قصة قصيرة / كتبها: أبو زين ناصر الوليدي
كعادتي أخرج من البيت بعد العصر، وأستفرغ طاقتي في اللعب مع الأطفال اللذين هم في سني أو يقاربونه، لم تكن لنا آنذاك هذه الأنواع المختلفة من الكرات، كنا نحصل على أي كرة فنلعب بها، صغيرة أو كبيرة، وحين لا نملك الكرة علينا أن نصنعها من لفائف الورق وبقايا الجلود.
لازلت أتذكر تلك الكرة التي كنت ألعب بها ذلك اليوم، وكيف أنساها وأنا ما نسيت حتى لون شمس ذلك اليوم، ولا ذرات الغبار التي كانت محلقة في سمائه، ولا الأوراق التي كانت تعبث بها الريح؟
حتى الأخشاب وبقايا الحطب لازلت أذكر أشكالها وأماكنها.
أنهكني التعب بعد مطاردة تلك الكرة الصغيرة، وجنحت إلى الراحة والاسترخاء في جانب الشارع الترابي، وهناك قريبًا من بيت العم أحمد العولقي جلست لاهثًا، فمددت رجلي واتكأت على يدي، ورفعت وجهي نحو السماء باحثًا عن الهواء لأملأ به رئتي المرهقتين من طول اللعب وكثرة الجري.
كان الشارع ممتلئًا بالأطفال ممن هم في سني وممن هم أكبر وأصغر مني، وكانت هناك حلقة لبعض النساء في ظل جدار يتبادلن الحديث ويقتتن الكلام.
يا إلهي ما الذي جرى؟
لم تكن اللحظات تسمح بالاستفسار، وجدت نفسي أمام الموت وجهًا لوجه، لم يترك لي فرصة للهرب.
انطلقت (الحراثة) إلى الوراء تنتهب الأرض نهبًا وعليها عدد من الأطفال، أحاط بها الصراخ من كل مكان، حاولت النساء إنزال الأطفال من الحراثة، لكن كان الفشل حليفهن في كل محاولة، فسرعة الحراثة وجنونها وضعف النساء والخوف لم يسمح بذلك.
أفقت على الحراثة وهي متجهة نحوي بكل جنون، رأيت الأطفال بين أيدي النساء التي تحاول إنقاذهم، رأيت (محمدًا) ابن عمي وهو يعجز عن الاستمساك بحديدة الحراثة فسقط قريبًا مني، أما أنا فقد استسلمت للموت، لأن الحراثة لم تترك لي مهربًا، لا أدري لماذا تمددت أرضًا؟ هل هو الوجل أم الاستسلام أم هي عناية الله؟
وجدت نفسي تحت عجلة الحراثة الخلفية، لكن لم يمسسني منها شيء فقد توسطت بين العجلتين الخلفيتين الكبيرتين في معجزة ربانية وعناية إلهية.
لكن...
في هذه اللحظة بالذات وأنا تحت الحراثة سقط محمد تحت العجلة الخلفية التي عن يميني، كنت ممددًا على الأرض فسمعت العجلة تكسر أضلاعه وتدوس على بطنه في لحظات مرت كمرور البرق، ثم تأتي العجلات الأمامية فينجيني الله منهما، ويمران عن يميني وشمالي وأنا مستلق بينهما وبالسرعة والقوة والقسوة نفسها يمران على جسد محمد، فتسيل الدماء وتصيب ثيابي.
وبعدها تتعثر الحراثة في بعض الأحجار لتنتزع النسوة من تبقى من الأطفال على ظهرها، ثم تنطلق بعيدًا ليس عليها أحد تلاحقها اللعنات حتى وقعت في حفرة منعتها من الحركة، فمازالت تحفر حتى وقفت.
كانت بعض النساء تظن أن الدماء تسيل من جسدي، ولكن بمجرد خروجي السريع من تحت صدر الحراثة وقفت خائفًا أنظر إلى ابن عمي وهو بين يدي عجوز أدخلته إلى بيت العم أحمد العولقي ليفارق الحياة بعد بضع دقائق.
علا الصراخ القرية، وتجمع الناس، وحضرت الشرطة بعد ساعة من الحدث، كان الحزن والوجوم والخوف يتغشى قريتنا الصغيرة، وكانت الشمس تزحف نحو الغروب ببطيء، وخرج كل من في القرية إلى الشارع، وجاء رجال ونساء من القرى المجاورة.
وكما هي العادة تجمع عدد كبير من النساء في بيتنا الكبير، نسي الناس مع ألم الموت والحزن وهول الواقعة نسوا أن هناك طفلًا خائفًا مذعورًا نجا من الموت بأعجوبة، ولأنه لم يصب بأذى لم يلتفتوا إليه.
حتى أمه لم تكن تظن أنه يحتاج عناية فقد ابتلعتها أكوام النساء، مع أعمال استقبال المعزيات وصراخ الباكيات.
لم أرَ أمّي، ولم أنم في غرفتنا المعتادة بين أمي وإخوتي لمدة أسبوع.
كانت أيام حزن وخوف وأحلام مزعجة، كنت آوى إلى فراشي بين عدد كبير من أبناء أعمامي والأطفال الذين قدموا مع أمهاتهم للعزاء، ما أن أضع رأسي على الفراش ويبدأ النوم يداعب أجفاني حتى أسمع صوت العجلة وهي تدوس جسد محمد فأجلس فزعًا، ألتفت يمينًا وشمالًا وكأني أرى الحراثة تركض داخل الغرفة، ومحمد يصرخ بأعلى صوته طلبًا للمساعدة، وربما أستيقظ أحيانًا منتصف الليل على صوت العجلة وهي تدوس جسد الطفل المسكين، وكنت ربما أحتاج شربة ماء فيمنعني الخوف من البحث عنها في الليل المظلم.
مرت الأيام وتلاشت الحادثة رويدًا رويدًا، لكن ظلال ذلك اليوم لايزال يزورني الفينة بعد الأخرى.
العجيب في الأمر أن أعمامي مصرون على أن العجلات لم تدس جسد محمد، وأنه مات بسبب ضربة من حديدة عند أذنه، أما أنا فلازلت مستمسكا بروايتي، فقد كنت أقرب شخص إليه، ورأيت العجلتين تعتلي جسده الصغير وسمعت صوت هشهشت عظامه بأذنيَّ الصغيرتين.
*من كتابي كريستيانا الفاتنة*
.
المصدر: عدن الغد
إقرأ أيضاً:
محمد الباز: جبهة الإعلام هي حائط صد أمام الشائعات التي يتم ترويجها ضد الدولة المصرية
قال الكاتب الصحفي محمد الباز، رئيس تحرير جريدة الدستور، إن هناك عصابة تمارس كل ما تمتلكه من أسلحة ضد الدولة، لافتاً إلى أن مصر تواجه حرب الشائعات بعد ثورة 30 يونيو.
وأضاف الباز خلال مداخلة هاتفية مع الإعلامي "مصطفى بكري"، في برنامج "حقائق وأسرار" على قناة "صدى البلد" أن هدف الجماعة الإرهابية تخريب الجبهة الداخلية لتمرير مبتغاهم داخل الدولة المصرية وتنفيذ مخططهم، موضحاً أن المتآمرين يريدون ضرب الجبهة الداخلية من خلال هدم القيم الأصيلة. مؤكدا أن جبهة الإعلام هي حائط صد أمام الشائعات التي يتم ترويجها ضد الدولة المصرية
وأوضح أنه كان هناك مرحلتين للجماعة الإرهابية في حربها ضد الدولة المصرية، أولاً استخدام القوة الصلبة لكسر الجيش من خلال الجماعة المسلحة والإرهاب، ولكن الجيش المصري والشرطة استطاعوا دحرهم، والمرحلة الثانية هي القوة الناعمة عبر تخريب الجبهة الداخلية من خلال بث الشائعات والأكاذيب للتفرقة بين الجيش والشرطة ومؤسسات الدول المصرية الوطنية.
وأشار الكاتب الصحفي، إلى أن منصات الإخوان الآن تعمل حفلات زار جنونية لترويج الشائعات ضد الدولة المصرية وضد الإعلام، والكلام الذي لا أصل له، موضحاً أن سلاح الإعلام لا يختلف عن سلاح الجيش والشرطة في الدفاع عن الدولة المصرية.