الأطباء في غزة .. الخط الأول لإنقاذ الأرواح رغم انعدام الإمكانيات
تاريخ النشر: 14th, January 2025 GMT
بينما كانت الشابة ريم سعيد تجلس مع عائلتها في منزلها الصغير بمدينة غزة، تغيرت حياتها في لحظة. أصابت غارة جوية منزلهم، وأصيبت ريم بجروح بالغة في ساقيها. عندما وصلت إلى القسم الميداني في مستشفى الشفاء الطبي، كان النزيف شديدًا، وكانت فرصتها للبقاء على قيد الحياة ضئيلة.
لكن هناك، في غرفة عمليات بدائية تفتقر إلى معظم المعدات اللازمة، وقف الدكتور سامر غانم وفريقه الطبي مستعدين لتحدي المستحيل.
يقول الدكتور سامر لـ«عُمان»: «لم يكن لدينا سوى أدوات جراحية بسيطة ومولد كهربائي غير مستقر. كنا نعلم أن الوقت ليس في صالحنا». بعد أربع ساعات من العمل المتواصل، تمكن الفريق الطبي من إنقاذ حياة ريم، وأصبحت قصتها رمزًا للأمل في وجه المعاناة.
التحديات اليومية
يعاني الأطباء في غزة من نقص حاد في الموارد الطبية، حيث تُعد المستشفيات الميدانية خط الدفاع الأخير في وجه الكوارث الإنسانية. الدكتور أحمد السلمي، جراح عام يعمل في مستشفى الشفاء، يصف الوضع قائلاً خلال حديثه لـ«عُمان»: «نتعامل مع حالات حرجة يوميًا، ولكن المعدات الطبية الأساسية غالبًا ما تكون غير متوفرة. نضطر أحيانًا إلى استخدام أدوات بديلة أو تقنيات بدائية لإنقاذ الأرواح».
النقص لا يتوقف عند المعدات الطبية بل يمتد ليشمل الأدوية الأساسية مثل المسكنات والمضادات الحيوية. الدكتور فؤاد الحسن، طبيب طوارئ، يضيف لـ«عُمان»: «في إحدى المرات، اضطررنا إلى تقسيم جرعات الدواء بين المرضى، وهو خيار مؤلم لكنه ضروري. التحدي الأكبر هو اتخاذ قرارات صعبة في ظل هذه الظروف». كما أن المستلزمات اليومية، مثل الضمادات والقفازات، غالبًا ما تكون على وشك النفاد، مما يجبر الفرق الطبية على التفكير بطرق مبتكرة لتعويض هذا العجز.
إلى جانب نقص المعدات، يواجه الأطباء انقطاعًا متكررًا في التيار الكهربائي، مما يجعل من المستحيل الاعتماد على الأجهزة الحيوية مثل أجهزة التنفس الصناعي ومعدات التصوير بالأشعة.
تقول الدكتورة ليلى جابر، طبيبة تخدير: «في إحدى العمليات، انقطع التيار الكهربائي فجأة، واضطررنا إلى استخدام كشافات الهواتف المحمولة لاستكمال العملية. تلك اللحظة كانت من أصعب ما مررت به في حياتي المهنية». في بعض الحالات، يتم تشغيل مولدات الكهرباء يدويًا، وهو ما يستهلك وقتًا وجهدًا كبيرين في خضم العمليات الجراحية الطارئة.
بالإضافة إلى ذلك، تؤثر القيود المفروضة على دخول المساعدات الطبية إلى غزة بشكل كبير على قدرة المستشفيات على توفير الخدمات الأساسية.
يروي الدكتور محمود علي، مدير أحد المستشفيات الميدانية: «بعض المعدات التي نحتاجها بشدة يتم تأخير دخولها لأسابيع، وأحيانًا تصل بعد فوات الأوان بالنسبة لبعض المرضى».
ظروف العمل الميداني: بين الإحباط والتحدي
مع اشتداد حرب السابع من أكتوبر، أصبحت المستشفيات في غزة رمزًا للمأساة الإنسانية، وتحول الأطباء بأيديهم العارية إلى خط الدفاع الأول للحياة. المستشفى الأوروبي، الذي كان من بين أكثر المراكز الطبية تجهيزًا، تعرض لقصف جزئي، مما أدى إلى فقدان معظم معداته.
يقول الدكتور محمد الهمص، المتحدث باسم المستشفى لـ«عُمان»: «كنا نتعامل مع أكثر من 200 إصابة يوميًا، بينما تقلصت مساحتنا الفعلية للعمل إلى أقل من نصف ما كانت عليه بسبب الأضرار».
في مستشفى الشفاء، وُضع المصابون على الأرض بسبب امتلاء الأسرة. يصف الممرض خالد عطية الوضع قائلًا لـ«عُمان»: «كنا نعمل وسط الفوضى، لا توجد مساحة كافية حتى للحركة. كان علينا اتخاذ قرارات صعبة حول من يحصل على العلاج أولاً».
أجهزة التهوية القليلة كانت تُخصص للحالات الأكثر حرجًا فقط، بينما يُترك الباقون ليصارعوا الألم. في إحدى الحالات، كان على الأطباء إجراء عملية بتر في غرفة غير مهيأة بسبب عدم توفر غرفة عمليات متاحة. «كنا نعلم أن هذه ليست بيئة مناسبة لإجراء جراحة، لكن البديل كان خسارة حياة المريض»، يروي الدكتور عبد الرحمن الحاج، جراح العظام.
الضغط النفسي والجسدي
العمل في هذه الظروف يفرض ضغطًا نفسيًا هائلًا على الأطباء والممرضين. الدكتور سامي منصور، اختصاصي طوارئ، يحكي لـ«عُمان»: «عندما تستقبل عشرات المصابين دفعة واحدة بعد غارة جوية، تجد نفسك في معركة ضد الزمن. كل ثانية قد تعني حياة أو موت». رغم ذلك، يواصل الأطباء العمل لساعات طويلة دون راحة، مدفوعين بإحساس عميق بالمسؤولية.
الساعات الطويلة ليست التحدي الوحيد. فالأطباء يواجهون أيضًا نقصًا في الدعم النفسي والتدريب لمساعدتهم على التعامل مع الضغط المستمر. تقول الدكتورة ليلى قاسم: «العمل في هذه البيئة يؤدي إلى استنزاف نفسي كبير. في بعض الأحيان، أعود إلى المنزل وأجد نفسي غير قادرة على النوم بسبب التفكير في المرضى الذين لم أتمكن من إنقاذهم».
هذا الضغط يمتد إلى الممرضين والممرضات الذين يعملون جنبًا إلى جنب مع الأطباء. الممرضة سعاد خليل تقول لـ«عُمان»: «نحن نواجه مواقف صعبة يوميًا، مثل مشاهدة أطفال يعانون أو فقدان أحد المرضى أمام أعيننا بسبب نقص المعدات. لكننا نعلم أن دورنا مهم جدًا، وهذا ما يدفعنا للمضي قدمًا».
رغم هذه الظروف، يبدي الأطباء والممرضون روحًا عالية من التضحية والإصرار. الدكتور علاء أبو ناصر يختصر شعورهم قائلًا لـ«عُمان»: «نحن هنا لأننا نؤمن بأن لكل إنسان الحق في الحياة، بغض النظر عن الظروف». هذه الروح التضامنية تُعتبر العنصر الأساسي الذي يجعل النظام الصحي في غزة يصمد أمام كل هذه التحديات.
نجاح رغم المستحيل
إحدى أبرز القصص التي تسلط الضوء على شجاعة الأطباء في غزة تعود إلى الدكتور محمد توفيق، استشاري جراحة الشبكية والجسم الزجاجي من مصر، الذي تطوع للعمل في مستشفى غزة الأوروبي. في يوم واحد، أجرى الدكتور توفيق 33 عملية جراحية للعيون خلال 13 ساعة متواصلة، مستخدمًا غرفة عمليات وحيدة ومعدات شبه بدائية ومحدودة.
يوضح الدكتور توفيق لـ«عُمان» سبب إقدامه على ذلك: «الحالات التي دخلت في عيونها شظايا يجب إجراء العمليات لها في أقل من شهر، ولو انتظرت الحالة أكثر من ذلك، العين تتضرر بشكل كبير. في حالات كثيرة لها شهور منتظرة وغير قادرة توصل للخدمة، ونحاول على قدر الإمكان تنفيذ العمليات».
قصة أخرى تبرز بطولة الدكتورة هبة السعيد، اختصاصية أطفال، التي نجحت في إنقاذ حياة طفل حديث الولادة يعاني من اختناق حاد. تقول الدكتورة هبة أبو هلال لـ«عُمان»: «لم يكن لدينا جهاز تنفس صناعي يعمل، فاضطررنا إلى استخدام أنبوب يدوي للمساعدة في التنفس لمدة تزيد عن ساعتين. كانت تجربة مرهقة جسديًا، لكنها تستحق العناء».
العودة إلى الحياة من جديد
المرضى الذين واجهوا الموت وخرجوا أحياء يحملون شهادات تنبض بالأمل وسط المحنة. «لم أكن أتصور أنني سأعيش بعد إصابتي». يقول أحمد البنا، أحد الناجين من غارة استهدفت حي الزيتون في مدينة غزة. أُدخل أحمد إلى مستشفى ميداني مع إصابة بالغة في البطن، لكنه خرج بعد أسبوع معافى بفضل من الله و جهود الأطباء.
ريم، التي أُجريت لها عملية جراحية معقدة وسط ظروف قاسية، تُبين: «كنت أسمع صوت القصف وأنا تحت العملية. لم أعتقد أنهم سيتمكنون من إنقاذي، لكنهم فعلوا المستحيل».
محمد، طفل يبلغ من العمر 10 سنوات أصيب بشظايا في الرأس، يبتسم الآن وهو يلعب في ممر مستشفى الشفاء. والدته تقول لـ«عُمان»: «الأطباء هنا أبطال. لم يكن لديهم إلا معدات بسيطة، لكنهم أنقذوا حياة طفلي».
حلول مبتكرة
رغم التحديات، يسعى الأطباء في غزة إلى تطوير حلول مبتكرة. الدكتور إبراهيم عدنان، أخصائي جراحة عظام، يقول لـ«عُمان»: «نحن نتبادل المعرفة بشكل دائم ونتعلم من بعضنا البعض. أحيانًا نقوم بتدريب الفرق الميدانية على استخدام تقنيات بديلة للتعامل مع نقص المعدات».
إحدى هذه المبادرات كانت ورشة عمل نظمتها مجموعة من الأطباء لتعليم فرق التمريض كيفية استخدام مواد محلية الصنع؛ لتعويض نقص الضمادات الطبية. تقول الممرضة نادية أبو عيسى لـ«عُمان»: «تعلمنا كيفية الاستفادة من أبسط الأشياء لإنقاذ الأرواح. هذا التعاون يجعلنا نشعر بأننا لسنا وحدنا في هذه المعركة».
أيضًا يلعب المجتمع المحلي دورًا هامًا في دعم الفرق الطبية. فهناك مبادرات تطوعية لتوفير الأدوات والمستلزمات الطبية البسيطة. يقول الدكتور سامر غانم لـ«عُمان»: «دعم الأهالي يعطينا دفعة معنوية كبيرة. حتى في ظل أصعب الظروف، نجد أن التعاون هو مفتاح النجاح».
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الأطباء فی غزة مستشفى الشفاء فی مستشفى لـ ع مان
إقرأ أيضاً:
قول باذخ الطهر زاهي اللون
د. قاسم بن محمد الصالحي
في يوم من أيامي التي خصصتها لحفيدي "القاسم" تجمّعت في ذهنه صور طرقات وشوارع المدن والقرى بألبستها الزاهية المشكلة من ألوان الطبيعة، وقد تعممت هالاتها المليئة بالتخطيط والتنمية الحضرية المتسارعة، وحمل كل زقاق بين أرصفته حصته من التجميل بالأشجار والأزهار المليئة بالحياة.. وبينما كان حفيدي منهمكاً بطرح عديد الأسئلة فاجأني يا إلهي هذه جرارات وشاحنات.. لا أعرف أين توجه تفكيري بسؤاله هذا؟، تنهدت بعمق وأنا أنظر إليه باسمًا، أغمضت عيني وأنا أشعر بكم هائل من الغبطة والانزعاج في آن، مسحت على رأسه متأملًا تفكيره الصغير المُنتشي برؤية ألعابه الصغيرة في حجمها الحقيقي.
إن انتشاء حفيدي بمنظر المعدّات والشاحنات بصورة عشوائية على جانبي الطريق، بالنسبة له ممتع ومصدر سعادة، ففي كل صباح يلعب بمجسماتها في البيت وينثر عليها حياته الطفولية، لكن لم يمر وقت طويل حتى وصلنا إلى وجهتنا، أنزلته ليلعب مع الأطفال، وجلست انتظره احتسي فنجان قهوة، لحظات؛ خلسة تدخل سؤال حفيدي ليسرق شيئاً من تفكيري مسكت قلمي، قلت مهلًا.. لقد شد تأثير وقوف المعدّات الثقيلة في المناطق السكنية والتجارية انتباهي، لأن وقوفها يمثل تحديًا كبيرًا نظرًا للكثافة السكانية والحركة التجارية النشطة، ومظهر يشوه جهود خدمات البلديات التي تهذب الحالة الرمادية في العمران.
هذه المناطق تتطلب ضمان السلامة وجودة الحياة، دون تأثير على الحياة الاجتماعية والنشاط الاقتصادي، وأصوات المعدات الثقيلة وانبعاثاتها تؤثر سلبًا على راحة السكان وجودة الهواء، وتشكل خطرًا على الأطفال والمشاة، خاصة بالقرب من المدارس والمرافق العامة، كما أن الأرصفة والطرق السكنية ليست مصممة لتحمل الأوزان الثقيلة، مما يؤدي إلى هبوط الطرق وتلفها، وتؤثر على المظهر الجمالي للحي السكني، مما يقلل من قيمته العقارية.. وقوف المعدّات الثقيلة يعيق حركة المتسوقين والموردين، مما قد يضر بأنشطة الأعمال، وتعيق انسيابية حركة المرور في الشوارع التجارية المزدحمة، ما يؤدي إلى تأخير العملاء وتقليل المبيعات، وتضييق ممرات الطوارئ، مما قد يعيق وصول الخدمات مثل الإسعاف والدفاع المدني.
كل تلك التأثيرات السلبية أثارت قلمي وجعلتني أجول في حلول تنظيمية لتطوير وقوف المعدات الثقيلة العشوائية المنتشرة في المناطق السكنية والتجارية على واجهات الشوارع العامة والأحياء السكنية والتجارية معروضة وكأنها سلعة للبيع والشراء، في حين أن هذه المعدات مكانها مساحات محددة مخصصة لوقوفها، وانطلاق عملها منها، وتحديد أوقات التشغيل والوقوف، ومنع وقوفها في المناطق السكنية خلال ساعات الليل أو أوقات الذروة، مما يتطلب فرض غرامات مالية صارمة على المخالفين مع استخدام التكنولوجيا لمراقبة الالتزام، وتطوير لوائح تنظيمية خاصة بكل منطقة، تراعي طبيعتها السكنية أو التجارية، وزيادة حملات توعية السائقين والمقاولين، وضبط استخدام المعدات الثقيلة وفقًا للقوانين.
إن قول "باذخ الطهر، زاهي اللون"، الذي أثاره حفيدي؛ جعلني أطرح معالجة مشكلة وقوف المعدات الثقيلة العشوائية في المناطق السكنية والتجارية وهي "ظاهرة لا تليق بجمالية مدننا"، وتتطلب حلولًا وتعاونًا مجتمعيًا ومؤسسيًا لضمان الامتثال وتحقيق التنمية المستدامة.