تمهيد تاريخي للصراع العرقي

السودان، بلد يمتد عبر مساحات جغرافية شاسعة، يشهد تنوعًا ثقافيًا وعرقيًا فريدًا. ومع ذلك، فإن هذا التنوع الذي يمكن أن يكون مصدر قوة، أصبح في كثير من الأحيان مصدراً لصراعات عرقية عنيفة. يرجع هذا إلى تداخل عوامل تاريخية، اجتماعية، وسياسية أثرت على طبيعة العلاقة بين المكونات السكانية المختلفة.


منذ العصور القديمة، كان السودان موطنًا لحضارات أفريقية عظيمة مثل مملكة كوش ونبتة، حيث ازدهرت الثقافة الأفريقية في ظل مجتمعات زراعية مستقرة. مع دخول الإسلام والعروبة تدريجيًا عبر القرون، بدأت تظهر طبقات جديدة من الهوية الثقافية. إلا أن الهيمنة السياسية والثقافية للمجموعات التي تُعرِّف نفسها كعربية على حساب السكان الأصليين غذت إحساسًا بالتمييز والتهميش.
محطات تاريخية للصراع
الاستعمار البريطاني انتهج سياسة "الإدارة غير المباشرة"، حيث عزز الانقسامات العرقية والجغرافية عبر عزل جنوب السودان ودارفور عن الشمال. هذا التوجه أدى إلى تعميق الفجوات الثقافية والاجتماعية بين المكونات السكانية.
مع استقلال السودان، سيطرت النخب المركزية ذات الهوية العربية والإسلامية على الدولة، مما أدى إلى تهميش المناطق ذات الأغلبية الأفريقية. هذا التهميش السياسي والاقتصادي كان الشرارة الأولى لنشوء الحروب الأهلية.
في واحدة من أكثر النزاعات دموية، استُخدمت ميليشيات "الجنجويد" المدعومة من الحكومة السودانية لتنفيذ عمليات تطهير عرقي ضد المجتمعات الأفريقية في دارفور. شملت هذه العمليات التهجير القسري، القتل الجماعي، واستهداف البنية التحتية المجتمعية.
المناطق الأخرى مثل جبال النوبة والنيل الأزرق شهدت حروبًا طويلة بسبب مطالب السكان الأصليين بالمساواة في الحقوق والاعتراف بهويتهم الثقافية، مما أدى إلى استمرار العنف لعقود.
الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية للصراع
الصراع على الموارد، حيث الطبيعة الزراعية والرعوية للسودان جعلت التنافس على الأراضي الخصبة والمياه أحد الأسباب الرئيسية للصراعات. الجفاف والتغيرات المناخية زادت من تفاقم هذه النزاعات.
التهميش الاقتصادي، حيث ركزت الحكومات المتعاقبة على تنمية المناطق المركزية مثل الخرطوم، بينما ظلت المناطق المهمشة تعاني من نقص الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة.
تداخل الهويات الثقافية بين "العربية" و"الأفريقية" أدى إلى نشوء مفهوم زائف للتفوق العرقي، حيث ارتبطت الهوية العربية بالسلطة، بينما عُوملت الهوية الأفريقية بازدراء.
التطهير العرقي: ذروة الصراع
تجسد التطهير العرقي في دارفور ذروة العنف العرقي بالسودان. استُهدفت المجتمعات الأفريقية بشكل منهجي بحملات عسكرية شرسة. أُحرقت آلاف القرى وقُتل مئات الآلاف من المدنيين. نزح ملايين الأشخاص إلى معسكرات اللاجئين، داخل السودان وخارجه. شملت الانتهاكات عمليات اغتصاب واسعة النطاق كوسيلة لإذلال المجتمعات المستهدفة.
دور القوى الخارجية
لعبت القوى الإقليمية والدولية دورًا متباينًا في تأجيج الصراعات أو محاولة حلها. قُدمت الأسلحة والدعم المالي للأطراف المتصارعة من قِبل قوى خارجية لتعزيز نفوذها الإقليمي. على الرغم من الجهود الدولية، لم تنجح بعثات الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية في إنهاء المعاناة بشكل جذري.
حلول للخروج من الأزمة
تبني مفهوم الهوية المتعددة يحتاج السودان إلى الاعتراف بالتنوع الثقافي والعرقي كجزء من هويته الوطنية.
العدالة الانتقالية يجب تقديم المسؤولين عن الجرائم ضد الإنسانية إلى العدالة لضمان عدم تكرار هذه الانتهاكات.
إعادة توزيع الموارد لتحقيق التنمية المتوازنة بين جميع الأقاليم لضمان العدالة الاجتماعية.
تعزيز الحكم المحلي من خلال نقل المزيد من السلطات إلى الحكومات الإقليمية لتمكين المجتمعات المحلية من إدارة شؤونها.
تعزيز التعليم والتوعية بالتركيز على التثقيف حول أهمية التعايش السلمي وقبول الآخر.
الصراع العرقي في السودان ليس نتاج صدفة، بل هو نتيجة لتراكمات تاريخية وسياسية طويلة. ومع ذلك، فإن السودان يمتلك الفرصة لتحويل هذا التحدي إلى نقطة انطلاق نحو بناء دولة قائمة على العدالة، المساواة، واحترام التنوع. يتطلب الأمر إرادة سياسية صادقة وحوارًا وطنيًا شاملاً يُشرك الجميع في صياغة مستقبل يتجاوز الانقسامات نحو السلام الدائم.

zuhair.osman@aol.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: أدى إلى

إقرأ أيضاً:

قصور الثقافة تكرّم الأديب محمد عبد الله الهادي في العودة إلى الجذور بالزقازيق

عقد بقصر ثقافة الزقازيق، الإثنين، لقاء أدبي، احتفاءً بمسيرة الأديب الكبير محمد عبد الله الهادي وتجربته الإبداعية، ضمن برنامج «العودة إلى الجذور»، الذي تنظمه الهيئة العامة لقصور الثقافة، بإشراف الكاتب محمد ناصف، نائب رئيس الهيئة، وفي إطار برامج وزارة الثقافة.

شهد اللقاء حضور الشاعر الدكتور مسعود شومان، رئيس الإدارة المركزية للشئون الثقافية، وشارك به الدكتور محمد عبد الحليم غنيم، والأديب العربي عبد الوهاب ولفيف من الشعراء والأدباء والمثقفين من أبناء محافظة الشرقية.

تكريم الأديب محمد عبد الله الهادي

بدأت فعاليات اللقاء بكلمة الأديب والناقد محمد الديب، رئيس نادي أدب قصر ثقافة الزقازيق، الذي أدار اللقاء، متناولا السيرة الذاتية للأديب المحتفى به وتجربته الشعرية، وأهم مؤلفاته من كتب ومجموعات قصصية.

وأعرب الدكتور مسعود شومان عن سعادته لتواجده بمحافظة الشرقية وسط مبدعيها لتكريم أديب كبير له تاريخ وسيرة حافلة هو الكاتب الكبير محمد عبد الله الهادي، قائلا: حين نقيم هذا التكريم فإننا نكرم أنفسنا ونكرم القيمة والإبداع الفارق الذي تجاوز فكرة جغرافيته مع الاحتفاظ بها من جملة عادات وتقاليد، فمن قرأ عملا واحدا له سيدرك إدراكا عميقا أن هذا الرجل منتمي لهذا المكان وسيكتشف أن له بصمته الإبداعية في عالم السرد.

تكريم الأديب محمد عبد الله الهادي

وتناول الدكتور غنيم السيرة الإبداعية للأديب محمد عبد الله الهادي، متحدثا عن العوامل التي أثرت في حياة الأديب قائلا: يعد الروائي محمد عبد الله الهادي أحد أبرز المبدعين الذين لم يحظوا بالاهتمام النقدي الذي يتناسب مع قيمتهم الإبداعية، فهذا الكاتب قدم الكثير من القصص القصيرة وله إنتاج روائي غزير يؤكد تفرده، ومن يقرأ له يلاحظ أن له عالم خيالي خاص، تتماسك فيه الشخصيات ببراعة، علاوة على اتخاذه من البيئة المصرية محافظة الشرقية منطلقا، وهى نفس البيئة التي انطلق منها الروائي يوسف إدريس، عبقري القصة العربية بلا منازع، لذلك لن نتعجب إذا ما وجدنا بعض أوجه التشابه بين الكاتبين، وخاصة في الأسلوب.

وتناول الأديب العربي عبد الوهاب، تفاصيل المشروع السردي الكبير للهادي، من بداية أول مجموعة له بعنوان «عيون الدهشة والحيرة»، بالإضافة إلى مجموعاته القصصية والروايات المتعددة، قائلا: اهتم كثيرا بأعماله وكتبت عنه العديد من الدراسات النقدية، ولا ننسى رواية «عصا أبنوس ذات مقبض ذهبي» التي قدّم فيها تجربة المثقف السوري المغترب في بلاد الخليج وتعرض لتجربة قاسية من الانكسار الإنساني، مشيرا إلى أنه على الرغم من كونها رواية قصيرة لكنها تتميز برهافة عالية وبراعة في السرد، الأمر الذي جعلها أشبه بقطعة ذهبية براقة.

ثم توالت الشهادات الإبداعية لكل من د.كارم محمود، الشاعر السيد النماس، الأديب محمد جابر الحديدي، الناقد مجدي جعفر، الأديب عبد العزيز دياب، والشعراء محمود إبراهيم، محمود رمضان، فرج السكري، والناقد بهاء الصالحي، وغيرهم من الأدباء والمبدعين.

تكريم الأديب محمد عبد الله الهادي

ومن ناحيته قدم الأديب محمد عبد الله الهادي الشكر والتقدير لقيادات الثقافة ومن سعوا لهذه الاحتفالية، وأعرب عن سعادته البالغة بهذا التكريم، وبحضور المبدع الدكتور مسعود شومان و أشار إلى موضوع الجوائز الكثيرة التي حصل عليه قائلا: أنه لم يسع في يوم ما إلى جائزة وهذا يرجع إلى الإنتاج الغزير الذي أكتبه فما نشرته قليل من كثير، واختتم الحديث بتقديم الشكر للحضور على الاحتفاء بتجربته الإبداعية.

واختتمت الفعاليات بتكريم الأديب الكبير بشهادة تقدير ودرع من الهيئة العامة لقصور الثقافة، تقديرا لإسهاماته الأدبية المميزة، بحضور نخبة من النقاد والأدباء وعدد من محبيه.

محمد عبد الله الهادي، أديب وروائي، مواليد 1953، التحق بكلية الزراعة، وهو عضو نقابة الزراعيين، واتحاد الكتّاب ونادي القصة. أسس نادي أدب فاقوس، وعمل رئيسا لنادي الأدب المركزي بمحافظة الشرقية.

ومن أهم أعماله الروائية: أنشودة الأيام الآتية، الأحلام تتداعى وضباب الفجر، العبد، كم أن له عدة مجموعات قصصية من أبرزها: الحكاية وما فيها، حلقة ذكر، امرأة وألف وجه، الخيمة والعاصفة، خيول النهر، أصابع العبد، بالإضافة إلى كتابي «الشغالة الذكية» و «الشاطر حسن وست الحسن والجمال» عن سلسلة قطر الندى لأطفال.

نشر الأديب محمد عبد الله الهادي الكثير من المقالات النقدية، وله عدة كتابات مسرحية، واستطاع أن يحصد الكثير من الجوائز أهمها: جائزة المسابقة الأدبية لإقليم شرق الدلتا الثقافي في القصة القصيرة والمسرحية ذات الفصل الواحد، جائزة إحسان عبد القدوس في القصة القصيرة، جائزة الإبداع الأدبي والفني في القصة القصيرة من القوات المسلحة، جائزة "يوسف السباعي للنقد القصصي" من المجلس الأعلى للثقافة، وجائزة إذاعة صوت العرب في القصة القصيرة، وغيرها.

برنامج «العودة إلى الجذور» أطلقته الإدارة المركزية للشئون الثقافية، ويهدف البرنامج إلى إلقاء الضوء على سيرة ومسيرة كبار الكتاب وتقديم شهادات حول علاقة تجاربهم الإبداعية بالمكان وتراثه عبر العودة إلى جذورهم، وقام بتنفيذ الفعالية الإدارة العامة للثقافة العامة، بالتعاون مع إقليم شرق الدلتا الثقافي، بإشراف الشاعر أحمد سامي خاطر، وفرع ثقافة الشرقية.

اقرأ أيضاًعمرو البسيونى: مبادرة «المليون كتاب» إهداء من وزارة الثقافة لشعب مصر

الخميس.. الثقافة تقدم الموسم الثاني من العرض المسرحي «ذات.. والرداء الأحمر»

تكريم الشيخ ياسين التهامي في احتفالية «يوم الثقافة»

مقالات مشابهة

  • السودان: «تمازج» تدعو لتحرك دولي عاجل لوقف جرائم الحرب والتطهير العرقي في ودمدني
  • قصور الثقافة تكرّم الأديب محمد عبد الله الهادي في العودة إلى الجذور بالزقازيق
  • السودان الجديد: لوحة فسيفسائية من التنوع والتحديات الاجتماعية
  • الرئيس الموريتاني يكشف موقفه من الصراع في السودان
  • عن الجذور الحضارية والاجتماعية بين عُمان والبحرين
  • الرئيس السيسي: التطور التكنولوجي يُعتبر قاطرة التقدم في الدول
  • جولة البرهان الأفريقية مناورة أم قطع للطريق أمام حميدتي؟
  • البرهان: دول استعمارية تغذي الصراعات في القارة الأفريقية
  • قرقاش: التحولات الجسيمة في المنطقة تتطلب الحكمة والحوار