجب ان ننخدع بظواهر الأمور عندما يتعلق الامر بمخططات ونوايا الكيزان، وانما تكون القاعدة هي انهم يفوقون سوء الظن العريض، فلو تأملنا في الحرب منذ انطلاقها، لوجدنا انها بدأت بصورة اشبه ب (المديدة حرقتني)، لافتعال المشكلة، وليس القضاء على الدعم السريع، فهم من صنعوه، ودلت تصريحاتهم، انهم بعد انفلات الامر، لا يزالون طامعين فيه، وفي عودته لحضنهم، ولو كانوا ينوون القضاء عليه، لأرسلوا قوة كافية من حيث العدة والعتاد لفعل ذلك، او لاستخدموا الطيران في المدينة الرياضية في الساعات الأولى للقضاء على المحاربين، كما استخدمه لاحقا في معسكر طيبة ضد مجندين جدد في معسكر تدريب، بل هم حتى يومنا الحاضر نجد ان نيرانهم مصوبة نحو المدنيين، وليس قوات الدعم السريع، فواضح انهم بحربهم هذي يستهدفون المدنيين لا الدعم السريع، فهم كما اتفقنا لا ينقصهم وضوح الهدف، ولا شدة التصميم، ولكن للوصول لهدفهم الاستراتيجي، يتخذون أهدافا تكتيكية تجعل منه ممكنا، اذن فان هروبهم للشرق هو ضمن الخطة المرسومة، ولذلك نجد انهم هم الذين استدرجوا الدعم السريع استدراجا لمدني، وانسحبوا منها تاركين (كعادتهم) كل الأسلحة والذخائر! وعدد من جثث مواطنين من قبائل معينة، وهو عمل ممنهج يقومون به، فهم كلما انسحبوا من منطقة، تركوها بكل عتادها للدعم السريع، ولم يدمروه!! وذلك ليس حرصا منهم على ممتلكات الشعب، فهم من دمر طيرانهم البنية التحتية كلها، بما فيها الكباري ومحطات توليد الطاقة، فهم كما هو معلوم، يفتقدون للحس الوطني، بل يفتقدون للحس السوي! كما نلاحظ استهدافهم الممنهج لعرقيات معينة في صورة اشبه بممارسات العصور الوسطى، وهو كله عمل ممنهج، وهو ليس بالجديد، والمقصود به تحويلنا من خانة السلمية، لملعبهم الذي يجيدون اللعب فيه، وقد حاولوا ذلك مع الثوار في أيام الحراك في الشارع، بقمعهم المفرط، واستخدام الرصاص الحي، والتصويب على العيون والرقاب، والصدر، ثم كثيرا ما يفر جنودهم تاركين خلفهم الأسلحة للثوار، لاستدراجهم، ولكن الثوار كانوا من الوعي بحيث لم يبلعوا الطُعم، وهو نهج الثورة التي يجب ان نظل عليه، ونتمسك به، ولا نبلع الطُعم.
لا اعتقد ان من يعارضون فكرة إقامة حكومة غير شرعية أخرى في مناطق سيطرة الدعم السريع، هم (الحيَّةُ الإعلاميةُ الكيزانيةُ ذات الألف رأس)، أو عملاء لدول اجنبية، كما وصفهم د. النور!! بل هم السواد الأعظم من الثوار، والذين تحلوا بالفطنة، واليقظة، ولم ينجرفوا خلف سيل الاحداث الذي صنعه الكيزان، ليدفعونا دفعا للارتماء في أحضان ابنهم الشرعي، فالحيَّةُ الإعلاميةُ الكيزانيةُ هي صاحبة المصلحة الوحيدة في قيام مثل هذه الحكومة غير الشرعية، لأنها ستضفي عليهم نوعا من الشرعية، وستمنحهم دعما شعبيا، ما كانوا ليحلموا به، وستقضي بها على اكبر تكتل مدني فاعل في الساحة، وبذلك يكون الطريق ممهدا لهم لبلوغ هدفهم، وهو ما راه بوضوح كل من عارض فكرة إقامة حكومة في مناطق سيطرة الدعم السريع، والذين لا يجوز رفع كرباج الكوزنة في وجههم، بل الحق، ان كان يجوز توزيع الاتهامات، فان المنادون بتحقيق اهداف الكيزان (علم من علم، وجهل من جهل)، يكونون أولى منهم بتهمة الكوزنة، ولكن تبادل الاتهامات والتخوين يصب في مصلحة الكيزان، ولا يجب ان يكون وسيلة نتخذها ضد مخالفي الرأي، وانما نناقش الرؤى والحجج دون وصف لأصحابها، خصوصا والكل يعلم ان السواد الأعظم لتقدم يعارض الفكرة، فهل تقدم كيزان وعملاء؟!!
ليطفف د. النور من خطر الانقسام، ادعى ان فصل جنوبنا الحبيب تم بواسطة قرار من الكيزان، فقد قال في مقاله (يعلم جميع السودانيين ماذا فعل الكيزان، حين قرروا فصل الجنوب)!!، وهو غير صحيح، فقد حارب الكيزان لعشرات السنين من أجل الاحتفاظ بالجنوب، وثرواته تحت قبضتهم، ولكن الانفصال تم غصبا عنهم، وكان خيارا عادلا، ومبررا لإخوتنا في جنوب البلاد، ولكن يمكن ان نقول ان الكيزان هم من تسببوا في الانفصال بممارساتهم، وهم من فرطوا في وحدة البلاد، ولكنهم قطعا لم يقرروا، وهم اليوم على استعداد لتمزيق البلاد لتحقيق ما يستطيعون من أهدافهم، ولا عاصم للبلاد من هذا الشر، سوى التحلي بالوعي اللازم، وتماسك الجبهة الداخلية، فذلك هو صمام الأمان، اما إقامة حكومة غير شرعية في مناطق الدعم السريع، فهو بمثابة تتويج لجهود الكيزان، وممارساتهم العنصرية، وكل ما يقومون به من طباعة عملة وغيره، فهم ساعون للانقسام، ولكن لن يتم لهم ذلك بدونا مساعدتنا (م. ن)، وهو ما من اجله يدفعونا دفعا لأحضان من صنعوه، ولا تزال عناصرهم في صفوفه، او يتبادلون الأدوار بين المعسكرين كخائن او بطل!!
د. النور في مقاله يعتبر ان الحرب هي الوسيلة الوحيدة لحل مشكلة السودان، ويصف كل من يعتقد غير ذلك بانه حالم!! وهو بذلك يُنكر كل ما علمنا إياه تاريخ الحروب الحديث، فما عادت الحروب، هي حروب الملوك التي تنتهي بقتل قائد أحد الجيشين، وانما قصاراها ان تقود الأطراف المتحاربة لطاولة المفاوضات، بل د. النور لينفر من الحل السلمي، ويشيطن جهود حقن الدماء، وصف التعامل مع المجتمع الدولي برزيلة التسول، والتي برأ الكيزان من ساحتها!! فقد قال في وصف جهود القوى المدنية (الكيزان لا يتسوَّلون الحلول لدى المجتمعين الإقليمي والدولي، مثلما تفعل ذلك القوى السياسية المدنية)!! هل أصبح التعامل مع الاسرة الدولية جريمة، ام هي محاولة أخرى لشيطنة القوى المدنية الرافضة لفكرة حكومة في مناطق سيطرة الدعم السريع؟!!! كل المجتمعات الراقية اليوم تتعامل مع الاسرة الدولية، وهو حق، بحكم الانتماء، وليس تسُّول، فمالكم كيف تحكمون!!
يخلُص د. النور من مقاله الى (إعلان الحكومة الموازية في الأراضي التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع هو الفرصة الوحيدة المتبقية لنزع زمام المبادرة من القوى الكيزانية. وهو الذي سيعجِّل بإيقاف الحرب وفرض خيار السلام) وأعتقد ان حساباته خاطئة، فقيام حكومة غير شرعية أخرى، سيمنح قدر من الشرعية لحكومة الكيزان، وسيوفر لهم دعما شعبيا ما كانوا ليحلموا به، بل ودعما خارجيا أيضا، وسيطيل ذلك من امد الحرب، والتي ستتسع رقعتها وتستعر، وسيدفع ثمن كل ذلك المواطن، خصوصا في مناطق الدعم السريع، فالدعم السريع لم يتمكن من حماية المواطنين في هذه المناطق، فاصبحوا هدفا لطيران الفلول، بل الدعم السريع غير قادر على المحافظة على الأراضي التي يحتلها عنوة، او تلك التي ينسحب منها الفلول، ومعلوم ان عودة الفلول لتلك المناطق يعني مزيد من انتهاكات الفلول، بل ان الدعم السريع غير قادر على السيطرة على منسوبيه، وخصوصا من يسميهم بالمتفلتين، فهو مليشيا تمارس حرب عصابات، وكثيرا ما تنسحب لتتوجه لمناطق أخرى، ولكن على ما يبدو ان د. النور يعلم ذلك، فهو لا يعول عليهم، ويدعو المدنيين للعمل المسلح، فقد قال في الفقرة الأخيرة من مقاله (. الحراك المدني الذي لا شوكة له، ولا أسنان، الذي ينتظر أن ينتزع الحقوق من قوةٍ شرسةٍ وديناميكيةٍ لا تبالي بشيءٍ، كقوة الكيزان، عن طريق الهتاف والمناشدة، حراكٌ حالم.)، فهل ينجح د. النور فيما فشل فيه الكيزان؟
لا شك أن الوضع شائك ومعقد، ويحتاج لأن تتضافر الجهود، وتتشابك الايادي لإيجاد حل عملي وموضوعي مقبول، ولكن قطعا ليس الحل المطروح في مقال د. النور، فهو يحل مشكلة الفلول، ويقضي على حلم الثوار، ولكن لحسن الحظ فان التاريخ مليء بالتجارب البشرية مما يصلح ان يكون حلا مقبولا، ومن ضمنها الحكومة الموازية، ولكن في وقتها وبأدواتها ووسائلها، وليست أن تكون مجرد حاضنة سياسية للدعم السريع، أما الكتلة المدنية المسماة بتقدم، فقد اختارت ميدانها المناسب للعمل اليوم، واظنها برعت فيه رغم اخفاقاتها الكثيرة، ورغم ما تلاقيه من تخوين، واتهامات، وما تعانيه من انقسامات داخلية، وقطعا ستطور أدائها، وتجدد ادواتها، متى ما كان الوقت ملائم لذلك، فلندعهم للعمل المدني والدبلوماسي، ولا نخونهم إن لم نقتنع بجهودهم، ولنقدر انهم يعملون بجد، ولم يكتفوا بمجرد التنظير، ونقد الاخرين.. ولإخواننا المتبنين فكرة الحكومة الموازية قضية، ولكنها قضية لا تخصهم وحدهم، وانما تخص كل سوداني وسودانية، وفرصة نجاحنا في حل قضايانا، هي العمل المشترك، واليقظة لإبطال كل مخططات الكيزان، ويقينا هم سيختبرون صبرنا بما يذيقونا من ألوان العذاب والمعاناة، فهي الام المخاض لميلاد صبح جديد.